عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 30-06-2021, 03:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,884
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دولة الإسلام في الأندلس نموذج في القوة والخسران

دولة الإسلام في الأندلس نموذج في القوة والخسران
أحمد الشجاع

- حركة الصقلبي
بفشل حركة العلاء انتهت محاولة المنصور بالقضاء على الإمارة الأموية في الأندلس، وقامت محاولات العباسيين بمجيء الخليفة المهدي (158 ـ 169هـ/ 755 ـ 785م) الذي كان لا يقل طموحاً عن المنصور في ضم الأندلس تحت لوائه. وربما كان عدم إقدام المنصور على محاولة ثانية لاتعاظه بما حصل للعلاء أو لعدم وجود شخص كالعلاء يستطيع المجازفة. توافرت الفرصة للخليفة المهدي بالقضاء على الأمويين بوجود شخصية مناسبة على استعداد كبير للتضحية والطموح في تولي الأندلس.
فقد عبر عبد الرحمن بن حبيب الفهري المعروف بالصقلبي من أفريقيا إلى (تدمير) في جنوب الأندلس. وتختلف الروايات في تحديد سنة عبوره وحركته، فالبعض يشير إلى سنة 161هـ/ 778م، والآخر إلى سنة 162هـ/ 779م أو سنة 163هـ/ 780م.
نزل في (تدمير) ودعا للعباسيين ولبس السواد واتخذه شعاراً لحركته.. وتُشبه حركة الصقلبي إلى درجة كبيرة حركة العلاء، خصوصاً في الجهة التي عبروا منها وانتهاج الأسلوب نفسه ورفع الشعارات نفسها.
ولكن ما يميز حركة العلاء هو كثرة المنضمين إليها بفعل ظروف خاصة كانت تمر بها الأندلس. أما حركة الصقلبي فتميِّزها محاولته التفاهم مع سليمان بن يقظان الأعرابي الذي كان عاملاً في برشلونة أو سرقسطة مستغلاًّ سوء علاقته بالداخل، حيث إنه كاتب سليمان بن يقظان الأعرابي في أمره ومحاربة عبد الرحمن الأمويّ والدعاء إلى طاعة المهدي. وهنا تكمن خطورة حركة الصقلبي على الإمارة الأموية، ولكن لحسن حظ الداخل لم يتم التفاهم والموافقة بين الطرفين. فلم يجب الأعرابي دعوة الصقلبي؛ الأمر الذي وتر العلاقة بين الطرفين ووصل إلى الصدام العسكري بينهما، وَجَرَتْ معركة بين الأعرابي والصقلبي قرب برشلونة انهزم فيها الصقلبي وعاد منسحباً إلى تدمير.
وكان ذلك كله في صالح الأمير عبد الرحمن الداخل الذي استغل فرصة ضعف أعدائه، فهاجم تدمير وأحرق مراكب الصقلبي الموجودة في ساحل البحر، محاولاً منع الصقلبي من العودة إلى أفريقيا. واستعمل الداخل سلاح المال، فأعلن أنه يبذل ألف دينار جائزة لمن يأتيه برأس الصقلبي فاغتاله رجل من البربر وحمل رأسه إلى عبد الرحمن فأعطاه الداخل ألف دينار، وتم ذلك سنة 162هـ/ 779م.
وبذلك فشلت محاولة العباسيين العسكرية الثانية والأخيرة في استرجاع الأندلس. ولكن بعض الباحثين أشار إلى عدم وجود صلة بين الصقلبي والخليفة المهدي بدليل أن الصقلبي كان إباضي المذهب هارباً من سلطان العباسيين في أفريقيا وساعياً إلى نشر المذهب الإباضي في الأندلس؛ الأمر الذي حال دون اتفاقه مع الأعرابي وأهل الأندلس بصورة عامة إذ لم يرغبوا في غير المذهب المالكي. ولكن لبس الصقلبي السواد ودعوته للعباسيين كان شعار حركته، ثم طلبه من الأعرابي بحرب الداخل، فالدخول في طاعة المهدي، ثم ردود فعل الأمير الداخل على حركة الصقلبي التي كانت موجهة ضد العباسيين خصوصاً إعلانه عزمه على غزو بلاد الشام، كل ذلك يدل على اتصال الصقلبي بالخليفة المهدي، وأن خروجه كان باسم الخلافة العباسية.
