
12-07-2021, 05:06 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,603
الدولة :
|
|
رد: سيرة العز بن عبد السلام ومعنى عزة الأمة
سيرة العز بن عبد السلام ومعنى عزة الأمة
أحمد الشجاع
- زهده
كان رحمه الله زاهداً في الدنيا مع مشاركته في أحداثها، وانخراطه في حل مشكلاتها ومعضلاتها. فلم يكن منعزلاً عن الناس، بل كان يعيش بينهم رافضاً دنياهم يذكرهم بأخراهم؛ فكان أغنى الناس رغم فقره، إذ لم يكن يتطلع إلى ما في أيديهم بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، عطاء الواثق بربه، يعطي الأغنياء والفقراء رغم فقره ولا يرد سائلاً سأله رغم حاجته، فإذا لم يجد ما يعطي ما في جيبه خلع شيئاً من لباسه، أو جزءاً من عمامته، أو شيئاً من أثاث بيته وأعطى لسائله، كان زاهداً في متاع الدنيا رغم أنه كان ملء سمعها وبصرها، يعمل فيها للآخرة رغم أنها جاءته تسعى راغمة. والدليل على ذلك مواقف كثيرة، منها عندما عرض عليه رسول الملك الصالح إسماعيل أن ينكسر للسلطان ويقبل يده ويعتذر إليه من موقفه من التحالف مع الصليبيين وتسليم حصون المسلمين لهم - وقد مر ذكر ذلك- فقال: والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
ومن زهده وورعه رحمه الله عندما نصح الملك الأشرف - وهو في مرضه الذي مات فيه - امتثل أمره وعمل بنصحه، وأمر له بألف دينار مصرية، فردها الشيخ عليه ولم يقبلها، وقال: هذه اجتماعه لله لا أكدرها بشيء من الدنيا. وودع الشيخ السلطان ومضى.
ولما هاجر الشيخ العز من دمشق وقد ناهز الستين لم يحمل شيئاً من حطام الدنيا ومتاع البيت، أو ما كدَّسه من مناصبه وأعماله. ولما استقال العز من القضاء عند فتواه ببيع الأمراء ورفض السلطان لذلك، خرج من القاهرة، وكل أمتعته في الحياة مع أسرته، حمْل حمار واحد؛ مما يدل على قناعته بالقليل، وزهده في المال والمتاع.
ولما مرض الشيخ العز، وأحس بالموت، أرسل له الملك الظاهر بيبرس أن يعين أولاده في مناصبه، وقال: .. أن يكون ولدك مكانك بعد وفاتك "في تدريس الصالحية"، فقال العز: ما يصلح لذلك، قال له: فمن أين يعيش؟، قال: من عند الله تعالى، قال له: نجعل له راتباً؟، قال: هذا إليكم. ثم أشار إلى تعيين تقي الدين بن بنت الأعز.
والحقيقة أن ولده الشيخ عبد اللطيف كان عالماً فقيهاً، يصلح للتدريس، ولكن ورع العز وزهده منعه من جعل منصب التدريس وراثة لأولاده.
ورغم فقره كان العز بن عبد السلام كريماً كثير الصدقات، فيحكى أنه لما كان بدمشق، وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين أعطته زوجته مصاغها، وقالت: اشترِ لنا بثمنه بستانا نصيّف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانًا؟، قال: نعم، بستاناً في الجنة، إني وجدت الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه، فقالت: جزاك الله خيراً.
- تواضعه وعدم التكلف
من كان زاهداً وورعاً فمن الطبيعي أن يكون متواضعاً حسن الخلق، وهذا ما كان عليه عز الدين بن عبد السلام من متواضع النفس مع ربه، ومع الناس، ومع نفسه. ولا يتكلف لشيء في حياته ومعيشته ولباسه، وسلوكه مع الجميع. فعندما كتب له الملك الأشرف رسالته، وفيها ما يَلمْزه بالاجتهاد لمذهب خامس في العقيدة: "إن كنت تدّعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قَدْر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس". أجابه العز بكل تواضع، وقال عن هذه النقطة: وأمّا ما ذُكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد.
