عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-07-2021, 05:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي منهج الإمام ابن القيم في صياغة القواعد والضوابط الفقهية

منهج الإمام ابن القيم في صياغة القواعد والضوابط الفقهية
محمد بن عبدالله بن عابد


المقدمة:
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله فلا مضِلَّ له، ومَن يضْلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ عِلْم القواعد الفقهيَّة علْمٌ عَظُم شأنه وقدْرُه، وعَلا شرَفُه وفخْرُه؛ لامتِزاج الفروع فيه بالأصول، واعتِضاد المنقول فيه بالمعْقول.
ونظرًا لأهمية هذا العلم، وكثْرة مَباحثه؛ فقد عقَدْتُ العزْم على دراسة جانب مِن جوانبه لم يُعْطَ من الأهمية ما يَستحِقُّ، ألا وهو مَناهج الفقهاء في التقْعيد والتَّأصيل.
ونظرًا لكثرة هذه المناهج وتشعُّبِها؛ فقد قصَرْتُ البحث على منهج إمامٍ مشهور بالتقعيد والتأصيل؛ ألا وهو الإمام: شمْسُ الدِّين محمدُ بنُ أبي بكر بن أيوبَ الزرعِيُّ الدِّمَشْقي، المعروفُ بابنِ قَيِّمِ الجَوْزيَّة (ت 751 هـ).
وبِناءً عليه يُمكن إجمال الأسباب الدَّاعِيَة لاختيار هذا الموضوع في الآتي:
1 - المكانة العلمية الكبيرة للإمام ابن القيِّم - رحمه الله - فهو تلميذُ شيْخِ الإسلام ابن تيميَّة الأَبْرز، ووارِثُ علومِه وناشرُها، إضافةً إلى كونه من العلماء القلائل الذين كانت لهم اليَدُ الطُّولَى، والقَدَم الرَّاسخة في التَّقْعيد والتأصيل، مع ما كَتب الله لمؤلَّفاته مِن القَبول بين المُوافق والمُخالف.
2 - أنَّ دراسة مَناهج الأئمَّة الكبار في التقعيد والتأصيل - وعلى رأسهم الإمام ابن القيم - فيه إسْهام في خِدْمة علومِهم، وكشْفٌ عن جوانبِ التَّجْديد والإبْداع الفقْهي لديْهم.
3 - قلَّةُ الدِّراسات المتعلِّقة بمناهج الأئمة في القواعد الفقهية، فأغلب المؤلفات والبحوث والدراسات كانت باتجاهِ استخراج القواعد والضَّوابط الفقهية من خلال كتاب معيَّن، أو لإمام معين من خلال كتبه، أو دراسةِ بعْضِ القواعد الفقهيَّة المشهورة، أو تحقيق بعض المؤلفات في هذا الفَن، وأمَّا ما يتعلَّق بدراسة مناهج الفقهاء في التَّقْعيد والتأصيل فلا تَزال شحيحةً؛ ولذلك كان هذا البحثُ أداءً لبعض الحقِّ في هذا الجانب.
ونظرًا لطُول مادَّة هذا البحث، وتفَرُّقها بين مؤلَّفات الإمام ابن القيم، البالغة أكثر مِن ستَّةٍ وثلاثين كتابًا، ولِكثْرة جوانب التميُّز في التقعيد والتأصيل لدَيْه؛ فإنَّني قد قصَرْتُه على جانب واحد من جوانبِ منهجه في التقعيد والتأصيل، ألاَ وهو جانب الصِّياغة، مُرْجِئًا الحديث عن باقي الجوانب إلى بُحوث أخرى قادِمةٍ - بإذن الله.
الدِّراسات السابقة:
لم أجد - فيما اطَّلعْتُ عليه - دراسةً سابقةً تناولَتْ هذا الموضوع، إلا دراستين، وهُما:
1 - منهج الإمام ابن القيم في القواعد الفقهية؛ للدكتور أنور صالح أبو زيد.
وهي رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنوَّرة[1].