وتمخضت عدة نتائج عن حركة الصقلبي، منها:
ـ فشل محاولة العباسيين الثانية التي كانت بإشراف الخليفة المهدي الذي حاول من خلالها ضم الأندلس إلى سلطانه.
ـ عدم إقدام العباسيين على أثر فشل هذه المحاولة على أي عمل عسكري موجَّهٍ ضد الإمارة الأموية في الأندلس.
أما ردود الأمير الداخل على حركة الصقلبي، فتمثلت في عدة أمور، منها: أن الأمير عبد الرحمن الداخل أشاع عزمه على غزو الشام من الأندلس على العدوة الشمالية لأخذ ثأره من العباسيين، وكان ذلك سنة 163هـ/ 780م. ولكن قيام ثورة سليمان بن يقظان الأعرابي والحسين بن يحيى الأنصاري في سرقسطة حال دون تنفيذ عزم الأمير.
كما أنه أرسل رسالة إلى الخليفة المهدي اتصفت بالسلبية والخشونة، فرد عليها المهدي برسالة مماثلة.
ملوك الطوائف وبداية السقوط

بدأ الضعف يسري في الدولة الأموية أيام حفيد الناصر حين سيطر على الحكم حاجبه المنصور بن أبي عامر.
وكان المنصور هذا من أحسن القواد ومن أبرع رجال الدولة. فأعاد للبلاد قوتها الأولى ووحدها تحت راية الإسلام من جديد، لكن أبناء المنصور لم يكونوا في مستوى أبيهم ولا أحفاد الناصر في مستوى جدهم.
إضافة إلى أن المجتمع الإسلامي الأندلسي أصبح مجزأ عنصرياً. فالمنصور بن أبي عامر اضطر إلى تقوية جيشه بإعداد كبيرة من البربر المغاربة والمماليك السقالبة من فرنسا و إيطاليا وشمال أوروبا اعتنقت الإسلام عند وصولها إلى الأندلس.
فأصبحت في البلاد أربعة عناصر إسلامية: العرب والبربر والإيبيريون المسلمون والسقالبة المماليك. فعندما ضعفت الدولة الأموية، أخذت هذه العناصر تتطاحن مع بعضها البعض فانهارت الدولة الأموية. وتجزأت الأندلس إلى مجموعة من الدويلات العنصرية تحت حكم ملوك الطوائف قضت على الوحدة الأندلسية.
وأصبح عدد هذه الدويلات الإسلامية الأندلسية 23 دولة، منها العربية كبني عباد في إشبيلية، وبني هود في سرقسطة. ومنها البربرية كبني الأغطس المكناسيين في بطليوس، وبني ذي النون الهواريين في طليطلة. ومنها السقلبية كبني مجاهد وبني غانية في شرق الأندلس.
ويقول الكاتب مصطفى عاشور: إن كل طائفة من هذه الطوائف زعمت لنفسها الاستقلال والسيادة، ولم تربطها بجارتها إلا المنافسة والكيد والمنازعات والحروب المستمرة؛ وهو ما أدى إلى ضعف، وأعطى الفرصة للنصارى المتربصين في الشمال أن يتوسعوا على حسابهم.
- دولة بن عباد بإشبيلية (414هـ إلى 484هـ).
- بنو جهور في قرطبة (422هـ إلى 449هـ).
- بنو حمود بمالقة (407هـ إلى 449هـ).
- بنو زيرى بغرناطة (403هـ إلى 483هـ).
- بنو هود بسرقسطة (410هـ إلى 536هـ).