وعندما جاءه نائب السلطنة في مصر حاملاً سيفه ليقتل العز لفتواه ببيع الأمراء المماليك، كما مّر معنا، فقام لاستقباله، فاعترضه ابنه خشية عليه من القتل، فقال له: يا ولدي ، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله.
وكان العز يترك التكلف في لباسه، فكان يلبس مرة العمامة ومرة قبعة من لبّاد، بحسب ما يتيسر له، ويحضر بها المناسبات والمواكب. قال ابن السبكي بعد حكاية تصدقه بالعمامة: وفي هذه الحكاية ما يدل على أنه كان يلبس العمامة، وبلغني أنه كان يلبس قبّعة لبّاد، وأنه كان يحضر المواكب السلطانية به، فكأنه كان يلبس تارة هذا، وتارة هذا، على حسب ما يتفق من غير تكلف.
- بلاغته وفصاحته
كان العز بن عبد السلام بليغاً فصيحاً قوي العبارة ذات المعاني المتعددة، وقد ترك لنا أقوالاً مأثورة، منها:
قوله: فيما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما: أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها، فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح.
وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته.
ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكمٌ منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبَّد الله به عبادَه ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها.
وقال: والشرع ميزان يوزن به الرجال، وبه يتيقن الربح من الخسران، فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله، وتختلف مراتب الرجحات. ومن نقص في ميزان الشرع، فأولئك أهل الخسران، وتتفاوت خفتهم في الميزان، وأخسها مراتب الكفار. ولا تزال المراتب تتناقص حتى تنتهي إلى منزلة مرتكب أصغر الصغائر، فإذا رأيت إنساناً يطير في الهواء ويمشي على الماء، أو يخبر بالمغيبات، ويخالف الشرع بارتكاب المحرمات، بغير سبب محلل، أو يترك الواجبات بغير سبب مجَّوز؛ فأعلم أنه شيطان نصبه الله فتنة للجهلة. وليس ذلك ببعيد من الأسباب التي وصفها الله للضلال، فإن الدجال يُحيي ويُميت فتنتةً لأهل الضلال. وكذلك يأتي الخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. وكذلك يظهر للناس أن معه جنة وناراً، فناره جنة، وجنته نار، وكذلك من يأكل الحيَّات، ويدخل النيران، فإنه مرتكب للحرام بأكل الحيات وفاتن للناس بدخول النيران ليقتدوا به في ضلالته ويتابعوه على جهالته.
وقال: والطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد بصلاحها، وتفسد بفسادها، تطهيرها من كل ما يبعد عن الله، وتزيينها بكل ما يقرب إليه، ويزلفه لديه، من الأحوال، والأقوال، والأعمال، وحسن الآمال، ولزوم الإقبال عليه، والإصغاء إليه والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال، على حسب الإمكان، من غير أداء إلى السآمة والملال. ومعرفة ذلك هي الملقبة بعلم الحقيقة، وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال، والعزوم والنيات، وغير ذلك مما ذكرنا من أعمال القلوب. فمعرفة أحكام الظواهر معرفة بجلَّ الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدقَّ الشريعة، ولا ينكر شيئاً منهما إلا كافر أو فاجر. وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم، ولا يقاربهم في شيء من الصفات، وهم شرُّ من قطاع الطريق؛ لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى، وقد اعتمدوا على كلمات قبيحات، يطلقونها على الله، ويسيئون الأدب على الأنبياء والرسل وأتباع الأنبياء من العلماء والأتقياء، وينهون من يصحبهم من السماع من الفقهاء، لعلمهم بأن الفقهاء ينهون عن صحبتهم وعن سلوك طريقهم.