وقد قَسَّم بحْثَه إلى قسمين:
الأول: في منْهجِه في الاستدلال.
والثاني: في منهجه في التطبيق، وخصَّص في هذا القسم فصلاً عن منهجه في صياغة القاعدة، وجعَلَه في مَبْحثين:
المبحث الأول: ما صاغَه صياغةَ أهلِ هذا الفن.
المبحث الثاني: ما صاغَه بأسلوبِه الخاص.
وهذا كلُّه لا يمثِّل إلا مَطْلبًا واحدًا من المبْحَث الأخير في هذا البحث، إضافةً إلى أنَّ طريقة عَرْضي لهذا الموضوع مُغايِرةٌ لطريقة عرْضِه، ومستقِلَّةٌ عنها، وهذا يُعْلَم مِن خلال المقارنة بين البحثين.
2 - القواعد الفقهيَّة المستخرَجة من كتاب "إعلام الموقعين"؛ للدكتور عبدالمجيد جمعة[2].
وقد تحدَّث في فصْلٍ من القسم الأول من كتابه، عن منْهَج ابن القيم في القواعد، وحصَرَه في أربع نقَاط؛ وهي: التَّأصيل، والنَّقْد، والاستدلال، والصياغة.
ولَم يتحدَّث عن الصياغة إلا في نصْفِ صفحة بكلام إنشائي عام.
خطة البحث:
قسَّمْتُ هذا البحثَ إلى مقدِّمة، وتمْهِيد، وخمسةِ مباحث، وخاتِمة.
المقدِّمة: وتشمل: أسبابَ اختيارِ الموضوع، والدِّراسات السابقة، وخُطَّة البحث.
التمهيد: في تعْرِيف المنْهَج والقواعد والضَّوابط الفقهية.
المبحث الأول: منْهَجه باعتبار الإيجاز والإطْناب.
المبحث الثاني: منْهجه باعتبار الإفْراد والتَّركيب.
المبحث الثالث: منهجُه باعتبار التَّكْرار وعدَمِه.
المبحث الرابع: منهجُه باعتبار الجزْم والتردُّد.
المبحث الخامس: منهجه باعتبار الاستِقْلال والتَّبَعية.
الخاتمة: وفيها أهمُّ نتائج البحث.
واللهَ أسألُ أن يَجعل هذا العملَ خالصًا لوجهه الكريم، وأنْ يرزُقَنا السَّدَاد في القول والعمل، إنه سَمِيع مُجِيب.
التمهيد: في تعريف المنهج والقواعد والضوابط الفقهيَّة:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف المنهج:
أولاً: التعريف اللغوي:
المنهج في اللُّغَة: الشَّيْء الواضح الذي يَسير المرْء على وَفْقِه، كالطَّريق وما في معناه.
قال - تعالى -: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[المائدة: 48]، وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما -: "سُبُلاً وسنة"[3].
ونَهَج لِيَ الأمْر: أوضحه، ونَهَجْت الطريق: إذا أبَنْته وأوضَحْته.
وفلان يَسْتَنهِج سبيلَ فُلان: أي يَسلك مَسْلَكه[4].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
لم أقِفْ على تعريفٍ محدَّد للمنهج عند المتقدِّمين، وإنْ كانوا قد استعملوه لبيان الطُّرُق والأساليب والوسائل التي تؤدِّي إلى المقصود.
وقد دَرَج كثيرٌ من العلماء على إضافة "المِنهاج" لأسماء مؤلَّفاتِهم؛ جَرْيًا على هذا الاصطلاح، ومِن تلك المؤلَّفات: المنهاج في شُعَب الإيمان؛ لأبي عبدالله الحليمي (ت 403 هـ)، والمنهاج في ترتيب الحجَّاج؛ لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ)، ومِنْهاج الطَّالبين؛ للإمام النَّوَوي (ت 676 هـ)، ومنهاج الوُصول إلى عِلْم الأُصول؛ للقاضي البيضاوي (ت 685 هـ)، ومنهاج السُّنَّة النبويَّة؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة (728 هـ)، ومَنْهج الطُّلاَّب؛ لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت 926 هـ)، وغيرها.