- بنو رزين بالسهلة (402هـ إلى 497هـ).
- بنو ذى النون بطليطلة (400هـ إلى 478هـ).
- بنو الأفطس في بطليوس (413هـ إلى 487هـ).
وفي مقابل التجزئة والفرقة الأندلسية في عصر الطوائف كان النصارى يقيمون اتحاداً بين مملكتي (ليون) و(قشتالة) على يد فرديناد الأول، الذي بدأ حرب الاسترداد التي تعني إرجاع الأندلس إلى النصرانية بدلاً من الإسلام.
وواصل هذه الحرب من بعده ابنه ألفونس السادس، حيث بلغت ذروتها مع استيلاء ألفونس على مدينة طليطلة سنة (478هـ - 1085م) أهم المدن الأندلسية وأكبر قواعد المسلمين هناك، وكان سقوطها نذيرًا بأسوأ العواقب لبقية الأندلس؛ ذلك أن ألفونس قال صراحة: إنه لن يهدأ له بال حتى يسترد بقية الأندلس، ويُخضع قرطبة لسلطانه؛ وينقل عاصمة ملكه إلى طليطلة.
وكان أسوأ ما في هذه الكارثة المروعة أن ملوك الطوائف المسلمين لم يهبُّوا لنجدة طليطلة أو مساعدتها، بل على العكس وقفوا موقفًاً مخزياً حتى إن بعضهم عرض على ألفونس تقديم العون والمساعدة، ورأى البعض الآخر أنه لكي يستمر في حكم مملكته آمناً يجب أن يوثق أواصر الصلة والمودة مع ألفونس ويحالفه ويقدم له الجزية السنوية، بل شاركت بعض قوات أمراء الطوائف في غزوة طليطلة، وقدم أحد هؤلاء الأمراء ابنته لتكون زوجة أو حظية لألفونس.
ورأى ألفونس حالة الضعف والجبن التي يعاني منها أمراء الطوائف، والتي تعود في الأساس – كما يقول مصطفى عاشور - إلى ترفهم وخواء نفوسهم، وكرههم للحرب والجهد حتى إن كان ذلك هو السبيل الوحيد للكرامة والحفاظ على البقية الباقية من الدين والمروءة؛ لذا رأى ألفونس السادس ضرورة إضعاف ملوك الطوائف قبل القضاء عليهم نهائياً؛ وكانت خطته في ذلك تقوم أولاً على تصفية أموالهم باقتضاء وفرض الجزية عليهم جميعاً، ثم تخريب أراضيهم وزروعهم ومحاصيلهم بالغارات المتتابعة، وأخيراً اقتطاع حصونهم وأراضيهم كلما سنحت الفرصة.
ونجحت خطة ألفونس في ذلك كل النجاح، وبدا ضعف ملوك الطوائف أمامه واضحاً ملموساً؛ فاستهان بهم واحتقرهم، وقال عنهم: "كيف أترك قوماً مجانين تسمَّى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم، وكل واحد منهم لا يسِل للدفاع عن نفسه سيفاً، ولا يرفع عن رعيته ضيماً ولا حيفاً"، وعاملهم معاملة الأتباع.
أصبح ألفونس بعد استيلائه على طليطلة مجاوراً لمملكة إشبيلية وصاحبها المعتمد بن عباد، وعندها أدرك المعتمد فداحة خطئه في مصانعة ألفونس ومحالفته واستعدائه على أمراء الطوائف الآخرين، ولاحت له طوالع المصير المروع الذي سينحدر إليه إذا لم تتداركه يد العناية الإلهية بعون أو نجدة غير منتظرة؛ لذا كان من الطبيعي أن تتجه أنظار ابن عباد إلى دولة المرابطين القوية الفتية بقيادة أميرها الباسل يوسف بن تاشفين ليستنجد به وتطلب منه النصرة ضد هؤلاء النصارى الذين تجمعوا من شمالي إسبانيا، فضلاً عن المتطوعين الذين قدموا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
وبدأ النزاع بين الملكين سنة (475هـ - 1082م) عندما وجه ألفونس سفارته المعتادة إلى المعتمد يطلب فيها الجزية السنوية، وكان على رأس السفارة يهودي يُدعى ابن شاليب الذي رفض تسلم الجزية بحجة أنها من عيار ناقص، وهدد بأنه إذا لم يقدم له المال من عيار حسن فسوف تُحتل مدائن إشبيلية.