تطوير الفقه السياسي والعلاقات الدولية
رغم أن سلطان العلماء لم يقصد عند كتابته لمؤلفاته تخصيصها للقانون الدولي والعلاقات الدولية، إلا أن مطالعتها – حسب قول الصلابي - تبين لنا انشغاله، بطريقة أو بأخرى، بأمور تدخل في إطارها سواء تعلقت بها مباشرة أو لكونها تمثل قواعد عامة أصولية تنطبق عليها أيضاً. وأهم الوسائل التي عالجها ابن عبد السلام تتمثل في الأمور الآتية:
أ - السلطة الحاكمة في نظر عز الدين بن عبد السلام:
عالج الإمام عز الدين بن عبد السلام السلطة الحاكمة، كعنصر من عناصر الدولة الحديثة من زوايا متعددة، أهمها:
- ضرورة توفر العدل لدى الحكام:
يقرر عز الدين بن عبد السلام أن العادل من الأئمة والولاة من الحكام أعظم أجراً من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام؛ لأنهم يقومون بجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل.
واشتراط العدالة يعد أمراً لازماً لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية؛ ولأن العدل يعتبر عنصراً لازماً لحياة أي مجتمع. ومع ذلك يقرر العز بن عبد السلام أن اشتراط العدالة في الإمامة الكبرى فيها اختلاف؛ لغلبة الفسوق على الولاة، فيقرر: ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاء والولاة والسعادة، وأمر الغزوات، وأخذ ما يأخذونه، وبذل ما يعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموفقة للحق لما في اشتراطها من الضرر العام وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان".
- تولية الصالح أو الأصلح (مع عزل المريب):
يعتبر الحاكم رأس الدولة أو الإقليم الذي يحكمه وبالتالي بات من الواجب أن يكون أصلح من تتوافر فيه الشروط اللازمة للقيام بهذه المهمة؛ لذلك يرى سلطان العلماء أن على الإمام أن يعزل الحاكم إذا أرابه منه شيء؛ لما في إبقاء المريب من المفسدة، إذ لا يصلح في تقرير المريب على ولاية خاصة؛ لما يخشى من خيانته فيها، وإذا سلم تكن هناك ريبة
- التصرفات الصادرة من غير ولاية صحيحة:
تعرض العز بن عبد السلام كذلك للتصرفات التي قد تصدر من أشخاص ليس لهم الحق في القيام بها، ولكن نظراً لصدورها في ظروف معينة فإنها تعتبر صحيحة، وقد تعرض لصنفين من التصرفات هما:
تصرفات الأئمة البغاة:
تعتبر هذه التصرفات نافذة مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت تصرفاتهم لضرورة الرعايا، كما أنه إذا نفذ ذلك مع ندرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وأنه لا انفكاك للناس عنهم.
أ- تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة:
إذا كانت القاعدة العامة تقضي بأن الأموال العامة لا يتصرف فيها إلا الأئمة، فإنه إذا تعذر قيامهم بذلك وأمكن القيام بها بواسطة فرد أو أكثر جاز ذلك، على أن ذلك مشروط بصرفه إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العادل أن يصرفه فيه: بأن يقدم الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها فأهمها. ويصرف ما وجد من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها؛ لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها. فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها.. وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده، إذا ظفر به إن كان من جنسه، وأن يأخذه ويبيعه، إن كان من غير جنسه، مع أن هذه مصلحة خاصة، فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى.
ب- بعض القواعد التي يمكن تطبيقها في إطار العلاقات الدولية عند سلطان العلماء:
تتميز العلاقات الدولية الحالية بصفتها الاجتماعية وبترابط وتداخل أواصر العلاقات الموجودة بين مختلف أشخاص القانون الدولي.
والعلاقات الدولية أو السياسية الخارجية لأي بلد معين تنبع أو يجب أن تنبع من المصلحة العليا لشعبه مع مراعاة ظروف البيئة التي يتم في داخلها اتخاذ القرار.