وفي العصر الحاضر توسَّع مَدلول كلمة "المنهج"، وأُلِّفَتْ فيه كتُبٌ وبُحوث عديدة، حتى أَصبح عِلمًا مستقلاًّ قائمًا بِذاته، وله مَدارِسُه، ونُظُمه، وأساليبه، وعُرِّف بتعريفات عديدة متقاربة، منها:
• "أنه وَسيلة مُحدَّدة توصِّل إلى غاية محدَّدة"[5].
• "خُطوات مُنظَّمة يتَّخِذها الباحث؛ لِمعالجةِ مَسألةٍ أو أكْثَر، ويتَّبعها للوصول إلى نتيجة"[6].
• "هو الطريق المؤدِّي إلى الكَشْف عن الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفةٍ من القواعد العامة التي تُهَيمِن على سَيْر العَقْل وتحديد عَمَليَّاته، حتَّى يَصِل إلى نتيجة معلومة"[7].
ويُمكن أن نَستخلص مِن التَّعريفات السَّابقة أنَّ المنهج وإِنِ اختلفَتْ مَجالاته تَبعًا لاخْتلاف العلوم وتنوُّعِها، فلا بدَّ مِن توافُرِ شُروط ثلاثة فيه، وهي[8]:
1 - أنْ يَكون واضحًا بيِّنًا، لا لبس فيه.
2 - أن يكون منظَّمًا مُرتَّبًا ومحدَّدًا، يُمكِن السَّيْر على مِنْواله.
3 - أن يُوصَل إلى نتيجة معلومة؛ سواء أكانت ذِهْنيَّةً أم مَحسُوسة.
وبِناءً على كلِّ ذلك، فإنَّ المُراد بالمنهج في هذا البَحْث هو: الطُّرُق والأساليب، والوسائل الواضحة التي سَار عليها الإمامُ ابنُ القيِّم في استخراجِ وبناءِ وصياغةِ القواعد والضَّوابط الفقهية.
المَطْلب الثاني: تعريف القاعدة الفقهية:
أولاً: التعريف اللغوي:
القاعدة في اللُّغة: تأتي لِمَعانٍ عديدة، تَدور حول معْنيَي الاستِقْرار والثَّبات، فمِن ذلك القُعود، وهو نَقيض القيام، وقَواعد البيت: أُسُسه التي عليها يَثْبت، وبِها يستَقِرُّ[9].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
للقاعدة الفقهية تعريفاتٌ كثيرة عند القدماء والمُعاصرين، وقد استَعْرَضها عددٌ من الباحثين، وذكَروا ما يَرِد عليها مِن نقود وردود، ثم اجتهدوا في الخروج بتعريف جامع مانع، خالٍ من الإيرادات والاعتراضات[10].
ولعلَّ أرجحَ تعريف للقاعدة الفقهية هو: "قضيَّةٌ كُلِّية فقهية، منطَبِقة على فروع من أبواب"[11].
المطلب الثالث: تعريف الضابط الفقهي:
أولاً: التعريف اللغوي:
الضَّابط اسمُ فاعل، مِن ضَبَط الشيء: إذا حَفِظه بحَزْم، ورجل ضابط: شديدٌ حَازم[12].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
بِناءً على ما سبق مِن تعريف القاعدة الفقهيَّة، يُمكِن تعريف الضابط بأنه: "قضية كلِّيَّة فقهيَّة منطَبِقة على فروع من باب"[13].
والفرْق بين القاعدة والضابط: أنَّ القاعدة تشمل فروعًا مِن عدَّة أبواب، والضَّابط يشمل فروعًا من باب واحد من أبواب الفقه[14].
المبحث الأول: منهجه باعتبار الإيجاز والإطناب
الأصل في القواعد الإيجاز، فتُصاغ بكلمتين أو بِضْع كلمات محْكَمة مِن ألفاظ العموم[15]، وقد سَار ابن القيم على هذا الأصل في معظم قواعده وضوابطه، حتى إنَّ بعْضَ قواعده وضوابطه لا تتجاوز الكلمتين والثلاث؛ مثل:
قاعدة: "الإسلام يَعلو ولا يُعلى"[16].
