سلسلة كيف نفهم القرآن؟[1]
رامي حنفي محمود
تفسير الربع السادس من سورة الأنعام بأسلوب بسيط
الآية 95: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾: يعني: إن اللهَ تعالى وحده هو الذي يَشُقّ الحَب فيَخرج منه الزرع، ويَشُقّ النَوَى فيَخرج منه الشجر والنخل، وهو سبحانه الذي ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ كإخراج الزرع من الحَب، والمؤمن من الكافر، ﴿ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾: أي وهو سبحانه مُخرِجُ الميتِ من الحي كإخراج البيض من الدجاج، والكافر من المؤمن، ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ ﴾: أي: فاعلُ ذلك كله هو الله سبحانه تعالى، المستحق وحده للعبادة، ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾: يعني فكيف تُصْرَفون عن توحيد الله تعالى - الذي هذه قُدْرَته - إلى عبادة مَن لا يَخلق شيئاً؟
♦ واعلم أن الله تعالى قال: ﴿ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ ولم يقل: ﴿ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾، لأنّ اللفظ: ﴿ مُخْرِجُ ﴾ معطوفٌ على قوله تعالى: ﴿ فَالِقُ ﴾، ولذلك جاء بنفس صيغته، ولم يأتِ بصيغة الفِعل: ﴿ يُخْرِجُ ﴾، وأما قوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾، فهو كالبيان والتفسير لقوله: ﴿ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾، لأنّ فلْق الحب والنوى ﴿ اليابِسَيْن ﴾، وإخراج النبات والشجر منهما هو صورة من صور إخراج الحي من الميت، ولذلك جاء بصيغة الفِعل للتفسير والبيان.
الآية 96: ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ﴾: يعني والله تعالى هو الذي شق ضياء الصباح من داخل ظلام الليل، ﴿ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ﴾: أي مستقرًا، ففيه يَسكن الناس ويَخلدون للراحة، ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ﴾: أي وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحسابٍ مُتقَنٌ مُقدَّر، لا يتغير ولا يضطرب، (واعلم أن الحُسبان: جمع حساب، مثل: شِهاب وشُهبان)، والمعنى أن الله جعل سَيْر الشمس والقمر بحسابٍ لا يزيد ولا ينقص، حتى يَعرفَ الناسُ أوقات الأيام والليالي والشهور والسنين، وما يتوقف على ذلك مِن عباداتٍ وأعمالٍ وآجالٍ وحقوق، ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾: أي ذلك إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره، العليم بأحوال عباده وحاجاتهم، وقد فعل ذلك من أجلهم، فكيف إذاً لا يستحق عبادتهم له؟!
الآية 97: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ ﴾ علاماتٍ ﴿ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾: أي لتعرفوا بها الطرق ليلاً إذا ضللتم بسبب الظلمة الشديدة في البر والبحر حتى لا تهلكوا، فهي نعمةٌ لا يَقدرُ على الإنعامِ بها إلا الله سبحانه وتعالى، فلماذا إذاً يُعبَدُ غيرُه؟! ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ ﴾: أي قد بَيَّنَّا الحُجَج والأدلة ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾، فبذلك أخبر تعالى عن نعمةٍ أخرى، وهي تفصيله للآيات وإظهارها، لينتفع بها العلماء الذين يميزون - بنور العلم - بين الحق والباطل، ولِيُعلموها للناس.
الآية 98: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ﴾: أي ابتدأ خَلْقكم ﴿ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ وهي نفس آدم عليه السلام (أبو البشر)، إذ خَلَقه من طين، ثم كنتم أنتم سُلالةً منه، وذلك بأن خلقكم من آدم وحواء بالتناسل، ﴿ فَمُسْتَقَرٌّ ﴾: أي فجعل لكم مستقَرًا تستقرون فيه، وهو أرحام النساء، ﴿ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾: أي وجعل لكم مُستودَعًا تُحفَظُون فيه، وهو أصلاب الرجال (أي ظهورهم)، ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ ﴾: أي قد بَيَّنَّا الحجج والأدلة، وأظهرناها ﴿ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾: أي لقومٍ يفهمون مواقع الحُجَج، ومواضع العِبَر، وأسرار الأشياء، فيَهتدون بذلك لِمَا هو حق وخير، ولِتقوم لهم الحجة على أنه تعالى هو الإله الحق، دونَ غيره مِن سائر مخلوقاته.