ولمَّا علم المعتمد بما صدر عن اليهودي أمر بصلبه، وزج بأصحابه من القشتاليين في السجن، وعندما استشار الفقهاء استحسنوا ذلك الأمر؛ مخافة أن يتراجع المعتمد عن قراره بالصمود في وجه النصارى. أما ألفونس فقد استشاط غضباً، وبعث سراياه وجنوده للانتقام والسلب والنهب، وأغار هو بجيشه على حدود إشبيلية وحاصرها ثلاثة أيام ثم تركها، والمعتمد يلتزم الدفاع طيلة هذه العاصفة الهوجاء من الغضب الصليبي.
حشد المعتمد رجاله، وقوَّى جيشه، وأصلح حصونه، واتخذ كل وسيلة للدفاع عن أرضه بعدما أيقن أن ألفونس يعتزم العمل على إبادتهم جميعاً، وأن المسلمين بقدراتهم ومواردهم المحدودة لن يستطيعوا له دفعاً؛ لذا قرر المعتمد أن يستنصر بالمرابطين في المغرب لمقاتلة هؤلاء النصارى، وكانت دولة المرابطين دولة جهاد وحرب، غير أن هذا الرأي واجه معارضة من بعض الأمراء الذين رأوا في المفاوضات والصلح والمهادنة والسلام وسيلة للأمن والاستقرار، ورأوا في المرابطين عدواً جديداً قد يسلب ملكهم، وقال الرشيد لأبيه المعتمد: "يا أبت أتُدخِل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدد شملنا"، فرد عليه المعتمد: "أي بني، والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدت الأندلس دار كفر، ولا تركتها للنصارى، فتقوم اللعنة عليّ في الإسلام، مثلما قامت على غيري، رعي الجمال عندي- والله - خير من رعي الخنازير".
معركة الزلاقة
ناشد ملوكُ الطوائف - وعلى رأسهم المعتمدُ بن عباد - المرابطين وأميرَهم يوسف بن تاشفين لنجدتهم، بل إن المعتمد عبر إلى المغرب والتقى بابن تاشفين الذي وعده خيراً، وأجابه إلى ما طلب واشترط لإجابة الدعوة والعبور إلى الأندلس أن يسلم إليه المعتمد ثغر الجزيرة الخضراء ليكون قاعدة للمرابطين في الذهاب والإياب، فوافق المعتمد على ذلك.
حشد يوسف بن تاشفين جنده وعتاده، ثم بعث بقوة من فرسانه بقيادة داود بن عائشة فعبرت البحر، واحتلت ثغر الجزيرة الخضراء، وفي (ربيع الآخر 479هـ - أغسطس 1086م) بدأت جيوش المرابطين تعبر من سبتة إلى الأندلس. وما كادت السفن تتوسط ماء مضيق جبل طارق حتى اضطرب البحر وتعالت الأمواج، فنهض ابن تاشفين ورفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيراً وصلاحاً للمسلمين فسهِّل علي جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه علي حتى لا أجوزه"، فهدأت ثائرة البحر، وسارت السفن في ريح طيبة حتى رست على الشاطئ، وهبط منها يوسف، وخرَّ لله ساجداً.