قاعدة: "خِيَار الأمور أوسَاطها"[17].
قاعدة: "الواجب تابع للعلم"[18].
قاعدة: "التابع لا يُفْرَد بحُكم"[19].
ضابط: "الوِتْر عبادة مستقِلَّة"[20].
ضابط: "الأصل الإتمام"[21].
وقد خَرج عن هذا الأصل قواعدُ وضوابطُ أطال في صياغتها؛ لأسباب خاصة، ومن تلك الأسباب:
السبب الأوَّل: التَّنبيه على بعض شروط إعمال القاعدة أو الضابط أو تحديد مجالِها:
ومِن أمثلة ذلك:
قاعدة: "العَزْم التامُّ إذا اقترَن به ما يُمكن مِن الفِعل أو مقدِّمات الفِعْل، نُزِّلَ صاحبُه في الثواب والعقاب منْزلةَ الفاعل التام"[22].
ففي هذه الصِّيغة المطوَّلة ذِكْرٌ لشَرْط المؤاخذة بالعزْم، وهو أن يَقترن به شيء من الفعل أو مقدِّماته، وكذلك فيها تحديدٌ لمجال القاعدة، وهو الثَّواب والعقاب الأُخْرَوي لا المؤاخذة الدنيوية؛ لأنَّ أحكام الدُّنيا تَجري على الأسباب الظاهرة[23].
قاعدة: "أقوال المكلَّف إنما تُنفَّذ مع عِلْم القائل بصُدورها منه، ومَعناها، وإرادته للتكلُّم بها"[24].
فسبب الإطالة فيها: ذِكْر بعض شروط التكليف في صُلْب القاعدة، وهي: العِلْم، والفَهْم، والاختيار[25].
ضابط: "مَن ترك شيئًا من أجزاء الصلاة التي ليست بأركانٍ سهْوًا سَجد له قبل السلام"[26].
ضابط: "مَن ترَك جزءًا من الصلاة غير رُكْنٍ سهوًا، وشرَع في ركن لَم يرجع إلى المتروك"[27].
ففي هذين الضَّابطين ذِكْر لسبب مِن أسباب سُجود السهو وهو النَّقْص، وذِكر لشرط مِن شروط إعمال الضَّابطين وهو السَّهو، وانفرَد الضَّابط الثاني بذِكْر مانع من موانع العودة إلى الفعل المتروك، وهو الشُّروع في الرُّكْن التَّالي.
السبب الثاني: دمج قاعدتين أو ضابطين ببعضهما:
ومن أمثلة ذلك:
قاعدة: "مدار الشَّرْع والقَدَر على تحصيل أعْلَى المصلحتين بتفويت أدْنَاهما، وارتكاب أدْنَى المفْسَدتين لِدَفْع أعلاهما"[28].
فهذه الجملة مركَّبة من قاعدتين:
القاعدة الأولى: تحصل أعْلَى المصلحتين بتَفْويت أَدناهما.
القاعدة الثانية: ترتكب أدْنَى المَفسدتين لدَفْع أعلاهما.
وعلى القاعدة الثانية اقتصر أكثرُ علماء القواعد[29].
قاعدة: "الأصل في العبادات البُطْلان، والأصل في المعامَلات الصِّحَّة والحل"[30].
فهذه القاعدة الطويلة يُمكن تفْكيكها إلى قاعدتين:
القاعدة الأولى: الأصْل في العبادات البُطلان.
القاعدة الثانية: الأصل في المعاملات الصِّحَّة والحل.
قاعدة: "إذا اشتبه المباح بمحظور له بدَلٌ لا اشتباهَ فيه انتَقَل إليه، وإن لم يكن له بدل ودَعَتْ الضرورةُ إليه اجتهد في المباح"[31].
