الثاني: المكوِّن الموضوعي:
لَم يكتف السارد بإقناعنا بإمكانيَّة تحوُّل بطله، من خلال المكوِّن الذاتي الذي اصطحبنا فيه عبر خمسين صفحة من السفر الأول - هي نصف السفر - بل ذهَب يُثير لنا دوافعَ موضوعيَّة تدعم تقنية "التحوُّل" التي بنى السارد شخصيَّة بطله على أساسها.
ولئن كان "حمدان" يَمتلك من السمات الشخصيَّة "النفسية - الجسمية" ما يؤهِّله للمرحلة التالية من أطوار نَمائه سرديًّا؛ فإنه بالقدر ذاته يَمتلك مبرِّرات موضوعيَّة لهذا التحول، ويتَّكئ السارد على أخلاقيَّات سيِّد حمدان ابن الحطيم الذي يمثِّل أحدَ مُرتكزات الإقطاع، وأحد أعمدة نظام الحُكم السائد المتمثِّل في "المال"، وتتَّضح صورة ابن الحطيم نموذجًا للإقطاعي الذي يتنعَّم من جهد وعَرَق الفلاحين، ويستمتع بالملاهي والملاذ من تعبهم أو شقائهم ونتاجهم الذي يؤول إليه، ولا يَصِلهم منه "إلاَّ نصيب ضئيل، لا يكاد يقوم بأَودهم من جشبِ الطعام، وخَشِن الملابس..."، "على حين يذهب معظم ما ينتجه عملهم المتواصِل إلى خزائن شاب قاعد عن العمل، مشغول بملذَّاته وملاهيه في قصوره المتعدِّدة بالكوفة، وجواسقه المنتثرة في ضواحيها"[11].
ويوضِّح السارد الأساليب الملتوية التي استخدَمها الحسن الحطيم في حياته - لضمِّ أراضي المُلاَّك الصغار ومنهم أبو حمدان - وشرائها منهم بثمنٍ بخسٍ بعد أن يكون قد أوْصلهم إلى حافة الانهيار.
ولَم يصمُد أمامه إلاَّ مالك كبير مثله هو الهيصم ابن أبي السباع الذي لا يقل عنه طمعًا وقمعًا واستغلالاً، ويطرح السارد وصفًا لأهالي القرية المنقسمين بين هذين المالِكَين، وما يدور بينهم من معارك حامية الوطيس؛ "إرضاءً لنزوات هذين السيِّدين الذين يتحكَّمان في رقابهم"[12].
يحب السارد أن يوجد معادلة أو موازنة بين الدافع الذاتي للتحوُّل والدافع الموضوعي، وهو هنا لا يغفل الدافع الموضوعي؛ إذ يجعله موازيًا للدافع الذاتي في مكوِّن بطله، وفي عمليَّة التحول التي يريدها له، فالشعور الذاتي بالظلم والمهانة والإهانة، والرغبة في الانتقام والانعتاق، يوازيه ما يجرُّه النظام الإقطاعي على المجتمع وعلى الفلاَّحين بالتحديد من ويلات ومفاسدَ، إضافة إلى سلوكيَّات هذا النظام القمعيَّة والاستيلائيَّة واللاأخلاقيَّة أيضًا؛ مما يستدعي ارتفاع الدافع للمقاومة والتغيير...، وهو هدف السارد البعيد.
الثالث: المكوِّن المعرفي:
وهو موضوع يتعلَّق بالرؤية وبالإمكانيَّات العقلية للبطل الذي هو ابتداءً "فلاح" مجرَّد فلاح، ونَودُّ أن نرافقَ السارد؛ لنرى كيف تعامَل مع هذا المكوِّن الذي يعدُّ أعقدَ المكوِّنات؛ لأنه يتمثَّل بخلق "الوعي" لدى "البطل - الفلاح"؛ إذ من السهل خلق المقومات الجسميَّة والدوافع النفسيَّة، غير أنه من العسير التوصُّل إلى خلق "وعي" بالمشكلة؛ لأنَّ هذا الوعي متعلِّق بالعقل، والعقل يتطلَّب معلومات ومعارف متاحة ومتراكمة، ومتنوعة ومتواصلة...؛ ليصل إلى المستوى المعرفي المكوِّن للوعي، فما بالك إنْ كان الشخص المطلوب تحصيل ذلك فيه هو مجرَّد "فلاح" في أقاصي السواد؟ هذا هو المحكُّ الاختباري لقُدرة السارد الفنيَّة، ومقياس لنجاح عنصر "الحبكة" في التوصِل المَرِن والسهل لمراد السارد الراوي في التكوين المعرفي لبطله.