الآية 99: (﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ وهو ماء المطر ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ مما هو قابلٌ للإنبات من سائر الزروع والنباتات، مما يأكل الناس والأنعام، ﴿ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا ﴾: أي فأخرجنا من ذلك النبات زرعًا وشجرًا أخضر، ثم ﴿ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ﴾: أي ثم نخرج من هذا النبات الأخضر حَبًّا يَركب بعضه بعضاً، كسنابل القمح والأرز والذرة، وغير ذلك من أصناف الزروع.
• واعلم أن الله تعالى قال: ﴿ فَأَخْرَجْنَا ﴾ بضمير الْمُتكَلِّم الْجَمْعِي، بعد أن قال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ﴾ بضمير الْواحد الْمُفْرَد - وهو ما يُعرَف في اللغة بأسلوب الالتفات - ليجعل الأذهان تلتفت إِلَى أهمية ما هو آتٍ، فَتَتَنَبَّهْ إلى أَنّ هذَا الإخراج البديع والصُنع المُتقَن هو مِن فِعل البديع الْخَلاَّق جل وعلا، ولَمَّا كان الماءُ واحداً، والنباتُ جَمعاً كثيراً: ناسَبَ ذلك إفراد الفِعل: ﴿ أَنْزَلَ ﴾، وجَمْع الفِعل: ﴿ أَخْرَجْنَا ﴾، ومعلومٌ أن الواحد إذا قال: ﴿ فَعَلْنَا ﴾ أَرادَ الإفَادة بتعظيم نَفسِهِ إذا كانَ مقامُهُ أهلاً لذلك، كما يقول الملك أو الأمير في خطابه: (قررنا نحن، أو أمرنا نحن بكذا وكذا)، واعلم أنه قد أتى بالفعل المضارع: ﴿ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ﴾ بعد أن كان سياق الآية بصيغة الماضي، لاستحضار صورته العجيبة في حُسنها وانتظامها.
• واعلم أنه قد وصف الحبوب بأنها متراكبة، إشارةً إلى أنها لا تختلط، بل هي متفرقة، مع أنها تخرج من أصلٍ واحد، وإشارةً أيضا إلى كثرتها - رغم أن البذرة واحدة - وذلك لينتفع بها العباد بالأكل والبيع والادِّخار، فلله الحمد والمِنَّة.
﴿ وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا ﴾: أي وأخرج سبحانه مِن طَلْع النخل (وهو الوعاء الذي يخرج منه البلح، وهو الذي يُطلِق عليه المزارعون لفظ: (الطَرْح)، وهذا خطأ والصحيح أن اسمه: (الطَلْع))، فيَخرج من هذا الطلع ﴿ قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ﴾: أي ثمراً قريبَ التناول، (هذا في النخلة القصيرة، إذ يتناول المرء ثِمارها لمدة عشر سنوات بيديه وهو واقفٌ عندها، فإن طالت النخلة وارتفعت، فإنه يجد فيها أماكن بارزة يَسهُل الصعود عليها).
﴿ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾: أي وأخرج سبحانه بهذا المطر بساتين من أعناب، ﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾: أي وأخرج شجر الزيتون والرمان الذي يتشابه في ورقه وشجره، ويختلف في ثمره (شكلاً ولوناً وطعمًا).
• وقد خَصَّ اللهُ هذه الأشجار بالذكر (العنب والزيتون والرمان) دونَ سائر الأشجار، لكثرةِ منافعها وعظيمِ فوائدها.- ثم أمر تعالى عباده بالتفكر في ذلك الزرع، فقال: ﴿ انْظُرُوا ﴾ نظر تفكُّر واعتبار ﴿ إِلَى ثَمَرِهِ ﴾: أي إلى ثمر الأشجار كلها، وخصوصاً النخل ﴿ إِذَا أَثْمَرَ ﴾، ﴿ وَيَنْعِهِ ﴾: أي وانظروا إلى نُضجه واستوائه، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ ﴾: أي إن في ذلك المذكور كله ﴿ لَآَيَاتٍ ﴾: يعني لَدَلالاتٍ على كمال قدرة الخالق سبحانه وتعالى وحكمته ورحمته، وعنايته بعباده، ووجوب عبادته وحده.