فهذا اللَّفْظ مُكَوَّن من قاعدتين:
القاعدة الأولى: إذا اشتبه المباح بمحظور له بدل، انتقَل إليه.
القاعدة الثانية: إذا اشْتَبه المباح بمحظور لا بدل له، جاز الانتقالُ إليه في حال الضرورة.
وقد جاءت هذا القاعدة الثانية عند الإمام ابن القيِّم في موضع آخَر بلَفْظ:
"ما تُبِيحه الضَّرورة يَجوز الاجتهاد فيه حالَ الاشتباه، وما لا تُبيحه الضرورة فلا"[32].
قاعدة: "فِعْل المحظور ناسيًا يَجعل وُجودَه كعدَمِه، ونسيانُ ترْك المأمور لا يكون عذْرًا في سقوطه"[33].
وهذه القاعدة يمكن تحليلها إلى قاعدتين:
القاعدة الأولى: مَن فعل المحظور ناسيًا فلا شيء عليه.
القاعدة الثانية: مَن ترَك المأمور به ناسِيًا لَم يَسقط عنه.
ضابط: "مَن أُبِيح له لُبس الحرير أُبيح له افتراشه، ومَن حَرُم عليه حَرم عليه"[34].
ضابط: "سِرَاية الجناية مَضْمونةٌ بالاتِّفاق، وسراية الواجب مُهْدَرة بالاتفاق"[35].
ويقال في هذين الضابطين ما قيل في القواعد السابقة.
السبب الثالث: مَجيء القاعدة أو الضابط في معرض الشرح والبيان، لا التقعيد أصالةً:
وذلك أن معظم القواعد والضوابط عند ابن القيم منتزَعة من ثنايا كلامه، ولم يتصَدَّ لتقعيدها ابتداءً؛ ولذلك قد يُطِيل في صياغة بعض القواعد؛ لأنها وردَتْ في مَقام البيان والشرح والاسْتِدلال، والرَّدِّ على المُخَالف، ومعلومٌ الفرْقُ بين حالة التَّقْعيد ابتداءً، حيث يُراعَى الإيجاز والاختصار ما أَمْكن، وبين حالة الشرح والبيان، حيث تَأتي القاعدةُ طويلةً مُسْهبةً مناسِبةً للمَقام الذي سِيقت من أجْله.
ومن أمثلة ذلك:
قاعدة: "أفضل العبادة: العمل على مَرضاة الرَّب في كل وقت، بما هو مقتضَى ذلك الوقتِ ووظيفته"[36].
حيث ذَكَر ابن القيم هذه القاعدة في معرض ردِّه على المخالِف في مسألة أفضل العبادات[37].
قاعدة: "كلُّ ما يُعلَم أنه لا غِنى بالأمَّة عنه، ولم يزَلْ يقَع في الإسلام، ولم يُعلَم من النبي - صلى الله عليه وسلم - تغييرُه ولا إنكاره، ولا مِن الصحابة - فهو مِن الدِّين"[38].
حيث صاغ هذه القاعدة وسَاقها كدليلٍ في مَعرض الرَّدِّ على منْع بيع المغيبات؛ فقال - رحمه الله -: "وما زَال هذا يُباع في الإسلام، ويتعذَّر عليهم بيعُ المزارع إلا هكذا، وعِلمُهم بما في الأرض أتَمُّ مِن عِلم المشتري بِما في الجُرُب[39] والأعدال؛ لأنهم يَعْرِفونه بورقه...وبالجملة
، فلم يزل ذلك يباع في الإسلام، وهذه قاعدة من قواعد الشرع عظيمة النفع: أن كل ما يعلم أنه لا غنى بالأمة عنه... "[40].

ضابط: "مَبنى الحكم في الدَّعوى على غلَبة الظَّنِّ المستَفاد مِن بَراءة الأَصْل تارةً، ومِن الإقرار تارةً، ومِن البيِّنة تارةً، ومِن النُّكول مع يمين الطَّالب المردودة أو بِدُونها"[41].
فهذا الضابط ساقَه ابن القيم - رحمه الله - استطرادًا في مَعْرِض ردِّه على مَن أوْجَب تقدير نفقة الزوجة بدَرَاهمَ معيَّنة.