المسألة "الفكرية" هي المسيطرة على السرديَّة، فالحبكة ستدير رَحاها حول قضيَّة "أيديولوجية" تاريخيَّة كمعادل موضوعي لفكرة معاصرة هي "الاشتراكيَّة"، والتي حاوَلت مدَّ نفوذها في أقطار الوطن العربي في منتصف القرن العشرين.
والفكرة أو الأفكار التي يريد السارد تبنِّيها من بطله، وإن كانتْ تمثِّل القرن السابع الهجري، إلا أنها لا تختلف عن الفكرة المعاصرة في شيءٍ.
لن نسألَ السارد كيف توصَّل البطل الفلاح إلى هذا المستوى المعرفي، إنَّ النص يكشف تماهيًا "تداخلاً" واضحًا بين "السارد - البطل"، ومن ثَمَّ فقد بدا لنا تكنيك "التماهي" الذي اختاره السارد في مرافقته للبطل، فهو هنا يتماهى معرفيًّا بالبطل؛ لينقل لنا فكرةً عن البطل، هي فكرة السارد ذاته، تلك الفكرة أنَّ بطله الفلاح يمتلك القُدرة على التعرُّف على خلفيَّة مُعاناته ورِفاقه الفلاحين، لكنه لا يمتلك القدرة على التغيير، إذًا السارد يضع بطله من أوَّل وَهلة على سكة المعرفة - مثله تمامًا - وهي دعوى أوليَّة لا بد أن تدخلَ في محكِّ التمحيص والفحص والاختبار، ومن ثَمَّ ستتجلَّى لنا حقيقتها وصِدقها.
إن علينا أن نُرافق "البطل - السارد" في رحلته مع "المكوِّن المعرفي"، حتى بلوغ مرحلة الاستواء، ولا بأْس أنْ نسرد مُجريات هذه الرحلة مختصرة؛ لنتمكَّن من الإحاطة بها من واقع السرديَّة ذاتها.
توسَّل السارد بعاملٍ خارجي - هو اختطاف عالية أُخت البطل - لينقله إلى المرحلة الثانية مرحلة "العيارة"، وذكرنا أنَّ هذا العامل الخارجي شكَّل حدًّا فاصلاً لا رَجْعة فيه للبطل؛ إذ سارَ البطل بعده بعيدًا عن ذاته في خطِّ السكة الحديد الذي وضَعه السارد، فيما ظلَّ السارد يلازم في الخط الموازي الآخر.
تحكي السرديَّة خُطوات البناء المعرفي للبطل مُبتدئة بالنقلة الأولى، والتي تضمَّنت أربعة نصوص سردية:
1- يتقدم ثمامة لخِطبة أُخت حمدان الصغرى راجية، يوافق حمدان من حيث المبدأ لحين التعرُّف تمامًا على ثمامة...، يمضي للسؤال عن ثمامة، فيكتشف أنه "عيَّار"[13].
2- يظهر حمدان غير ممتلك لفكرة محدَّدة عن العيَّارين؛ إذ إنه "استغرَب أن يكون مثل هذا الشاب الوسيم الطلعة الجميل البزَّة عيَّارًا"[14].
3- يبعث حمدان الردَّ لثمامة برفْض طلبه.
4- ثمامة يهدِّد حمدان ويتوعَّده وحمدان لا يعبأ؛ "لعِلمه أن جماعة الشطار لا يجدون عنده ما يطمعون فيه"[15].
هذه هي الخطوة الأولى التي ساق فيها السارد بطله في اتجاه المعرفة، إنه الاحتكاك المعرفي بالعيَّارين، وشد الانتباه لهم، كما أن السارد كشَف لنا المستوى المعرفي لبطله تُجاه العيَّارين، والذي تبيَّن منه:
1- محدوديَّة معرفة حمدان بالعيَّارين؛ إذ كيف يكون الإنسان جميلاً ويكون عيَّارًا في الوقت ذاته؛ "النص2".