وقد عالج الإمام عز الدين بن عبد السلام ذلك بطريقة عامة. ولخص الصلابي فكره حول ثلاثة أفكار أساسية اطلق عليها المسميات الآتية: ترابط العلاقات الدولية، ونظرية تدرج العلاقات الدولية، وأخيراً نظرية الضرورة.
- ترابط العلاقات الدولية:
تقوم العلاقات الدولية المعاصرة على أساس فكرة الترابط أو التداخل أو التشابك والتي يرجع تفسيرها أساساً إلى حاجة أفراد المجتمع الدولي بعضهم لبعض، وإذا كان العز بن عبد السلام لم يتحدث عن المجتمع الدولي صراحة إلا أن ذلك يمكن استنباطه مما قاله في الفقرة الآتية: أعلم أن الله تعالى خلق الخلق وأحوج بعضهم إلى بعض؛ لتقوم كل طائفة بمصالح غيرها؛ فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر والأصاغر بمصالح الأكابر، والأغنياء بمصالح الفقراء والفقراء بمصالح الأغنياء، والنظراء بمصالح النظراء، والنساء بمصالح الرجال، والرجال بمصالح النساء، والرقيق بمصالح السادات والسادات بمصالح الرقيق. وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين أو أحدهما أو إلى دفع مفاسدها أو أحدهما.
- ضرورة تدرج العلاقات الدولية لبلد ما:
نحن نعتقد – الكلام للصلابي - أن العلاقات الدولية إذا كانت تتسم حالياً بصفة الشمولية أو الكلية إلا أنها بالنسبة لبلد معين يجب أن يتم تخطيطها في إطار ظروف هذا البلد وعلى ضوء إمكانياته ومقدراته. والنتيجة اللازمة والمترتبة على ذلك المفهوم هو منع التهور أو التخبط في رسم أو اتخاذ سياسة خارجية معينة، ولعل ذلك ما قصده الإمام ابن عبد السلام حينما قرر أنه إذا اجتمعت المصالح فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل.
ويضرب لذلك أمثلة دولية من بينها:
أن الجهاد لو وجب في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين.
أن القتال في الشهر الحرام لو أحل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم لذلك، وكذلك القتال في البلد الحرام. كل ذلك دلالة قاطعة على أنه لا يجوز تقرير شيء أو اتخاذ قرار إلا على ضوء البيئة التي سيطبق فيها، ومع مراعاة كافة الظروف والمواقف. وأن اتخاذ قرار في إطار العلاقات الدولية قد تحتم الظروف ضرورة تدرجه.
- نظرية الضرورة:
تعتبر حالة الضرورة من المبادئ المسلم بها في إطار النظرية العامة للقانون، وهي مبدأ مطبق في مختلف النظم القانونية، بما في ذلك النظام القانوني الدولي.
فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها، ذلك أنه إذا اجتمعت المفاسد مع تعذر درئها جميعاً درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل.
ويضرب الإمام ابن عبد السلام مثالاً لذلك بما جرى في إطار العلاقات الدولية أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخصوص صلح الحديبية: فإن قيل لِمَ التزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدين؟، قلنا : التزام ذلك دفعاً لمفاسد عظيمة وهي قتل المؤمنين والمؤمنات؛ فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين، وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين.
ج- أسس العلاقات بين المسلمين وغيرهم مع الأعداء:
تحدث الإمام عز الدين بن عبد السلام عن بعض الأسس التي تحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وأهم هذه الأسس ما يلي:
- الجزية:
اتهم كثير من غير المسلمين الإسلام بأنه دين يهدف إلى تقرير أمور مالية على غير المسلمين تعتبر وسيلة لإجبارهم على الدخول فيه، ومن بين هذه الوسائل الجزية التي يدفعها أهل الكتب السماوية.
