عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 13-07-2021, 01:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,580
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عندما أخبرنا كابتن الطائرة أن تلك الأنوار هي أنوار الحرم

مهوى الفؤاد وقِبْلةُ الأشواقِ *** ومسيلُ حبٍّ صادقٍ دفَّاقِ



لا جلالَ في أي بقعة على الأرض يفوق هذا الجلال ...

هنا يبدو الحسن البديع والصفاء، هنا القداسة والرَّونَقُ والنقاء ...

ماذا أقولُ؟ جميلةٌ وتزيَّنت

جلَّت محاسِنُها عَنِ الأوصافِ



هنا مخزن الأسرار، ومَنْجَمُ الهِبات، ومُدَّخر الأعطيات، هنا قصة المجد المنفرد، والمزايا التي تطاول السماء، وتسمو على الأفلاك.

في هذي الرحاب المُغتسل البارد والشَّرَاب ... وفي هذه البقاع يتنزل عطاء الملك الوهَّاب ...

لا أنوار تعلو بين الخافقين تضاهي هذه الأنوار ... ولا أستار تعدِل أو تماثل تلك الأستار ...



تخيلتُ وصفًا بديعًا حكاه لي أستاذ الأدب والبلاغة الذي درَّس لي في الأول الثانوي قبل أربعة عشر عامًا تقريبًا، عندما زار البيت - تخيَّلتُهُ وهو يحكي لي عن أول نظرة للبيت الحرام، وكيف امتلأ قلبه من الجلال والهَيْبَةِ والقُشْعَرِيرَةِ، وكيف مكثَ ساعة كاملة يصف لي الحنين الفيَّاض، والشوق المؤرِّق، ولحظة احتضان البيت ...



يا لها من مشاعر!

كيف سأُترجم الآن هذه الأحاسيس، وأصل لذِروةِ التعبير عن مكنون الفؤاد؟ وماذا عسى القلم أن يسطِّرَ، والبيان أن يكتب؟



فَاض الحنينُ فماذا يفعل الدَّنِفُ

يا كعبةَ اللهِ إني مَسَّني التَّلفُ



يا كعبة الله هذا النأيُ أوجعنا

إني بشوقي إلى "لبيك" أعتَرِفُ





هنا يبدو الحب الذي لا يقدِرُ أحدٌ على كتمانِهِ ...

والشوق الذي لا يستطيع أحد أن يخبِّئه أو يُخفِيه ...



ما استُكمِلَتْ لي فِيكِ أوَّلُ نظرةٍ *** حتَّى علِمتُ بأنَّ حُبَّكِ فاضِحِي



يا لغرابة الشعور وفيضان المشاعر!!

يا للعطش الذي يفتك بالضلوع!!

إني لأعلم أن هذا الكابتن سيمضي يخترق الأجواء تاركًا القلب يحوم حول هذه الأنوار.



لقد كدتُ أن أخاطبه أن يقف بي هنا، مع علمي أنه لا يقدر ألبتَّةَ على الوقوف:

خذني لها، متعطِّشٌ فَتَكَ الحنينُ بخافقي

والشَّوقُ باتَ من المساءِ إلى الصباحِ مرافقي

وأنا أصيحُ بزحمةِ الأشواقِ فيَّ ترفَّقِي



أشاهد الأرض تحتي تُطْوى، والليل داجٍ قد عمَّ الأرض بحُجُبِهِ، والسَّحَرُ يُنعش الأرواح السابحة في الفضاء، والفجر يقترب ليعمَّنا بأنواره، ولا أنوارَ على كوكب الأرض كهذه الأنوار.



يا فجرَ مكَّةَ كم حنَّت خوافقُنا

نقصُّ ذكرى ليالٍ كم تُسلِّينا



ندعوك يا ربِّ والأشواقُ تغمُرُنا

قرِّب بفضلك أميالَ المُحبينا





سمعتُ خلفي رجلًا كبيرًا في السن يتمتم خاشعًا، والقوم رُقُودٌ، فعلِمتُ أنه يصلي، ويا لروعة هذه الصلاة من هذا الطاعن في السن!