السبب الرابع: ذِكْر بعض فروع القاعدة أو الضابط في صيغتها:
ومن أمثلة ذلك:
قاعدة: "الشريعة جاءت بالمنع من التشبُّه بالكُفَّار، والحيوانات والشياطين، والنساء، والأعراب، وكلِّ ناقص"[42].
فذِكْره لهذه الأنواع في لفْظِ القاعدة كان سببًا في طُولها، مع أنه لو تَمَّ الاقتصار على لفظة "كل ناقص"، لدخَلَت جميع الأصناف السابقة فيه.
قاعدة: "ما لم ينطق به اللِّسان مِن طَلاق أو عتاق أو يَمين أو نَذْر، ونحوِ ذلك - عفْوٌ غيرُ لازم بالنِّيَّة والقصد"[43].
فسبب طول هذه القاعدة دخولُ الفروع في صِيغتها، وكان بالإمكان اختصارُها لِتصبح كالتَّالي: ما لم يَنطِق به اللِّسان عفو غير لازم بالنية والقصد.
ضابط: "الشارِع علَّق الفِطْرَ بإدخال ما فيه قِوَام البدن من الطعام والشَّراب، وبإخراجه مِن القَيْء والاستفراغ والمنِيِّ"[44].
ويُمكن صياغة الضابط بعد استبعاد الأمثلة؛ ليكون كالتالي: الشارع علَّق الفطر بإدخال أو إخراج ما فيه قِوَام البَدَن.
السبب الخامس: ذكر التَّقاسِيم في الصِّيغة:
ومِن أمثلة ذلك:
قاعدة: اختلاط المباح بالمحظور حسًّا.
حيث قال ابن القيم: "فأمَّا القاعدة الأولى: وهي قاعدة اختلاط المباح بالمحظور حِسًّا فهي قسمان:
أحدهما: أن يكون المحظور محرَّمًا لعَيْنه؛ كالدَّم، والبَوْل، والخمر، والميْتة.
والثاني: أن يكون محرَّمًا لكَسْبه.
فهذا القِسم الثَّاني لا يُوجِب اجتنابَ الحلال ولا تحريمَه البتة.
وأما القسم الأول فهذا إذا خالط حَلالاً، وظهَرَ أثَرُه فيه حَرُم تناول الحَلاَل"[45].
فهذا التَّقسيم الفقهي يمكن أن يُسْتَخلَص منه جُملةُ قواعد، منها:
• إذا اختلط المباح بالمحظور بعَيْنِه وظهَر أثَرُه فيه، حَرُم تناوله.
• اختلاط المباح بمحظور لكَسْبه لا يُوجِب تحريمه.
قاعدة: العَجْز عن بعض الواجب.
حيث قال ابن القيم: "إذا عجَزَ عن بعض الواجب، فإن لم يكن جُزْؤُه عبادةً مَشروعةً لم يَلْزَمه الإتيان به؛ كإمساك بَعْضِ يوم، وما كان جُزْء عبادة مشروعة لَزِمه الإتيان به، كتَطْهير الجُنُب بعضَ أعضائِه"[46].
ضابط: إذا اجتمع الخَوْف والسَّفر اجتَمَع القَصْران.
حيث صاغه ابنُ القيم على هيئة تقسيم فِقْهي، فقال: "القَصْر قَصْران: قَصْر الأرْكان، وقصْرُ العَدَد، فإن اجتمع السَّفر والخوف اجتمع القَصران، وإن انفَرَد السَّفر وحْدَه شُرِع قَصْر العدد، وإن انفرد الخوف وحْده شرع قصر الأركان"[47].
السبب السادس: ذكر المستثنيات في الصيغة:
وأغلب ما يكون ذلك في الضوابط[48].
ومِن أمثلة ذلك:
قاعدة: "الأصْل في العقود وُجوب الوفاء إلا ما حرَّمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - "[49].