ويعتبر ما قال الإمام ابن عبد السلام في هذا الصدد رداً حاسماً: ولا تؤخذ الجزية عوضاً عن تقريرهم على الكفر، وشتمه ونسبته إلى مالا يليق بعظمته، ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد. وإنما الجزية مأخوذة عوضاً عن حقن دمائهم وصيانة أموالهم وحرمهم وأطفالهم، مع الذب عنهم إن كانوا في ديارنا. وليست مأخوذة عن سكن دار الإسلام إذ يجوز عقد الذمة مع تقريرهم في ديارهم.
- مراعاة القواعد الإنسانية:
يقرر الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه: إذا اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار فإنا نغسل الجميع ونكفنهم توسلاً إلى إقامة حقوق المسلمين من الغسل والدفن والتكفين، وكذلك إذا تعارضت شهادتان في كفر الميت وإسلامه فإنا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في قبور المسلمين.
- أسرى الحرب:
غالباً ما يترتب على الحرب وقوع أسرى من الجانبين أو على الأقل من جانب واحد، ودائماً ما تبذل محاولات من أطراف محايدة لحمل الأطراف المتحاربة على إجراء عمليات تبادل الأسرى بالعدد وفي المكان المتفق عليه. وللإمام عز الدين بن عبد السلام رأي في هذا الصدد، إذ يقول: وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة. وله أمثلة، منها: ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه، مباح لباذليه، وليس هذا على التحقيق معونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعاً لا مقصوداً.
د- استيلاء الأعداء على إقليم من أقاليم المسلمين:
- أثر تصرفات سلطة الاحتلال في مجال الإدارة والقضاء:
من آثار الحرب المحتملة قيام أحد الطرفين بالاستيلاء على جزء من إقليم الطرف الآخر، وقد يقوم المحتل بإجراء تغييرات في الإدارة والقضاء والتشريع بما يتفق ونزعته الاحتلالية وبما يضمن له الاستقرار والولاء. وقد عالج الإمام عز الدين أحد المظاهر بقوله: ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة. إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد.
- ضرورة الانشغال بالأعداء وعدم محاربة المسلمين:
هناك موقف مشهور للعز بن عبد السلام يتمثل في المبدأ القاضي بضرورة: الانشغال بالأعداء، ومحاربتهم بدلاً من الالتفات للمسلمين ومعاداتهم. ذلك أنه لما مرض الملك الأشرف من بني أيوب أرسل للشيخ يتحلل ويسأله أن يعوده ويوصيه بما ينفعه، فأنعم الشيخ وكان السلطان قد وقعت بينه وبين أخيه الكامل وحشة، فأمر وهو في مرضه أن ينصب دهليزه صوب مصر: فقال الشيخ للسلطان: إن الملك الكامل أخوك الكبير ورحمك، وأنت مشهور بالفتوحات، والتتار قد خاضوا بلاد المسلمين، فتترك ضرب دهليزك إلى أعداء الله وأعداء الإسلام وتضربه صوب أخيك؟. غيّر الحال ولا تقطع رحمك وانو مع الله نصر دينه، وإعزاز كلمته، فإن منّ الله بعافيتك رجونا من الله إدالتك على الكفار، وكانت في ميزانك هذه الحسنة العظيمة، وإن قضى الله بانتقالك كان السلطان في خفارة نيتك. فقال جزاك الله خيراً عن إرشادك ونصيحتك، وأمر بنقل دهليزه صوب التتار.
هـ - حقوق الإنسان عند الإمام ابن عبد السلام:
تعرض الإمام ابن عبد السلام للعديد من مسائل حقوق الإنسان، يمكن أن تجمعها في أمرين: مسؤولية السلطة الحاكمة، وأنواع حقوق الإنسان.
- مسؤولية السلطة الحاكمة:
يقول ابن عبد السلام: وأما ولاة السوء وقضاة الجور فمن أعظم الناس وزراً وأحطهم درجة عند الله؛ لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام. وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة، فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك من مصالح المسلمين، فيالها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة.
