ويُبادر (صلاح الدين) فيَحمِل (راجي) مُهروِلًا به إلى غرفة المستعجلات، وفي داخِلها تُسارِع الطبيبة إلى تقديم ما في وُسعها من إسعافات، لزميلنا الذي كابَدَ الأهوال، مما لا تَفِي بوصفه الأقوال، وبينا نحن في قاعة الانتظار، وقد تقطَّعت الأنفاس ولم يقر لها قرار؛ تلهُّفًا لسماع خبر تَسكُن له الخواطر، وتزول معه غُصَّة الحناجر؛ إذ بالطبيبة تخرُج إلينا لتُبشِّرنا بأن العافية بدأتْ تدبُّ إليه، وانقَشَع ما كان قد ألَمَّ به من ضِيق في النفس وعكه، وذهول ما أدركه؛ وقد أبدت الطبيبةُ ارتياحَها لما عَمَدنا إليه؛ حيث أسرَعْنا بـ(راجي) إلى المستشفى، ولم نَقِف منتظرين سيارة الإسعاف؛ خوفًا من تأخرها لبُعد المسافة، ولم يكن ذلك إلا بتوفيق من الله العزيز الغافر، فانقلبنا بفضل منه غامِر.
ثم أذِنَتْ لنا الطبيبة برؤية زميلِنا، فدَلفْنَا إلى الغرفة القابع فيها؛ لنزداد اطمئنانًا عليه، ويستأنس بنا، فنرى الابتسامة على مُحيَّاه، ونسمع نبضات قلبه المُشعِّ بالمحبة إلينا، وأنَّى للكلمات أن تُسعِفه وقتها في تقديم الشكر إلينا؟ الذي لسنا في حاجة إلى سماعِه، بقدر ما نحن في حاجة إلى الاعتبارِ بما حصل أمام أنظارنا، من عِبرة تدلُّ على قدرة الله القادرة، وآياته الدالة الباهرة، وذلك في شخصِ زميلنا، وكأنها توحي لنا بإشارات يَلمَحها اللبيب، ويتَّعظ بها الأريب، ومُفادُها أن سفرَنا الذي كان من أجل تقديم العزاء، كاد أن تكون عودتُنا منه بعزاء آخر، وكنا على وَشْك أن يصير حالُنا إلى أن نرثِيَه من مآقينا بحرارة الدمعة، وشدة اللَّوْعة؛ فقد كان لِما أبصرناه وَقْعٌ في قلوبنا، وهزَّة في نفوسنا؛ فيُذكِّرنا ذاك السفر أننا حتمًا إلى الله سنُسافر، وأن الموت قد يسطو من حيث لا ندري، فلقد أرانا الله تعالى في زميلنا آيةً من آياته.
لقد لَبِس (راجي) ثوبَ العافية، فحمدنا الله تعالى على سلامته، وكان الذي اعتراه رسالةً ذات إيماءات لنا؛ حتى نعتبر، ونُجدِّد إيماننا ونستغفر، ولقد زُرناه في بيته بمَعِيَّة والديَّ الكريمين حفظهما الله تعالى، فكان مما أخبرَنا به في تلك الزيارة، أنه لما كان مُستلقِيًا على الثرى، والروحُ متعلِّقة بالذي بَرَى، أبصَرَ ما لم نرَه في دنيا الورى، فلقد أبصَرَ رجلًا يُعانِق السماء بطوله، عليه ثيابٌ بِيض، يمشي على مرأى منه، يغدو ويروح، وإن كنا قد أحَطْنا به - إذ ذاك - إحاطةَ السِّوار بالمِعصَم، فإنه لم يكن يُبصِرنا، بل أبصَرَ مكاننا رجالًا يَلبَسُون نفس لباس ذاك الرجل الفارع الطول؛ هكذا وَصَف لنا زميلُنا ما رآه لَمَّا انكشفت له عينُ الحقيقة، فكان بحقٍّ ممن أراهم الله تعالى ذاك العالَم العُلويَّ، عالَم الغيب الذي نحن مُقبِلون عليه، لنتذكَّر أننا عن الدنيا راحلون، وأننا إلى الله عز وجل مسافرون، وسبحان القائل: ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83]!
لقد حمدنا اللهَ تعالى على سلامة زميلنا، ولا نقول: إنَّ حبال المنايا قد أخطأتْ طريقَها إليه، بل إنها نبَّهتْه ونبَّهتْنا معه؛ ليُفِيق كلٌّ منا مِن غَفْلته.
إنا مضَيْنا بعد ذلك إلى حال سبيلنا، ولكن الذي شَهِدناه في تلك الآونة ما زال راسخًا في ذاكرتنا، يَعمَل فينا عملَه، وأملُنا أن يظلَّ دائم المسِّ لشغاف القلوب، مثيرًا لدَينا كوامن الوجدان؛ للتعلُّق بالملك الديان، بتَعاقُب المَلَوَين؛ حتى لا يعود الغافلُ منا إلى سالِف حياته، ويمارس سيِّئ عاداته؛ إذ إنَّ ما ينبغي أنْ نتذكَّره هو أنَّ عُمرَنا أشبهُ بكَنز ينسلِخ من بين أيدينا مع الليالي والأيام، فهو في نُقصان وفناء، ليأتي الموت على الأحياء؛ لأنه مَنهَلٌ حَتْمٌ على كل كائن، فهناك من لَبَّى نداء الموت، ومنهم مَن سيلبِّيه؛ وتراني أشدو ببيتٍ من الشعر:
فلا تَبْعَدَنْ إنَّ المنيَّة موعد ♦♦♦ علينا فدانٍ للطُّلوع وطالعُ[2]
لقد كان سفرنا هذا - بحق - سفرًا أيَّ سَفَر، إنه عِظة وعِبرة لمن اعتَبَر.
[1] صَرَعَه وغَلَبَه.
[2] من قصيدة للَبِيد بن ربيعة العامريِّ؛ ومعنى البيت الذي أوردتُه: هو أنَّ مِن الناس من لَبَّى نداء الموت، ومنهم مَن سيُلبِّيه.