2- تحديد موقفه من العيَّارين تبعًا لهذه النظرة، فيرفض طلب أحدهم زوجًا لأُخته؛ "النص3".
3- إظهار معرفته بالعيَّارين أنهم لا يهاجمون إلاَّ كبار المُلاَّك؛ "النص4".
يتناسب هذا المستوى المعرفي أو يقل مع المستوى العقلي لفلاح مُنهك مَكدود، ومشغول بتوفير لُقمة عيشة وأُسرته.
ولن نعرضَ للمُفارقة المعرفيَّة التي يَحشرها السارد حشرًا بواسطة "راجية" أُخت حمدان، والتي تدير مونولوجًا داخليًّا حول "ثمامة" وعيارته، ورفْض أخيها له، بما يكشف امتلاكها مستوًى معرفيًّا أكبر بالعيَّارين: قبولاً بهم، معرفة أساليب حياتهم ومغامرتهم، مبادئهم، أخلاقيَّاتهم، المخاطر التي تنتظرهم...إلخ، وهو ما لا نملك له تفسيرًا[16].
ولا لذلك المونولوج الآخر - الذي أداره عبدان خطيب عالية المخطوفة، والذي استغرَق ثماني صفحات من الصفحات العشر للوحدة السرديَّة الرابعة، والذي لا يقل كشفًا للمستوى المعرفي لعبدان، ليس عن العيَّارين وحدهم، بل وعن الحركات المسلحة الأخرى الخارجة عن السلطان.
لكننا سنعرض لبعض فقراته المتعلقة بالمستوى المعرفي لحمدان:
1- سماعه هو وحمدان عن أنباء ذلك الثائر في سباخ البصرة وجماعته من الزنج، "فكان هو وحمدان يحمدان الله على أن كان أهلهما بمنجًى منهم"[17].
2- حمدان لمن أشدِّ الناس عطفًا على هذه الطائفة من الناس؛ طالما ذكرها بخير، وطالما الْتَمَس لها المعاذير كلَّما ضاق صدرُه بمظالم الأغنياء وكبار المُلاَّك"[18].
يكشف لنا هذان النصان قدرًا أكبر من المستوى المعرفي لحمدان عبر ابن عمِّه "عبدان"، ولَم يكشف لنا السارد مثلها عبر صاحبها مباشرة، إن النصين يكشفان:
1- معرفة حمدان بإحدى جماعات الخروج المسلَّح على النظام، وهي جماعة "صاحب الزنج".
2- تعاطُف حمدان مع العيَّارين - جماعة خروج سرِّي - وبين التعاطف مع العيارين "النص الحالي"، والرفض لقَبول الزواج منهم "النص السابق"، تتَّضح مفارقة من نوعٍ آخرَ.
النقلة الثانية:
نص (1): "مضى أسبوع منذ اخْتفت عالية، لَم يهدأ لحمدان جنبٌ، ولَم يَقر له قرار، فقد اتَّصل بعامل قرية الدور، فأعْلَمه بالحادث؛ ليوعز إلى الشرطة بالبحث عنها"[19].
نص (2): "وبدا له أن يزورَ سيِّده ابن الحطيم؛ ليشكو له ذات أمره، ويستعين بجاهه ونفوذه"[20].
نص (3): "وكان حمدان قد تحرَّى قليلاً عن ثمامة فيما مضى...، فكان يسيرًا عليه أن يستأنفَ التحرِّي عنه...، واستطاع بعد لأْيٍ أن يعرف عصابة العيَّارين التي انضمَّ إليها ثمامة، ويعرف اسم رئيسها الشيخ سلام الشواف..."[21].
نص (4): "وتعلَّق أَمَله بعامل القرية ورئيس الشرطة من جديد؛ عسى أن يأتِيَه الفرج من قِبَلهما"[22].
نص (5): "وبلَغه ذات يوم أن ابن الحطيم في القرية، فخفَّ إليها وانْطَلق إلى قصره الكبير ليُقابله..."[23].