قاعدة: "الأصل قَبُول قَول الأُمَناء؛ إلا حيث يكذِّبُهم الظاهر"[50].
ضابط: "كلُّ امرأة حَرُم نكاحها؛ حرم وطْؤُها بمِلْك اليمين، إلا إِماء أهل الكتاب"[51].
ضابط: "كلُّ امرأة حرمت حرمَت ابنتُها، إلا العمَّة، والخالة، وحليلَةَ الابن، وحليلة الأب، وأمَّ الزَّوجة"[52].
ضابط: "الله لَم يَجعل للمرأة طلاقًا بائنًا إلا في موضعين: أحدُهما: طلاق غيرِ المدخول بها، والثَّاني: الطَّلْقة الثالثة"[53].
ضابط: "كل فَرْق النِّكاح فَسْخ؛ إلا الطَّلاقَ، وفُرْقةَ الإِيلاء، والفُرقة بالحَكَمين"[54].
ضابط: "يُفعَل بالجاني مِثل ما فعل بالمجْنِيِّ عليه، إلاَّ أنْ يكون محرمًا لِحَقِّ الله"[55].
المبحث الثاني: منهجه باعتبار الإفراد والتَّركيب
الأصل في قواعد ابن القيم وضوابطه الإفْرَاد، بأن تستقِلَّ كلُّ قاعدة أو ضابط بصيغة لا يُشاركها فيها غيرُها؛ وأمثلةُ ذلك تَتجاوز الحَصْر؛ لكنَّ هذا الأصْلَ لَم يَطَّرد، فقد يجْمَع بين قاعدتين أو أكثر في صيغة واحدة.
ومن أمثلة ذلك:
قاعدة: "الشَّرائع مَبْناها على تحصيل المَصالح بحسَب الإِمْكان وتكميلِها، وتعْطِيل المَفاسد بحسب الإمكان وتَقْليلِها"[56].
قاعدة: "مَدَار الشَّرْع والقدر على تَحصيل أعْلَى المَصْلحتين بتفويت أدْنَاهما، وارْتِكاب أَدْنى المَفْسدتين لِدَفْع أعلاهما"[57].
قاعدة: "الأصل في العبادات البُطْلان، والأصل في العُقود والمعاملات الصِّحَّة"[58].
قاعدة: "إذا اشْتَبه المُباح بِمحظور له بدَلٌ لا اشْتباهَ فيه انتَقَل إليه، وإن لم يَكُن له بدَلٌ ودَعَتِ الضَّرُورة إليه اجتَهَد في المباح"[59].
قاعدة: "لا واجب مع عَجْز، ولا حَرام مع ضَرورة"[60].
قاعدة: "فِعْلُ المحظور ناسِيًا يَجعل وُجودَه كعدمه، ونِسيان تَرْك المأمور لا يكون عُذرًا في سقوطه"[61].
ضابط: "مَن أُبيح له لُبْسُ الحرير أُبيح له افْتراشُه، ومَن حَرُم عليه حَرُم عليه"[62].
ضابط: "ما كُلُّ ما أوجب الطهارة يكون نجسًا، ولا كلُّ نَجِس يوجِب الطَّهارة"[63].
ضابط: "الجَمْع رُخْصة عارِضة، والقَصْر سُنَّة راتبة"[64].
المبحث الثالث: منهجه باعتبار التَّكْرار وعدمه
الأصْل عند ابن القيم أنَّ القاعدة أو الضابط كلَّما كانت مهمَّة؛ أبْدَى فيها وأعاد، وكرَّرها في أكثرَ مِن موضع؛ تنبيهًا على أهمِّيتها وعِظَم شأنها.
وتُقَسَّم القواعد والضوابط عنده مِن حيثُ التَّكرارُ وعدَمُه إلى قسمين:
القسم الأول: ما كرره بلفظ واحد، أو بعِدَّة ألفاظ:
وهو على نوعين:
النوع الأول: ما كرَّره بلفظ واحد مُطابِق أو مقارِب:
وهو على ضربين:
الضرب الأول: ما كرره في أكثرَ مِن موضع بلفظه دُونَ تغْيير:
ومِن أمثلة ذلك:
قاعدة: "خِيار الأُمور أوْسَاطُها".