• ولكنْ ليس كل الناس يَعتبرون ويتفكرونَ في آيات الله، ويُدركون المراد منها، وما تدل عليه عقلاً وفِطرةً وشرعاً، ولهذا قيَّدَ تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقط، فقال: ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ وذلك لأنهم أحياء، يعقلون ويفهمون، أما غيرهم من الجاحدين فإنهم أموات، وذلك لِمَا تراكَمَ على قلوبهم من الشرك والمعاصي، فهم لا يعقلون ولا يفهمون، فكيف لهم أن يجدوا في تلك الآيات ما يَدُلُّهم على توحيد ربهم عز وجل؟!
الآية 100: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ﴾: أي ورغم كل هذه الأدلة التي تستوجبُ توحيدَ الله تعالى، والانقياد لأوامره، فقد جعل هؤلاء المشركون الجنَّ شركاء لله تعالى في العبادة، اعتقادًا منهم أنهم ينفعون أو يضرون، ﴿ وَخَلَقَهُمْ ﴾: أي وقد خلقهم الله تعالى من العدم، هُم والجن الذين يعبدونهم، فهو سبحانه المُتفرِّد بالخَلق وحده، فيجب إفرادُهُ أيضاً بالعبادة، ﴿ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾: أي ولقد نسب هؤلاء المشركون البنين والبنات إليه تعالى، كَذِباً وجَهلاً منهم بما له مِن صفات الكمال ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴾: أي تَنزَّه وعَلا عما نسبه إليه المشركون من ذلك الافتراء.
الآية 101، والآية 102: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني واللهُ تعالى هو الذي أوجَدَ السماوات والأرض وما فيهنّ على غير مثالٍ سابق، ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾: يعني كيف يكونُ للهِ ولدٌ ولم تكن له زوجة، إذ الولد لا يكون إلاّ من زوجة، والتوالد لا يكونُ إلا بين ذكر وأنثى، وذلك لِحِفظ النوع، وكثرة النسل، وعمارة الأرض، بل ولعبادة الرب تعالى بذِكْرِهِ وشُكرِه، أما الرب تعالى فهو خالق كل شيء، ولذلك قال بعدها: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ فكل ما في السماوات والأرض ملْكُه وعبيده، فكيف يكون له منهم زوجة أو ولد؟!
• فهذا أكبر دليل على بُطلان نسبة الولد لله تعالى، إذ هو خالقُ كل شيء، فهل يُقالُ لِمَن خَلَقَ شيئاً أنه وَلَدَهُ؟! لو صَحَّ هذا لقالوا لِكُلّ مَن صَنَعَ شيئاً إنه أبو المصنوع، ولا يوجد قائلٌ بهذا أبداً، إذَن فأيُّ معنى لِنسبة الولد إليه سبحانه، إلا تزيين الشياطين للباطل حتى يقبله أولياؤهم من الإنس؟!، فسبحان مَن لا يحتاجُ إلى ولدٍ أو زوجةٍ كما يحتاج البشر، وسبحان الغني القوي، الذي ليس كمثله شيءٌ، ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
﴿ ذَلِكُمُ ﴾ - أيها المشركون - هو ﴿ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ الذي (﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾): أي لا معبودَ بحقٍ سواه، فهو سبحانه (﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾): أي فاخضعوا له وحده بالطاعة والعبادة، (﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾) والوكيل هو مَن يُوَكَّل إليه الأمر لِيُدَبِّرَه.