نص (6): "في قصر ابن الحطيم"[24]:
• حمدان: لولا بلادة هؤلاء الفلاحين، لَمَا استطاع مثلك أن يستمتعَ دونهم بثمرات كدِّهم، فيُقيم في مثل هذه القصر مُتقلبًا في أعطاف النعيم.
• قَيِّم القصر: هذا يقوله صاحب الزنج.
• حمدان: إن يكن هذا ما يقوله ذلك الرجل، فلمْ يقلْ إلاَّ صوابًا.
• حذارِ أن يعرفَ عنك التشيُّع لمذهبه فيَمسَّك الأذى.
• مالي ولصاحب الزنج؟ لا أعرفه ولا أعرف مذْهبه.
نص (7): "في قصر ابن الحطيم":
وانتظرَ حمدان في حجرة الاستئذان الخارجيَّة...، فوقَف يتأمَّل النقوش البديعة على جدران الحجرة مُحلاة بماء الذهب، والزخارف الدقيقة على الباب المنجور من الأبنوس الفاخر المطعَّم بالعاج الثمين، ترى كم بدرة من الذهب أنفقَ على هذه التصاوير والتخاطيط التي لا تكسو من عُري، ولا تُشبع من جوع؟...إلخ[25].
تلك سبعة نصوص خصَّص منها السارد نصيَّن؛ ليوضِّح موقف البطل من سيِّده الإقطاعي مالك الأرض "نص2، 5"، ونصَّين لكشْف موقفه من الحاكم الذي يمثِّله عامل القرية ورئيس الشرطة
"نص 4، 1"، والأربعة النصوص تكشف السذاجة السياسيَّة التي يظهر بها "البطل" "الفلاح" تُجاه أعمدة النظام الإقطاعي في البلاد "الحاكم - المالك".
كما تكشف حُسن النيَّة التي اتَّصف بها حمدان، وعدم حمْل أي فكرة سيِّئة أو حاقدة أو عدوانيَّة مُسبقة ضدهم، على الرغم من مشاعره الخاصة التي كشفَها السارد مطلع السرديَّة، والتي لَم تصلْ حدَّ الحقد أو الكراهية المطلقة.
النصان "3، 6" يكشفان الفرصة المعرفيَّة التي ساقَت البطل تجاه التعرُّف على إحدى الجماعات الخارجة على النظام "العيارين" "نص3"، كما كشَفت الأخرى تشابُه منطقه الرافض للظلم والاستبداد، مع منطق جماعة أخرى "صاحب الزنج" "نص6"، وذلك التشابُه يأتي تلقائيًّا على لسان البطل ودون قصْدٍ منه؛ إذ ينكر البطل أيَّ علاقة له بهذا الخارجي، أو أي معرفة به.
ويتَّضح أن السارد في النصين يسوق بطله؛ للتعرُّف والاتِّصال بجماعة العيَّارين كمرحلة أولى قبل أن ينقلَه إلى مرحلة الخروج الأخير، ومن ثَمَّ فهو يعزِّز في النَّصين علاقة الاتصال والمعرفة، فيما يغفل العلاقة مع جماعة الخروج المسلَّح، ويوحي فقط بتشابُه أفكار صاحبه بأفكار الجماعات كتمهيدٍ بين يدي التحوُّل الأخير.
النصان "6، 7": يعملان على تحرير المشاعر الساذجة للفلاح حمدان، وتنشيطها بخوْض تجربة مباشرة مع أحد أعمدة النظام القائم "مُلاَّك الأرض: سيده ابن الحطيم"، وهو مكوِّن معرفي يتولَّد بالتجربة الذاتية والتعلُّم الذاتي، وينجح هذا الموقف في رفْع حِدَّة التوتر وتنمية الرفض لدى البطل حمدان، والانتقال بمشاعره الحاسة بالظلم والامتهان إلى الرفض والإفصاح عن تلك المشاعر، كما أتاحَت له التعرُّف عن قُربٍ على مستوى الترف الذي يعيشه هؤلاء المُلاَّك على حساب الفلاحين، وكل هذه خُطوات معرفيَّة ستخدم التكوين المعرفي النهائي.
يتبع