عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 06-07-2021, 02:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,887
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (17)
صـ278 إلى صـ 287

المسألة الحادية عشرة

طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول أنه متوجه على الجميع ، لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ، وما قالوه صحيح من جهة كلي الطلب ، وأما من جهة جزئيه ففيه تفصيل ، وينقسم أقساما ، وربما تشعب تشعبا طويلا ، ولكن الضابط للجملة من ذلك أن الطلب وارد على البعض ، ولا على البعض كيف كان ، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما .

والدليل على ذلك أمور :

أحدها : النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية [ التوبة : 122 ] ; فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع .

وقوله : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف الآية [ آل عمران : 104 ] .

[ ص: 279 ] وقوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم [ النساء : 102 ] الآية إلى آخرها .

وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ، ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع .

والثاني : ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى كالإمامة الكبرى أو الصغرى ; فإنهما إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس ، وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها ، والغناء فيها ، وكذلك الجهاد ـ حيث يكون فرض كفاية ـ إنما [ ص: 280 ] يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة ، وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية ; إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد ; فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف ، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة ، وكلاهما باطل شرعا .

والثالث : ما وقع من فتاوى العلماء ، وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى ، فمن ذلك ما روي عن محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد قال لأبي ذر يا أبا ذر : إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم ، وكلا الأمرين من فروض الكفاية ، ومع ذلك ; فقد نهاه عنها ، فلو فرض إهمال الناس لهما ; لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج [ ص: 281 ] الإهمال ، ولا من كان مثله .

وفي الحديث : لا تسأل الإمارة ، وهذا النهي يقتضي أنها غير عامة الوجوب ، ونهى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بعض الناس عن الإمارة ، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ، وليها أبو بكر فجاءه الرجل فقال : نهيتني عن الإمارة ، ثم وليت فقال له : " وأنا الآن أنهاك عنها " ، واعتذر له عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا .

وروي أن تميما الداري استأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما ـ في أن يقص ; فمنعه من ذلك ، وهو من مطلوبات الكفاية ـ أعني : هذا النوع من [ ص: 282 ] القصص الذي طلبه تميم ـ رضي الله عنه ـ ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ .

وعلى هذا المهيع جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات ; فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم : أفرض هو ؟ فقال : " أما على كل الناس فلا " يعني به الزائد على الفرض العيني ، وقال أيضا : " أما من كان فيه موضع للإمامة ; فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب ، والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه " فقسم كما ترى ، فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه ، ومن لا جعله مندوبا إليه ، وفي ذلك بيان أنه ليس على كل [ ص: 283 ] الناس ، وقال سحنون : " من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم ; ففرض عليه أن يطلبها ؛ لقوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [ آل عمران : 104 ] ، ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به ؟ أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه ؟ " .

وبالجملة فالأمر في هذا المعنى واضح ، وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول .

لكن قد يصح أن يقال : إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز ; لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ، فهم مطلوبون بسدها على الجملة ، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة ، وذلك من كان أهلا لها ، والباقون [ ص: 284 ] وإن لم يقدروا عليها ـ قادرون على إقامة القادرين ، فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها ، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر ، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها ، فالقادر إذا مطلوب بإقامة الفرض ، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر ; إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة ، من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر .
فصل

ولا بد من بيان بعض تفاصيل هذه الجملة ليظهر وجهها ، وتتبين صحتها بحول الله .

وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ألا ترى إلى قول الله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ النحل : 78 ] ، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية ، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه ، وتارة بالتعليم ; فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح ، وكافة ما تدرأ به المفاسد إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية ، والمطالب الإلهامية ; لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح ـ كان ذلك من قبيل الأفعال أو الأقوال أو العلوم ، والاعتقادات أو الآداب الشرعية أو العادية ـ وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه ، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال ، فيظهر فيه وعليه ، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ [ ص: 285 ] تلك التهيئة ، فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته ، فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم ، وآخر لطلب الرياسة ، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها ، وآخر للصراع ، والنطاح إلى سائر الأمور .

هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي ، فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه ، فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها ، فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه ، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها ، ويراعونها [ إلى ] أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم ، ويعينونهم على القيام بها ، ويحرضونهم على الدوام فيها حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط ، ثم يخلى بينهم وبين أهلها ، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها ، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية والمدركات الضرورية ، فعند ذلك يحصل الانتفاع وتظهر نتيجة تلك التربية .

فإذا فرض ـ مثلا ـ واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك وجودة فهم ووفور حفظ لما يسمع ـ وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف ـ ميل به نحو ذلك القصد ، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة ; مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم ، فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم ، ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به ويعان عليه ، ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء ، فإذا دخل في ذلك البعض فمال [ ص: 286 ] به طبعه إليه على الخصوص ، وأحبه أكثر من غيره ، ترك وما أحب ، وخص بأهله ، فوجب عليهم إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له ، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته ، ثم إن وقف هنالك فحسن ، وإن طلب الأخذ في غيره أو طلب به ; فعل معه فيه ما فعل فيما قبله ، وهكذا إلى أن ينتهي .

كما لو بدأ بعلم العربية مثلا ـ فإنه الأحق بالتقديم ـ فإنه يصرف إلى معلميها فصار من رعيتهم ، وصاروا هم رعاة له ، فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم ; فإن انتهض عزمه بعد إلى أن صار يحذق القرآن صار من رعيتهم ، وصاروا هم رعاة له كذلك ، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم ، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور فيمال به نحو ذلك ، ويعلم آدابه المشتركة ، ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به ، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض ، وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم ; لأنه سير أولا في طريق مشترك ، فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة ، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية ، وفي التي يندر من يصل إليها كالاجتهاد في الشريعة والإمارة ; فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة .

فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد ولا هو على الكافة بإطلاق ، ولا على البعض بإطلاق ، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل ، ولا بالعكس ، بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يفصل بنحو من هذا التفصيل ، ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع [ ص: 287 ] وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه . والله أعلم وأحكم .







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.70 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.81%)]