عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 09-07-2021, 03:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مغازلة التاريخ في النص الشعري

مغازلة التاريخ في النص الشعري


علاء عبدالمنعم إبراهيم غنيم



من المُعتمد بن عبَّاد: الاستدعاء المُراوِغ:


على الرغم من أنَّ فِعل الاستدعاء - استدعاء الشخصية التاريخيَّة - يعتمد بشكلٍ رئيس على مراوغة المتلقي، وإيهامه بأنَّ القائل في الزمن الحالي هو صوت قادم من الماضي، فإن أبا همَّام - حفيد الشمَّاخ ووارِث قوسه[26] - يُكسب شخصياته المستدعاة مزيدًا من الطابع المراوغ، عندما يجعل لاسم الشخصية أكثرَ من دلالة، دلالة قريبة تُحيل إلى الشخصيَّة بحضورها المرجعي وسيرتها المتواترة، فالقيمة الوظيفيَّة للشخصية المستدعاة هنا، تتحقَّق بقدرة اسم الشخصية على تحقيق العمليَّة الاستدعائية للشخصية المرجعية الحاملة لهذه العلامة اللغويَّة؛ أي: إنَّ إنتاجيَّته الدلالية تتشكَّل من خلال الربط بينه وما يَرمز إليه، أمَّا الدلالة البعيدة، فتتبدَّى عندما نقرأ الكلمة بعيدًا عن تصنيفها النحوي، بوصفها "اسم علمٍ"؛ أي: بقراءتنا لها قراءة مُعجميَّة، ففي هذه الحالة تتكشَّف لنا لعبة الشاعر بالغة الدَّهاء، فالكلمة تتلوَّن بمعنًى جديدٍ يزيد من وَهَجِ النص وألقته، نلمح هذه المقدرة الشعرية بوضوح في نص "من المُعتمد بن عبَّاد إلى ملوك الطوائف"؛ يقول شاعرنا:
جُرْحِيَ دَامٍ وَمَا بِنَا أَمَلُ
وَالرُّومُ مِنْ حَوْلِنَا هُمُ الأَمَلُ

نَرْعَى خَنَازِيرَهُمْ وَلَيْسَ لَنَا
مِنْ رَعْيِهَا نَاقَةٌ وَلاَ جَمَلُ

قُصُورُنَا تَاجُهَا صَقَالِبَةٌ
وَشَعْبُنَا فِي عُيُونِنَا هَمَلُ

وَكُلُّنَا قَادِرٌ وَمُعْتَمِدٌ
أُسُودُنَا لاَ يَهَابُهَا الْحَمَلُ

إِلَى اعْتِمَادٍ تَكُونُ قِبْلَتُنَا
يَمْثُلُ فِيهَا الْخَفِيفُ وَالرَّمَلُ[27]



إننا هنا بإزاء نصٍّ تُنبئ افتتاحيَّته بما ستنطوي عليه قادمات البيوتات من حسٍّ ثوري، يتمرَّد على المعيش الواقعي، عبر استدعاء الماضي المنغمس في المتخيل، وبالطبع فإنَّ هذا الاستدعاء لا يتم بُغية التبرُّك بالماضي السحيق، أو اجتراره عبر ممارسة سادية أو مازوغية؛ وإنما بُغية استدعاء الحاضر المنسي - بفِعل مألوفيَّة ألَمه وتَكرار مأسويَّته - عبر الاستعانة بالماضي الحاضر في وَعْي المتلقي، مُقترنًا بفداحة الانكسار، وألَم الفَقْد والاستلاب؛ إذ يمكن للمتلقي أن يقوم بعمليات استبدالية تضع الآني محلَّ الماضي؛ ليجد أنَّ دَلالة النص تَصير أكثر تماسُكًا وانسجامًا، فعندما نحذف كلمة "الروم" أو "الصقالبة"، ونضع مكانها الإنجليز أو الفرنسيين أو البرتغاليين في الماضي القريب، والأمريكيين في الماضي الأقرب، نصير في إطار نصٍّ تتجذَّر فيه الواقعيَّة الراصدة لانكسارات العالم العربي الحالي، واعتماده على الآخر الغربي، مع ملاحظة أن تاريخ كتابة النص يُثبت أنه كُتب قبل الغزو الأمريكي للعراق، ولكنها بصيرة الشاعر، "فإذا كانت سلطة الخطاب الشعري مُتجذِّرة في تاريخنا القومي، منذ كان الشاعر اللسان والعين الباصرة لأُمَّته، وارتبطَ مَجده بقُدرته على بَلْورة الرؤية الجماعية في صِيَغ شهيرة وسعيدة، فإنها قد اختزَلت أنواع الخطاب السياسي والفكري والثقافي، وراهَنَت على وراثتها جميعًا"[28].