إنه شيخ سوداني لحيته على صدره بيضاء، وكأنه مع دخول السحر تنبَّه إلى وِرْدِهِ الذي يقضيه مصليًّا لربه، مناجيًا مولاه؛ فقام يُهْرَعُ شوقًا للسَّحَرِ ...

جمال في جمال ...

إنه يصلي فوق السحاب ...

تتساقط دموعه كالدر المنثور ...

أظنه كان يقرأ في سورة الحجر ...

كان يقرأ فنسمع أحيانًا تمتماتِهِ، فلكأنها غضَّةٌ طريَّةٌ تلامس المشاعر ...



كانت الطائرة متجهة تمامًا إلى البيت العتيق؛ فقد كانت الشاشة التلفزيونية أمامنا تشير بالسهم أننا صَوْبَ البيت، وكانت الأضواء الداخلية للطائرة خافتة باهتة؛ حتى لا تُزعِجَ النائمين، وكان هذا الطاعن في السن يمخُرُ عُبابَ الليل بتلاوته الهادئة المنبعثة من حنايا قلبه، كما يمخر هذا الكابتن عباب الجو سواءً بسواء، رأيته على حالته فشعرت ببرد اليقين، وروعة المناجاة، وجمال السَّحَرِ فوق هذه البقاع؛ حيث تكون السماء أقرب إلى الأرض.



خُيِّل إليَّ أني أمام الكعبة دون حجاب ...

تخيَّلتُ شعور التائه الضائع وسط الظلام الذي يبحث عن النور والأمان، ليجد فجأة أن السعادة قد لامست قلبه، حتى عجز أن يكُفَّ عن فرحه وسروره ...

اللهم مكة ...



تذكَّرت أستاذي الذي تسمَّر في مكانه، وشعر وكأنها تمطر ورأى زخَّات المطر، والكعبة تتألق وسط قطرات عَبِقَةٍ، وتلفُّهُ رائحة البخور والعود، وشعر بدفء المكان، وجمال الحياة، ومتعة اللحظات، وتذكَّرته وهو يضع يده على قلبه ويبتسم، ثم تنهمر دموعه فيبكي وكأنه أول مرة يعرف البكاء في حياته، وكان من قبل يردد:



ألا ليت شِعري هل أزورنَّ مكةً

وأبقى بها كيما تكف دموعي



وهل أستقي من ماء زمزمَ شربةً

فيهدأُ من برد الشراب ولوعي





تخيَّلت ذلك الكاتب الذي تحدث عن شعوره وهو يقدِّم أول رِجْلٍ لدخول باب الحرم؛ إذ يقول عن شعوره: "شعوري أشبه بعثوري على الأمان والسكينة، والطمأنينة والحب والسلام، لن أنسى أبدًا أول خطوةٍ لي في الحرم، أول نظرةٍ لي للكعبة المُشرَّفة ... شعرتُ حينها فعلًا بمعنى القُرب من الله، كنت قريبًا جدًّا للحدِّ الذي نسيتُ فيه دنيا الفناء ... وكان همِّي الوحيد القُرب من الله".



آتٍ لبابك لا أخطو ولا أقفُ

يلفُّني في الطريق الخوفُ واللَّهفُ



آتٍ لبابك يا الله يحملني

ما كنتُ ملءَ يَباسِ الروح أقترفُ





بقيت أردد: سنَمُرُّ من هذه الأجواء، فكيف لو لم يُكتب لي زيارة هذا البيت؟



يا رب:

أنا متعَبٌ أحْبُو لبابكَ مُثقلًا *** وَيْلِي إذا يدنو العبادُ وأُطردُ




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.72 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.09 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.76%)]