عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 09-07-2021, 03:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,004
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مغازلة التاريخ في النص الشعري

مُتزوِّجة ولَسْتُ بأرمل
وَالْعَرَبي الذي يَقْتَنِيني
يَتَفَانَى فِي حُبِّي الأَمْثَل[33]

إنَّ غرناطة المُنتهكة تعادل إشبيلية المُعتمد وقرطبته المُهددتَيْن من "ألفونسو السادس"، وكلتاهما توازي الوطن العربي في حضوره الآني المهدَّد من الغرب، فاستحضار اعتماد المرأة الرمز يُحيل إلى المأساة التي حلَّت بالوطن الأندلسي، ومن ثَمَّ الوطن العربي عندما تَمَّ اغتصابه، ولَم يَعُد من حقِّ الأرض أن تَقبل أو ترفض؛ لأنَّ خطيبها قد غدا بلا حول أو قوَّة، تمامًا كما انتهى الحال باعتماد في قرية "أغمات"؛ لتتجرَّع فيها غصَص المهانة والذِّلة[34]؛ لتُصبح مأساة اعتماد معادلة لمأساة الوطن الكبير، الذي انتقَل من مرحلة السلطة والشموخ، إلى مرحلة الأَسْر والقهر.

ففحولة فِعْل الاستدعاء تتبدَّى عندما نُعيد قراءة البيت في ضوء الدَّلالة المعجميَّة للكلمة، وما تشير إليه من لجوء أصحاب السلطة - ملوك طوائف المعاصرين - إلى العدوِّ والاعتماد عليه، والهَرْولة من أجْل الحصول على رضاه، وهو ما ينعكس جليًّا في شطر البيت؛ حيث الخفيف والرمل من عابري البحور؛ بُغية الوصول إلى الغربي الغازي.

إنَّ استدعاء شخصيَّتي "المُعتمد بن عبَّاد" و"اعتماد الرميكية"، يمكِّن الشاعر من الإفراط في لوم الذات المعادلة للسلطة العربية المتواطئة؛ ليتَّخذ من هذا اللوم وسيلة للتنبُّؤ بالمستقبل الذي لن يقلَّ عن الماضي قتَامَة، طالما أنَّ مسببات الهزيمة ما زالت ساكنة في أرجاء الوطن؛ يقول شاعرنا:
تَبْرَأُ مِنَّا رُبُوعُ أَنْدَلُسٍ
جِزْيَتُهَا للأَدْفُونْشِ تُحْتَمَلُ

وَنَحْنُ، مَا نَحْنُ؟ غَيْرُ سَائِمَةٍ
عَنَانُهَا بِالْخِلافِ مُشْتَمِلُ

أَغْمَاتُ هَذِي المَأْسَاةُ أَحْمِلُهَا
وَفِي غَدٍ، أَلْمَلْهَاةُ تَكْتَمِلُ

أَغْمَاتُ لَيْسَ المُلُوكُ مِنْ مُضَرٍ
فَلْيَطْوِهِمْ بِالخُمُولِ مَنْ خَمَلُوا[35]