قوبل بحفاوة بالغة هو وجنوده، وأمر قائده داود بن عائشة بالتقدم أمامه إلى بطليوس، كما أمر بأن توضع القوات الأندلسية كلها تحت قيادة المعتمد، وأن يكون لجند الأندلس محلتهم وللمرابطين محلتهم، وكان يوسف في تحركه شديد الحذر؛ لأنه لم يسبق له أن حارب جيشاً نصرانياً، كما أنه لم يكن واثقاً من حلفائه الأندلسيين؛ لذا رأى أن تكون المعركة في ناحية بطليوس، وألا يتوغل كثيراً في أرض الأندلس.
ولما بلغ ألفونس نبأ تقدم المسلمين لملاقاته، فك الحصار الذي كان يضربه حول مدينة سرقسطة، واستدعى قائده البرهانس من بلنسية، وبعث مستغيثًا بجميع النصارى في شمال إسبانيا وما وراء جبال البرانيس، فتقاطرت عليه فرسان النصارى من إيطاليا وفرنسا. واعتزم أن يلقى المسلمين في أرضهم حتى لا تخرب بلاده، وكانت قواته تفوق المسلمين عدداً وعدة، وقد استقرت هذه الجيوش النصرانية على بعد ثلاثة أميال من المعسكر الإسلامي ولا يفصل بينهم إلا نهر صغير يسمى جريرو، وانضم إلى قوات النصارى الرهبان والقسس يحملون أناجيلهم وصلبانهم، محفزين بذلك جنود النصارى.
كانت قوات المسلمين تقدر بحوالي ثمانية وأربعين ألف مقاتل، تنقسم في وحدتين كبيرتين من قوات الأندلس، وتحتل المقدمة بقيادة المعتمد، أما القوات المرابطية فتحتل المؤخرة وتنقسم إلى قسمين، يضم الأول فرسان البربر بقيادة داود بن عائشة، والقسم الثاني احتياطي، يقوده يوسف بن تاشفين.
ولبث الجيشان - كل منهما في اتجاه الآخر - ثلاثة أيام، وفشلت محاولة ألفونس خديعة المسلمين في تحديد يوم المعركة. وانتهى الأمر بنشوب المعركة مع أول ضوء من صباح يوم الجمعة (12 رجب 479هـ - 23 أكتوبر 1086م) بهجوم خاطف شنَّه فرسان النصارى على مقدمة المسلمين المؤلفة من القوات الأندلسية، فاختل توازن المسلمين وارتد فرسانهم نحو بطليوس، ولم يثبت إلا المعتمد بن عباد في مجموعة قليلة من الفرسان، وقاتلوا بشدة، وأُثخن المعتمد بالجراح وكثر القتل في جند الأندلس، وكادت تحل بهم الهزيمة، وفي الوقت نفسه هاجم ألفونس مقدمة المرابطين وردها عن مواقعها.
وأمام هذه المحنة التي تعرضت لها القوات المسلمة دفع يوسف بقوات البربر التي يقودها أبرع قواده وهو سير بن أبي بكر اللمتوني؛ فتغير سير المعركة، واسترد المسلمون ثباتهم، وأثخنوا النصارى قتلاً، وفي تلك الأثناء لجأ ابن تاشفين إلى خطة مبتكرة، إذ استطاع أن يشق صفوف النصارى، ويصل إلى معسكرهم، ويقضي على حاميته، ويشعل فيه النار؛ فلما رأى ألفونس هذه الفاجعة، رجع بسرعة شديدة، واصطدم الفريقان في قتال شرس، ودويّ طبول المرابطين يصم الآذان، وكثر القتل في الجانبين، خاصة في صفوف القشتاليين، ثم وجه ابن تاشفين ضربته الأخيرة إلى النصارى؛ إذ أمر حرسه الأسود بالنزول إلى أرض المعركة، فأكثروا القتل في القشتاليين، واستطاع أحدهم أن يطعن ألفونس في فخذه طعنة نافذة كادت تودي بحياته.
وأدرك ألفونس أنه وقواته يواجهون الموت إذا استمروا في المعركة، فبادر بالهروب مع قلة من فرسانه تحت جنح الظلام، لم يتجاوزوا الأربعمائة، معظمهم جرحى، ماتوا في الطريق، ولم ينج منهم إلا مائة فارس فقط.