وعندما نستبدل عرب المشرق والمغرب بالأندلسيين، تغدو الأمثولة وقد استقطَرت فاعليَّتها، واستنفَدَت عصارتها الخاصة التي يقدِّم الشاعر عَبْرها تحذيرَه الزاعق لأُمَّته، ومن ثَمَّ يُصبح هذا الاستدعاء أحدَ أنجز الأدوات لخَلْخَلة الواقع وتفكيكه، وإعادة قراءته، وأكثرها فاعليَّة، مما يوفِّره من دَلالات تُغازل الأُفق التأويلي للمتلقي، وتَنزع إلى استثارة حسِّه التحليلي لاكتشافها؛ وذلك لأن "معنى النص - باعتبار النص بكامله علامة - لا وجود له في غيبة المتلقي"[29]، الذي يستكشف الدَّلالات النَّصِّية لفِعل القول.

إن كلمات "قادر" و"مُعتمد" و"اعتماد"، تُحيل بالضرورة إلى شخصيات ذات مرجعيَّة تاريخية محدَّدة ومعروفة للمتلقي، ولأنه لا يُمكن لنصٍّ إبداعي حقيقي - مثل نصوص الدكتور عبداللطيف عبدالحليم - أن يتأسَّس على العشوائية، فإن اختيار الذات الشاعرة لهذه الشخصيات، ليس سوى نتيجة لجملة معايير حادة، اشتغَلَت بوصفها مرشحات انتقائيَّة تُحقِّق أهداف الشاعر، وأهمها مُلاءَمة تاريخ الشخصية للموقف الشعري، فضلاً عمَّا يتميَّز به هذا التاريخ من حسٍّ درامي، والحق أنَّ اختيار شاعرنا "للمُعتمد بن عبَّاد" يَملك مقومات رصانته من هاتين الناحيتين؛ حيث تكشف لنا مقاربة سيرة المُعتمد أنه قد تعاوَن في بعض الأوقات مع "ألفونسو" ملك الإسبان؛ ليحمي مملكتيه: "إشبيلية، وقرطبة"، قبل أن يثورَ على الوضع الجائر، ويسعى إلى تخليص الأندلس من سطوة الإسبان، فلم يجد غضاضة في الاستعانة بمرابطي المغرب، فما بين الاستكانة والثورة يتوزَّع تاريخ الشخصية، ومِن ثَمَّ عندما تتحدَّث الشخصية داخل النص - بصيغة الجمع التي تَشملها - عن تَخاذُلها وضَعْفها، فهي تُكسِب حديثها مشروعيَّة تداوُليَّة تَنبثق من تاريخها الخاص، فالشاعر المؤمن بأهميَّة بناء جِسر من الثقة بينه وبين مُتلقيه عَبْر تعميق الحِس التوثيقي داخل النص، فالمتلقي يُلفي ذاته في مواجهة نصٍّ تُعلن افتتاحيته عن حضور ناجع لمفهوم الرواية الموثَّقة، وذلك عبر "صيغة الجمع" التي تَجعل من المُعتمد أنموذجًا لغيره من ملوك الطوائف الذين مارَسوا السلوك المستهجن عينَه، بمهادنتهم الإسبانَ، وارتمائهم في أحضانهم، وهو ما يؤدِّي إلى النفي الشكلي لتخيُّليَّة النصِّ واستبدال الحِس الواقعي به، وكأن المُعتمد يتَّخذ نفسه مثالاً يَفضح ممارسات السلطة الخانعة، إنه أحد أشكال جَلْد الذات المؤلِم في تلقِّيه، والضروري في استفزاز المتلقي وحَفْزه على الثورة على تاريخ أصحابه.

وإذا ما انتقَلنا إلى المحور الدرامي، فسنجد أنَّ حياة المُعتمد مشحونة بالأحداث الدرامية، فإذا كان "الحدث الدرامي ليس فقط كائنًا عضويًّا تترابط أجزاؤه بالضرورة والحتميَّة، ولا ينفرد جزءٌ بوظيفة عن الأجزاء الأخرى، إنه حدث له بداية ووسط ونهاية"[30]، فإن بداية حياة المُعتمد ونشأته المرفَّهة، ثم صراعه مع بقيَّة الممالك، ومن بعدها مع الإسبان، ونهايته المأسوية وحيدًا منفيًّا، مُعتقلاً ومقيَّدًا بالأغلال في "أغمات"، بعدما انقَلَب عليه المرابطون الذين استدعاهم لنُصرته، وهو ما عَبَّر عنه شعرًا بقوله:
غَرِيبٌ بِأَرْضِ المَغْرِبَيْنِ أَسِيرُ
سَيَبْكِي عَلَيْهِ مِنْبَرٌ وَسَرِيرُ

وَتَنْدُبُهُ الْبِيضُ الصَّوَارِمُ وَالْقَنَا
وَيَنْهَلُّ دَمْعٌ بَيْنَهُنَّ غَزِيرُ

سَيَبْكِيهِ فِي زَاهِيهِ وَالزَّاهِرُ النَّدَى
وَطُلاَّبُهُ وَالعَرْفُ ثَمَّ نَكِيرُ