ويشير ابن عبد السلام إلى أمر مهم يعاجل نفوس كثير من الحكام وهو وقوعهم في المظالم فيحثهم على فعل العدل وترك الظلم حيث يقول ابن عبد السلام: أن ما فوتوه من الأموال مضمون عليهم في الدين، فإن فنيت حسناتهم طرح عليهم من سيئات من ظلموه، وكذلك الحكم في الدماء والأبضاع والأعراض، وفيما أخروه من الحقوق التي يجب تقديمها أو قدموه من الحقوق التي يجب تأخيرها. فقد قال رب العالمين: }ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً{.
- تقسيمات الحقوق والأمور التي تتعلق بها:
يقسم ابن عبد السلام حقوق الرب وحقوق العباد إلى ثلاثة أقسام: أحدها متساوي، وثانيها متفاوت، والثالث مختلف في تساويها وتفاوتها.
فقد تطرق إلى تقديم حقوق بعض العباد على بعض لترجيح التقديم على التأخير في جلب المصالح ودرء المفاسد.
وأشار ابن عبد السلام أيضاً إلى حالة التساوي في حقوق العباد، فيتخير فيه المكلف جمعاً بين المصلحتين ودفعاً للضررين.
وأشار كذلك إلى تقديم حقوق الرب على حقوق عباده إحساناً إليهم في أخراهم، مثال ذلك التغرير بالنفوس والأعضاء في قتال من يجب قتاله.
وأشار أيضاً إلى تقديم بعض حقوق العباد على حقوق الرب رفقاً بهم في دنياهم، كالأعذار المجوزة لقطع الصلوات ولترك الجهاد.
وفاته
عاش الشيخ عز الدين 83 عاماً يدعو إلى الله ويجاهد في سبيله، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلى أن توفي عام 660هـ، فخرج الرجال والنساء والشباب والأطفال يودعون سلطان العلماء، وصلى عليه سلطان مصر والشام - في ذلك الوقت - الظاهر بيبرس.
الخلاصة
خلاصة الأمر هو أن مكانة الأمة الإسلامية بين الأمم الأخرى تحددها مكانة العلماء في المجتمع الإسلامي والدور الذي يؤدونه في عملية بناء الدولة، وكذلك مستوى عمل الحكام بالشرع وتطبيقهم لمنهج الإسلام في أنفسهم وفي إدارة شؤون الدولة..
فكلما ارتفعت مكانة العلماء وزاد تطبيق شرع الله في داخل النظم الحاكمة وفي أوساط عامة المسلمين زادت الأمة تقدماً ونهوضاَ وقوة..أما إذا حصل العكس - كما هو حاصل في زماننا هذا – فسنظل في قاع الذل والعجز ونتهيب صعود جبال الرفعة العزة.. وكلما رضعنا من ثقافات ومناهج الأمم الأخرى وتركنا ما جاء به شرعنا زادت تبعيتنا وانصياعنا لتلك الأمم، ونظل دائماً صغاراً في نظرها..
وللأمة الإسلامية تجربة طويلة في العمل بتلك الثقافات والأفكار، فمنذ قرابة قرن من الزمان ونحن نسبح في بحار الأمم الأخرى خصوصاً الغربية وتتقاذفنا العواصف في كل اتجاه، ولم نجد إلى الآن شاطئاً نلجأ إليه.
وما يدور هذه الأيام من فتن واضطرابات في المنطقة العربية هو من تداعيات تلك العواصف والأعاصير التي وقعنا فيها.. فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا في دين الله.
ـــــــــــــــ ـــــــــــ
المصادر
- (البداية والنهاية)، ابن كثير.
- (مقدمة ابن خلدون)، ابن خلدون.
- (سلطان العلماء وبائع الأمراء)، د. علي محمد محمد الصلاَّبي.
- (المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي)، ابن تغري بردي.
- (مشاهير أعلام المسلمين)، علي بن نايف الشحود.
- (سلطان العلماء العز بن عبد السلام)، علي سالم النباهين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|