وضم ابن تاشفين الأندلس إلى المغرب وقضى على ملوك الطوائف..وكان انتصار المسلمين في الزلاقة عظيماً ذاعت أنباؤه في الأندلس والمغرب، واستبشر المسلمون به خيراً.
غير أن المسلمين لم يحاولوا استغلال نصرهم بمطاردة فلول النصارى المتبقية والزحف إلى أراضي قشتالة، بل لم يحاولوا السير إلى طليطلة لاستردادها، وهي التي كانت السبب الرئيسي في الاستعانة بالمرابطين، ويقال إن ابن تاشفين اعتذر عن مطاردة القشتاليين لوصول أنباء وفاة أكبر أبنائه.
ونتج عن هذا المعركة الحاسمة توقُّف ملوك الطوائف عن دفع الجزية لألفونس السادس، وأنقذ هذا النصر غرب الأندلس، وأنعش آمال الأندلسيين، وحطم خوفهم من النصارى، ورفع الحصار عن سرقسطة التي كادت تسقط في يد ألفونس، وحالت هذه المعركة دون سقوط الأندلس كلها في يد النصارى، ومدت في عمر الإسلام بالأندلس حوالي القرنين ونصف القرن.
السقوط الأخير
ولما ضعفت الدولة المرابطية أخذت الأندلس تتجزأ ثانية؛ فاستنجد المسلمون بدولة الموحدين المغاربة سنة 1145م فأنجدوهم بعد أن ضاعت مناطق أخرى في شرق الأندلس مثل سرقسطة.
وضعفت الدولة الموحدية، وانهزم المسلمون سنة 1212م في معركة (العقاب) على يد القوات النصرانية..وحاول ت الدولة المغربية المرينية إنقاذ ما تبقى من الأندلس، لكن المرينيين لم يكونوا في قوة المرابطين والموحدين. وأصبح المغاربة يخوضون معارك دفاعية مع النصارى لأول مرة في التاريخ على أرض المغرب.
وسقطت مدن الإسلام الواحدة تلو الأخرى. وكانت الفاجعة الكبرى بسقوط قرطبة سنة 1236م، وإشبيلية سنة 1248م..وكانت آخر عهد الأندلس لولا عبقرية محمد الغالب ابن الأحمر الذي استطاع أن يجمع الكلمة حوله في جبال الأندلس الجنوبية.
وبقيت الأندلس تشع بنورها في ذلك الجزء الصغير إلى سنة 1492م. واستنجد الأندلسيون بالمسلمين، ولكن هذه المرة لم يكن هناك من يجيب، بل بكى المسلمون في الشرق والغرب على الأندلس بكاء العاجز، وندبها الشعراء من أهلها ومن غيرهم، كالشاعر الرندي المعروف بأبي البقاء الذي نظم قصيدته المشهورة:

لـكـل شــيءٍ إذا مــا تـــم نـقـصـانُ فــلا يُـغـرُّ بطـيـب العـيـش iiإنـسـانُ
هــي الأمــورُ كـمـا شاهـدتـهـا دُولٌ مَــن سَــرَّهُ زَمــنٌ سـاءَتـهُ أزمــانُ
وهـذه الــدار لا تُبـقـي عـلـى iiأحــد ولا يــدوم عـلـى حــالٍ لـهـا iiشــان
يُـمـزق الـدهـر حتـمـاً كــل iiسابـغـةٍ إذا نـبــت مشْـرفـيّـاتٌ iiوخُـرصــانُ
وينتضـي كـلّ سـيـف للفـنـاء iiولــوْ كان ابـنَ ذي يـزَن والغمـدَ iiغُمـدان
أين الملوك ذَوو التيجـان مـن يمـنٍ وأيـــن مـنـهـم أكـالـيـلٌ iiوتـيـجـانُ؟
وأيــن مــا شــاده شــدَّادُ فـــي iiإرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟
وأيـن مـا حـازه قـارون مـن iiذهـب وأيــن عـــادٌ وشـــدادٌ iiوقـحـطـانُ؟
أتـى علـى الـكُـل أمــر لا مَــرد لــه حتـى قَضَـوا فكـأن القـوم مـا كانـوا