إذا كان استدعاء الشاعر لشخصيَّتي المُعتمد بن عبَّاد واعتماد الرميكية، يَملِك مشروعيَّته بوصفهما الوجْهَ العربي من مأساة الأندلس، فإنه يكون من البدهي استدعاء الشخصية الأخرى الممثِّلة للوجه الآخر من هذه المأساة، إنه "أدفونش"، وهي الترجمة العربية "لألفونسو" الحاكم الإسباني في عهد المُعتمد، ونلاحظ مواصلة الشاعر لعبته المراوغة، عَبْر توظيف "أغمات" التي تغدو هي المأساة التي يَحملها، أو بالأحرى النتاج الختامي لمأساته المتجدِّدة، في الوقت نفسه الذي تصير فيه "أغمات" معادلاً للمرأة المشتكى إليها، والتي يُفضي إليها المُعتمد باعتراف صريح عن تجرُّد الحُكَّام من عروبتهم الحاضرة بحضور "مُضَر"، وإن ظلَّت "مُضَر" علامة على العروبة المتجذِّرة في نفوسهم، وإن شابَها كثير من العوارض التي حالَت دون الوصول إليها، والنص بهذا يقدِّم حكمة إنسانيَّة بالغة العُمق، وهي أننا يمكن أن نجاوز الأَفْضِيَة المكانيَّة مجاوزة ماديَّة، ولكن هذه الأَفْضِيَة المكانيَّة لا يُمكن أن تجاوزنا رُوحيًّا؛ بفَضْل ما تغذَّينا به من خِبرات إنسانيَّة، وتعالقات رُوحيَّة، وذِكريات مُلِحَّة، "إنَّ البيوت التي فقَدناها تَظَل حيَّة في داخلنا، وهي تُلِح علينا؛ لأنها تعاود الحياة، وكأنها تتوقَّع منَّا أن نَمنحها تكملة لِمَا يَنقصها من حياة"[36]، وبهذا تتحوَّل أغمات من كونها فضاءً مجرَّدًا إلى كونها فضاءً معادلاً للتحوُّل المأسوي في حياة المُعتمد، ولتصير مُضَر علامة على ما طرَأ على السلطة العربيَّة من تحوُّلات جعَلتها تنفصل عن ماضيها، والشاعر بهذا يُقيم علاقة توافُقيَّة بين كلٍّ من الشخصية المستدعاة والفضاء المكاني المؤطِّر لحضورها؛ وذلك من خلال استجابته السريعة للتحولات التي تَطْرأ على بِنيتها وموازاتها بتحوُّلات على مستوى بنية الفضاء؛ ليَصير الفضاء المكاني - من هذه الناحية - عونًا مهمًّا للمتلقي؛ لكي يُدرك حدود التحوُّل في دور الشخصيَّة التي تغدو في نهاية القصيدة صوتًا ثائرًا، يثور أوَّل ما يثور على شِعْره، عبر صيغة استصراخيَّة فاجعة ومؤلِمة، توحِّد بين صوت المُعتمد المكلوم، وأبي همَّام البصير بأزمة أُمَّته:
أَنْدَلُسِي، يَا ضَيَاعَ أَنْدَلُسِي
حَسْبُكِ مِنَّا الْكَلامُ لاَ الْعَمَلُ[37]



إنَّ الأندلس الضائعة هنا ليستْ سوى المعادل الماضي لفلسطين المعاصرة، التي أوْشَكت على الضياع، إنها تجربة الفَقْد ذاتها، التي يَزداد وَعْي شاعرنا بها، بفَضْل تعمُّقه في مقاربة التاريخ الأندلسي.

إنَّ الأندلس التي يَبكيها الشاعر هنا ليستْ سوى الأوطان المُستلبة، وهو ما يؤكِّد "أنَّ الكاتب لا يَستطيع أن يَنسلخ من عصره وهو يُعيد تمثُّل التاريخ، سيُسقط عليه - واعيًا أو غيرَ واعٍ - همومَه ورؤيته وخِبرته، دون أن يكونَ التاريخ هو الذي يُعيد نفسه، بل إنَّ مشاعرنا وأحلامنا وخِبرتنا بمذاق الوجود، هي التي تُشكِّل فَهْمنا للماضي والحاضر معًا"[38].

بَقِي أن نُشير إلى أنَّ القصيدة في جوِّها العام المُعطَّر برحيق التحسُّر على المجد الزائل - كممارسة حتميَّة لاستنهاض الهِمم الخاملة التي ألِفَت الاستكانة والخضوع - تَستدعي القصيدة الرائقة لأبي البقاء الرُّندي التي يَبكي فيها الأندلس، والتي يقول في مَطلعها:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ
فَلاَ يُغَرَّ بِطِيبِ الْعَيْشِ إِنْسَانُ

هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ
مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ



ويَختمها بقوله:
لِمِثْلِ هَذَا يَذُوبُ الْقَلْبُ مِنْ كَمَدٍ
إِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ إِسْلامٌ وَإِيمَانُ



كلمات ابن حزم: الاستدعاء الضِّمني:
غَادَرْتُكُمْ لاَ تَرُوقُ صُحْبَتُكُمْ
غَمَامُكُمْ رَاعِدٌ وَلاَ مَطَرُ

وَبَأْسُكُمْ بَيْنَكُمْ وَشَانِئُكُمْ
يَحْكُمُ فِيكُمْ وَشَأْنُهُ الْبَطَرُ[39]



يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.87%)]