الآية 103، والآية 104: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾: أي لا تُحيطُ الأبصارُ به سبحانه، إذ رؤيته تعالى مُتعذِّرةٌ في الدنيا، وقد طلبها موسى عليه السلام ولم يُدرِكْها، وذلك لِعَجْز الإنسان عن رؤية الله تعالى بهذه الأبصار المحدودة في الدنيا، ولِذا يراه المؤمنون في الجنة رؤية بَصَرية حقيقية، ويتلذذون بالنظر إلى وجهه الكريم، قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، يقول الله تعالى: ﴿ تريدون شيئا أَزِيدُكُم ﴾؟، فيقولون: (ألم تُبَيِّضْ وجوهنا؟ ألم تُدخِلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟)، فيُكشَفُ الحجاب، فما أُعْطوا شيئاً أحَبّ إليهم من النظر إلى ربهم) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 523)، وقال صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحيْن -: (إنكم سَتَرَوْنَ ربكم كما ترون القمر، لا تُضامُون في رؤيته - (أي لا يَصعُب عليكم رؤيته) - ، فإن استطعتم ألاَّ تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس - (وهي الفجر) - وصلاةٍ قبلَ غروب الشمس- (وهي العصر) - فافعلوا)، وفي هذا الحديث تحذيرٌ لكل مَن يُضَيِّع صلاة الفجر والعصر - فيُصلي الفجر بعد شروق الشمس، أو يصلي العصر بعد أذان المغرب - مِن أن يُحرَم مِن لذة النظر إلى وجه الله الكريم.
(﴿ وَهُوَ ﴾) سبحانه (﴿ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾) ويحيط بها، ويَعلمها على ما هي عليه، (﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ ﴾): أي الرفيق بأوليائه، ومِن لُطفِهِ تعالى أنه يسوقُ إلى عبده ما فيه صلاح دينه بالطرق التي لا يعرفها، ويُوصله إلى السعادة الأبدية مِن حيثُ لا يحتسب، حتى أنه تعالى يُقَدِّر عليه الأمور التي يَكرهها العبد ويتألم منها، وذلك لِعلمه سبحانه أنّ كمالَ عَبْدِهِ متوقف على تلك الأمور، فسبحان اللطيف لِمَا يشاء، الرحيم بالمؤمنين، (﴿ الْخَبِيرُ ﴾) الذي يعلم دقائق الأشياء، ظاهرها وباطنها.
• ثم قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: (﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾): أي قد جاءتكم براهين ظاهرة تُبصِرونَ بها الهدى من الضلال، مما اشتملتْ عليه آيات القرآن من بلاغةٍ وتحدٍ وإخبارٍ بالغيب، وغير ذلك، ومما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من المعجزات، (﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ﴾): يعني فمَن تبيَّن هذه البراهين وآمَنَ بِما دَلَّتْ عليه، فإنه بذلك ينفع نفسه لأنه هو الذي ينجو ويَسعد، (﴿ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾): يعني ومَن لم يُبصِر الهدى بعدَ ظهور الحُجَّة، فإنه بذلك يضر نفسه، ويُعرضها للهلاك والشقاء، (﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾): أي وما أنا بمسئولٍ عن أعمالكم، إنما أنا مبلغ، والله يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء وَفْقَ عدله وحكمته.
الآية 105: (﴿ وَكَذَلِكَ ﴾): يعني وكما بيَّنَّا في هذا القرآن البراهين الظاهرة في أمر التوحيد: (﴿ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ﴾): أي نبيِّنُ لهم البراهين في كل ما جَهلوه، لتقوم عليهم الحجة، (﴿ وَلِيَقُولُوا ﴾) - افتراءً - عند وضوح هذه البراهين والحجج، وظهور عَجْزهم: (﴿ دَرَسْتَ ﴾): أي تعلمتَ من أهل الكتاب، وهذا باطل، فإنه إذا كان قد تعلَّم من أهل الكتاب شيئاً، لَعَلِمَهُ اليهود حين قَدِمَ إليهم في المدينة، وخاصَّةً عبد الله بن سلام (الذي شهد له اليهود أنه من علمائهم)، ولكنه آمَنَ به بعد ثبوت صفاته لديه في التوراة.
• وقد رَدَّ الله على ذلك الافتراء في آيةٍ أخرى بقوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾، فهذا يدل على أنهم لم يرتابوا، وإنما هو الكِبر والعناد واتباع الهوى، (﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ ﴾): أي ولِنُبَين الحقَّ - بتصريفنا للآيات - (﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾) الحق - لوضوحه وظهور علاماته - فيقبلونه ويتبعونه، ولا يتبعون أهوائهم.