فقد ذَكَر هذه القاعدة في موضعين مِن كُتُبه بلفظها دون تغيير[65].
قاعدة: "الأَصْل بقاء ما كان على ما كان".
وقد ذكَرَها في ثلاثة مواضع من كتابه "إعلام الموقِّعين"[66].
قاعدة: "المجهول كالمعدوم".
تكرَّرتْ في ثلاثة مواضع مِن كُتبه[67].
قاعدة: "العُقُود مَبْناها على العَدْل".
تكرَّرتْ في ثلاثة مواضع مِن كتابه "الفروسية"[68].
قاعدة: "الحُكْم للغالب".
تكرَّرتْ بلَفْظها في خمسة مواضع مِن كتبه[69].
قاعدة: "لا واجب مع عَجْز، ولا حرام مع ضرورة".
تكرَّرت في أربعة مواضع من كُتبه[70].
ضابط: "الأَصْل بقاء الطهارة".
تكرَّر في موضعين من كتاب "إعلام الموقِّعين"[71].
ضابط: "الجُمُعة صلاة مستقِلَّة بنَفْسها".
تكرَّر في موضعين من كتاب "زاد المَعاد"[72].
ضابط: "خُروج البُضْع مِن مِلْك الزَّوْج مُتقَوم".
تكرَّر في ثلاثة مواضعَ مِن كُتبه[73].
ضابط: "سراية الجِناية مَضْمونة".
تكرَّر في ثلاثة مواضع من كتبه[74].
ضابط: "اليمين مَشْروعةٌ في جانِبِ أقْوَى المتَداعِيَين".
تكرَّر في ثلاثة مواضع من كتبه[75].
الضرب الثاني: ما كرَّره بلفظ مُقارب:
ولذلك أمثلة كثيرة، منها:
قاعدة: "الشرائع مَبْناها على تحْصيل المصالح بحسب الإمكان وتكْمِيلِها، وتعْطِيل المفاسد بحسب الإمكان وتقليلِها"[76].
فقد كرَّرها في أكثرَ مِن موضع بألفاظ متقاربة، منها:
• "الشَّريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"[77].
• "العقل والشَّرْع يُوجبان تحصيل المصالح وتكميلها، وإعْدَامَ المفاسد وتقليلَها"[78].
قاعدة: "مَدَار الشَّرْع والقدر على تحصيل أعلى المَصْلحتين بتَفْويت أَدْناهما، وارتكاب أَدْنى المَفسدتين لدَفْع أعلاهما"[79].
جاءت بألفاظ مقاربة، منها:
• "قاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المَصْلحتين وإن فَات أدناهُما، ودَفْعُ أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما"[80].
• "مَبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدْناهما، وتحْصيل أكْمَل المصلحتين بتفويت أدناهما"[81].
قاعدة: "ما حَرُم سَدًّا للذَّريعة أُبِيح للمصلحة الرَّاجحة"[82].
• فقد جاءت كذلك بلَفْظ: "ما حَرُم للذَّريعة، يُباح للمصلحة الرَّاجحة"[83].
قاعدة: "إشارة الأخرس المفهومة، ككلام الناطق"[84].
• جاءت كذلك بلفظ: "إشارة الأَخْرس مُنَزَّلة منْزِلة كلامه"[85].
ضابط: "الحائض إذا انقطع دَمُها كالجُنُب"[86].
• ورَدَ كذلك بلَفْظ: "الحائض إذا انْقَطع دَمُها صارت كالجنب"[87].
ضابط: "كلُّ ما تَحْريمه التَّكْبير وتَحليله التَّسْليم، فمِفتاحه الطُّهور"[88].
• فقد جاء في موضعٍ آخَرَ بلَفْظ: "كلُّ ما تَحْريمه التَّكْبير وتَحْليله التَّسْليم، فلا بُدَّ من افْتِتاحه بالطَّهارة"[89].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.12 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]