وصار ما كان مـن مُلـك ومـن مَلِـك كما حكى عن خيال الطّيـفِ وسْنـانُ

إلى أن قال:

دهـى الجزيـرة أمـرٌ لا عــزاءَ iiلــه هــوى لــه أُحــدٌ وانـهــدْ iiثـهــلانُ
أصابها العينُ في الإسلام iiفارتزأتْ حتـى خَـلـت مـنـه أقـطـارٌ iiوبُـلـدانُ
فاسأل (بلنسيةً) ما شأن ii(مُرسيـةً) وأيـنَ (شاطـبـةٌ) أمْ أيــنَ (جَـيَّـانُ)
وأيـن (قُرطبـة) (دارُ العلـوم) فـكـم مـن عالـمٍ قـد سمـا فيهـا لـه iiشـانُ
وأين (حْمص) وما تحويه من نـزهٍ ونهـرهُـا الـعَـذبُ فـيـاضٌ iiومــلآنُ
قـواعـدٌ كــنَّ أركــانَ الـبـلاد iiفـمــا عسـى البقـاءُ إذا لـم تـبـقَ أركــانُ
تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ مـن iiأسـفٍ كمـا بـكـى لـفـراق الإلــفِ هيـمـانُ
علـى ديــار مــن الإســلام iiخالـيـة قـد أقفـرت ولهـا بالكـفـر iiعُـمـرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما فـيـهــنَّ إلا نـواقـيــسٌ وصُـلـبــانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهـي iiجامـدةٌ حتـى المنابـرُ ترثـي وهـي iiعيـدانُ
يـا غافـلاً ولـه فـي الدهـرِ موعظـةٌ إن كنـت فـي سِنَـةٍ فالدهـرُ iiيقظـانُ

ويواصل تحسره:
يـا راكبيـن عتـاق الخيـلِ iiضامـرةً كأنهـا فـي مجـال السبـقِ iiعقـبـانُ
وحامليـن سيُـوفَ الهـنـدِ مرهـفـةُ كأنـهـا فــي ظــلام النـقـع iiنـيـرانُ
وراتعيـن وراء البحـر فــي iiدعــةٍ لـهـم بأوطانـهـم عـــزٌّ iiوسـلـطـانُ
أعنـدكـم نـبـأ مــن أهــل أنـدلــسٍ فقد سرى بحديـثِ القـومِ iiرُكبـانُ؟
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسـرى فمـا يهتـز iiإنسـان؟
مـاذا التقاُطـع فـي الإسـلام بينـكـمُ وأنـتـمْ يـــا عـبــادَ الله iiإخـــوانُ؟
ألا نـفــوسٌ أبَّـــاتٌ لــهــا iiهــمــمٌ أما علـى الخيـرِ أنصـارٌ iiوأعـوانُ

ثم يستنجد بالمسلمين ويصف حالة الأندلسيين في يد النصارى

يــا مــن لـذلـةِ قــومٍ بـعـدَ عـزِّهــمُ أحـــال حـالـهـمْ جـــورُ iiوطُـغـيــانُ
بالأمس كانـوا ملوكـاً فـي iiمنازلهـم واليومَ هم فـي بـلاد الكفـرِّ iiعُبـدانُ
فلـو تراهـم حيـارى لا دلـيـل iiلـهـمْ عليـهـمُ مــن ثـيـابِ الــذلِ ألـــوانُ
ولــو رأيــتَ بكـاهُـم عـنـدَ iiبيعـهـمُ لهالـكَ الأمـرُ واستهـوتـكَ iiأحــزانُ
يــا ربَّ أمّ وطـفـلٍ حـيــلَ iiبينـهـمـا كــمــا تــفـــرقَ أرواحٌ iiوأبـــــدانُ
وطفلة مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت كـأنـمـا هـــي يـاقــوتٌ iiومــرجــانُ
يقـودُهـا العـلـجُ للمـكـروه iiمكـرهـةً والعـيـنُ باكـيـةُ والقـلـبُ iiحـيــرانُ
لمثـل هـذا يـذوبُ القلـبُ مـن كـمـدٍ إن كان فـي القلـبِ إسـلامٌ iiوإيمـانُ

وللتوضيح وضع الدكتور علي منتصر الكتاني جدولاً يبين بالأرقام التقهقر الإسلامي في الأندلس من حيث مساحة الأراضي الإسلامية في الأندلس عبر العصور بالكيلومترات المربعة.