إِذَا قِيلَ فِي أَغْمَاتَ: قَدْ مَاتَ جُودُهُ
فَمَا يُرتَجَى لِلْجُودِ بَعْدُ نُشُورُ



وبالطبع فإن المُعتمد يُرسل هذه الرسالة الشعرية من موقع تخيُّلي، يستعيد فيه ماضيه - وماضي أُمَّته - ليُعيد قراءته في ضوء المستجدات الآنيَّة، وطَبَعي أن نتوقَّع حدوث نوع من المفارقة في وعي المتلقي، هذه المفارقة الناتجة عن التبايُن بين صورة الشخصيَّة التاريخية التي يَستدعيها بمصاحبة مفرداتها كلها، والشخصية عينها عندما ينضاف إلى مفرداتها هذا الامتداد لتاريخ الشخصية؛ "إذ تُصبح هذه الإشارات التراثية بمثابة اللمسة الفنيَّة المركزة التي تُساعد على تكثيف الصورة الفنية بما توحي به من دَلالات، وتُقيم في الوقت ذاته جدلاً ذهنيًّا عند المتلقي يحتكم فيه إلى نتائج التجربة التراثية؛ لكي يوازي بينها وبين الحدث الدرامي الماثل أمامه، كلُّ هذا في نسقٍ لُغوي مُحكم"[31]، إنها المفارقة بين قناعاته الماضية ومعارفه الحاليَّة المتطورة.

وتتكثَّف الأبعاد الدرامية لشخصيَّة "المُعتمد بن عبَّاد"، عندما نستدعي قصته الشهيرة مع "اعتماد الرميكية"، هذه القصة التي تتوزَّع بين التاريخ والأسطورة، وهي القصة المؤطَّرة بأساطير العُشَّاق، كتغيير المُعتمد اسمَه؛ ليصير أكثر انسجامًا مع اسم محبوبته التي قابَلها على ضفة النهر، وطلَب منها إجازة شطر بيته؛ لتُصبح زوجه المحبوبة التي تواصل كُتُبُ الأخبار سَرْدَ ما أغْدَقه عليها من مُتعٍ دنيويَّة، ومنها قصتها الشهيرة مع الطين[32].

وعلى الرغم من التوافُق الكامل بين تاريخ الشخصية والموقف الشعري، فإن مراوغة الممارسة الاستدعائية تصل إلى مداها عندما ننظر إلى كلمة "المُعتمد" بعيدًا عن سطوة التاريخ؛ حيث يُصبح اسم الفاعل هنا دليلاً ناجزًا على الخيانة؛ خيانة السلطة الحاكمة لشَعبها بِهَرولتها تُجاه العدو، مع قُدرتها على التمسُّك بموقفها.

وهذه الإمكانية الحاضرة عبر اسم الفاعل "قادر" - وهي كلمة مراوغة أيضًا؛ إذ يمكن التعامل مع الكلمة بوصفها اسمَ علمٍ يَشمل ملوك الأندلس المغاربة، الذين لا يزال هذا الاسم يتمتَّع ببريقه في وجدانهم إلى اليوم - فمجاورة اسم الفاعل "مُعتمد" إلى اسم الفاعل "قادر"، يزيد من فداحة فِعل الخيانة عندما ينفي أيَّة مُبرِّرات أو مسوغات قد تُتَّخذ ذريعة لتبرير التعاون مع الآخر ضد الأخوَّة، والشاعر بهذا يُعلن عدم غُفرانه لملوك الطوائف استعانتَهم بالإسبان ضد إخوانهم، وما يُحيل إليه هذا المعنى من دَلالة معاصرة تتجلَّى دون جهد.

أمَّا "اعتماد"، فإنها تتجرَّد هنا من حضورها الأنثوي الفردي، ومرجعيَّتها التاريخية المحددة؛ لتغدو دالاًّ رمزيًّا شفيفًا، يُحيل إلى الوطن المُفتقد في أبهى صُوَره، فقد دأَبَت المخيلة الإبداعية في الثقافات كلِّها على اتِّخاذ المرأة رمزًا للوطن، وقد حَفِظت الذاكرة الإنسانية أغنيَّة شهيرة من الرومانس الإسباني كان أهل غرناطة يتغنَّوْن بها، ويُباهون بها الآخرين، باعتبار أنَّ وطنهم يأبى الخضوع للقشتاليين، ويَحتفظ بنسبه العربي، وفي هذه الأغنية يتمُّ تصوير غرناطة كامرأة جميلة يَطلبها الملك الإسباني "دون خوان" للزواج، فتَرفض مُعلنة تَمَسُّكَها بخطيبها العربي، تقول الأغنية:
إنْ أحْبَبْتِ يا غِرناطة
أنْ تُزفِّي لِي كعَرُوسٍ مُعجبة
فَإِنِّي سوفَ أَهبُكِ صَدَاقًا
إشْبِيلية وقُرْطُبة
فترد عليه المدينةُ قائلة:
مُتزوِّجة أنا دُون خوان
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.50 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.40%)]