الآية 106، والآية 107: (﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾) من الأوامر والنواهي التي أعظمُها توحيد الله تعالى بأنه (﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾)، (﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾) فلا تُبال بعنادهم، وامضِ في طريق دعوتك، ثم يُصَبِّرُ اللهُ تعالى رسوله، ويُخَفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته، فيقول له: (﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾) ألاَّ يُشرِكَ هؤلاء المشركون: (﴿ مَا أَشْرَكُوا ﴾)، لكنه تعالى عليمٌ بما سيكون من سوء اختيارهم واتباعهم لأهواءهم المنحرفة، (﴿ وَمَا جَعَلْنَاكَ ﴾) أيها الرسول (﴿ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾): أي رقيبًا تحفظ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها، (﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾): أي وما أنت بقائمٍ على أمورهم لِتُدَبِّرَ مصالحهم، إن عليك إلا البلاغ، وقد أبلغتَهم، فلا تحزن إذاً على إعراضهم.
الآية 108: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا ﴾: أي ولا تَسُبُّوا الأصنام التي يعبدها المشركون، حتى لا يتسبب ذلك في سَبِّهم لله تعالى ظلماً واعتداءً ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ إذ لو علموا جلال الله وكماله: ما فعلوا ذلك، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني وكما زَيَّنَّا لهؤلاء المشركين عملهم السيئ بالدفاع عن آلهتهم الباطلة: ﴿ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ السيئ فرأوه حسناً، عقوبة لهم على سوء اختيارهم، ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، ثم يجازيهم بأعمالهم.
• وفي هذا دليل على حُرمة كل فِعل أو قول يكونُ سبباً في سَبّ الله تعالى أو رسوله أو دينه أو الاستهزاء بشرعه.
الآية 109: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾: أي وأقسم رؤساء المشركين بأيمانٍ مؤكَّدة بأنهم: ﴿ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ ﴾: أي علامة خارقة تدل على صِدق محمد، كتحويل جبل الصفا إلى ذهب: ﴿ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ وهذا الكلام الذي صدر منهم، لم يكن قصْدُهُم فيه الرشاد، وإنما قصْدُهُم فيه الكبر والعناد، فإن الله قد أيَّدَ رسوله بالآيات البينات، والأدلة الواضحات، التي - عند الالتفات إليها - لا تبقي أدنَى شُبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به، فطلَبُهُم - بعد ذلك - للآيات، هو من باب العند والاستكبار الذي لا يَلزَم إجابته، بل قد يكونُ المَنْعُ من إجابتهم أصْلَح لهم، إذ إنه لو جاءتهم الآيات ولم يؤمنوا بها، فقد يترتب على ذلك هَلاكهم ودَمارهم، ولهذا قال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾: يعني إنما مجيء المعجزات الخارقة إنما يكونُ مِن عِند الله تعالى، فهو القادر على المجيء بها إذا شاء، أما أنا فلا أملك ذلك، إلا أن الصحابة رغبوا في مجيء الآيات، حتى يؤمن بها المشركون، فقال تعالى لهم: ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾: أي وما أعلمكم أيها المؤمنون أن هذه المعجزات إذا جاءت سوف يُصَدِّقُ بها هؤلاء المشركون؟ بل إنّ الغالب - مِمَّن حالُهُ اتباع الهوى - أنه لا يؤمن.
الآية 110: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾: يعني ونَحجِب قلوبهم وأبصارهم عن الانتفاع بآيات الله، فلا يؤمنون بها ﴿ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾: أي وذلك عقوبةً لهم، لأنهم لم يؤمنوا بآيات القرآن عند نزولها أول مرة، ﴿ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾: أي ونتركهم في شِركهم وظُلمهم حَيارَى مترددين، لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال، وهذا مِن عَدْل الله تعالى، فقد فتح لهم الباب فلم يدخلوه، وبَيَّنَ لهم الطريق فلم يَسلكوه، فبَعدَ ذلك إذا حُرِمُوا التوفيق، فلا يلوموا إلا أنفسهم.
[1] وهي سلسلة تفسير للآيات التي يَصعُبُ فهمُها في القرآن الكريم (وليس كل الآيات)، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبو بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو شرحُ الكلمة الصعبة في الآية.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.