العصر
السنة الميلادية بالتقريب
المساحة بالكيلومترات المربعة
عهد الولاة
740م
700.000
عهد الأمويين أيام الناصر
940م
440.000
عهد المنصور بن أبي عامر
1000م
580.000
عهد المرابطين
1100م
250.000
عهد الدولة النصرية
1450م
30.00
الخلاصة
من قصة سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس ندرك أن حالنا في هذا العصر أشبه بحال المسلمين في ذلك الزمان، خصوصاً في جانب الانقسام والتفرقة على أساس العنصرية والعصبيات والقوميات التي غلبت على جانب وحدة الدين والعقيدة.
كانت الخلافة الإسلامية في الأندلس تقوم في الأساس على الرابطة الدينية، ثم بدأت مرحلة السقوط بعد أن دب فيها عليها الانقسام والصراع الداخلي والارتماء في أحضان الأعداء والاستعانة بهم؛ فأصبحت الدولة الإسلامية خاضعة لهيمنة الأعداء.
يقول ابن خلدون: " إن الأمة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء؛ والسبب في ذلك. والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها، وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل ويضعف التناسل والاعتمار.. فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم.. فأصبحوا مغلبين لكل متغلب وطُعمة لكل آكل، وسواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أم لم يحصلوا".
وإذا ضعفت النفوس وضعف الإيمان في قلوب الناس تأتي الأهواء والأطماع وحب الدنيا.
يقول الدكتور عبد الحليم عويس في دراسته حول سقوط ثلاثين دولة إسلامية: "قصة الغنيمة في تاريخنا غريبة، والدرس الذي تلقيه علينا - كذلك – أغرب. لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة، ولقد وقفنا مرغمين عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا بسبب الغنيمة كذلك. فقصة الغنيمة هي قصة الهزيمة في تاريخنا. كان قائد المعركة الأولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام.. وخالف الرماة أمره، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة، فكانت (أحد)، وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلاً من خيرة المسلمين، بسبب الغنيمة. وكان قائد المعركة الأخيرة عبدالرحمن الغافقي، آخر مسلم قاد جيشاً إسلامياً منظماً لاجتياز جبال البرانس ولفتح فرنسا وللتوغل بعد ذلك في قلب أوروبا. وهزم الغافقي، وسقط شهيداً في ساحة (بلاط الشهداء)، وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوروبا، وطووا صفحتهم في هذا الطريق. وكان ذلك لنفس السبب الغنيمة".
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ
المصادر
- (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، عبد الرحمن ابن خلدون المغربي.
- (الإسلام في إسبانيا)، الدكتور علي منتصر الكتاني – مجلة التاريخ العربي.
- (العلاقة بين أمويي الأندلس والخلافة العباسية)، الدكتور خالد إسماعيل نايف الحمداني، كلية الدراسات الإسلامية والعربية دبي.
- (دراسة سقوط ثلاثين دولة إسلامية)، د. عبد الحليم عويس.
- (الموسوعة العربية العالمية).
- (الزلاقة.. معركة الوجود الإسلامي في الأندلس)، مصطفى عاشور – إسلام أون لاين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.43 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]