الحيوان في القصة المغربية الحديثة
د. سعاد مسكين
ملاحظات أولية:
1- تعرض قصص الحيوان في السَّردِ العربي القديم إمَّا على لسانِ الحيوان مباشرة، أو يتمُّ نقلها سردًا على لسانِ شخصيات إنسانية، فهي بذلك إمَّا قصص معروض مباشر، أو مسرودٌ نقلاً.
2- تنبني قصصُ الحيوان في النَّص التراثي على مستويين هامين: مستوى سردي عبارة عن حكايةٍ تتعلَّقُ بعالَمِ الحيوان، لكنَّها في العمقِ تحمل مغزًى إنسانيًّا يهدفُ إلى ترسيخِ غاية أخلاقية وتربوية؛ ومستوى آخر عبارة عن تقريرٍ حكمي يؤكِّدُ الغاية نفسها، إمَّا في شكلِ مَثَلٍ سائر، أو في عبارة مأثورة، أو حكمة أخلاقية.
3- يتجسَّدُ المغزى من قصصِ الحيوان فيما حدَّده إخوانُ الصفا: "وجعلنا بيانَ ذلك على ألسنةِ الحيوان؛ ليكون أبلغَ في المواعظِ، وأبينَ في الخطابِ، وأعجبَ في الحكاياتِ، وأطرفَ في المنافع، وأغوصَ في الأفكار، وأحسن في الاعتبار"[1].
وقد ارتبطت هذه المقاصدُ بظروفٍ اجتماعية وسياسية، يتم التوسل فيها بالحيوانِ كبلاغةٍ جديدة للمقموعين والمهمَّشِين، من أجل التهذيبِ الأخلاقي، والإصلاح الاجتماعي، والنَّقد السياسي.
بعد هذه المحددات الثلاثة لقصصِ الحيوان في التراث العربي نتساءل: كيف اشتغلَ القصصُ الحديث على الحيوان؟ وهل ستمثل القصة القصيرة - باشتغالِها على الحيوان - امتدادًا لقصصِ الحيوان؟ بأي وعي وظَّف القاصُّ المغربي الحيوان؟ ثم ما هو النَّسقُ التخيُّلي والسَّردي الذي احتكَم إليه مستثمرًا الحيوانَ في متنِه القصصي؟
للإجابةِ عن هذه الأسئلة، سنقفُ على نماذج مغربية من القص الحديث، كي نركِّزَ أساسًا على حيوانات تم توظيفها بشكلٍ كبير داخل المتن القصصي، ونخصُّ بالذكر: (الكلب، القط، الطائر).
1- الكلب:
ارتبط الكلبُ في الأدبِ العربي إمَّا بذمامةِ خلق المرء وهجاء أفعاله، أو بعكسِ ذلك؛ شكَّلَ مظهرًا من مظاهر الوفاء والإخلاص اللذين قلَّما نجدهما عند الإنسانِ حقيقة، وفي هذا الباِبِ نستحضرُ كتابَ ابن المرزبان: "تفضيل الكلابِ على كثيرٍ ممن لبس الثياب"[2]؛ إذ ذمَّ الزَّمان، واستجار بلؤم أهلِه؛ نظرًا لما رآه فيهم من سوءِ المعاشرة، وقلةِ الوفاء، وفقدانِ الكرامة، الشيء الذي يؤكِّده اعترافُ السيدةِ "رولاند" بقولِها في مقدمة الكتاب: "كلَّما رأيتُ البشر، كلما أحببتُ الكلاب أكثر فأكثر"[3]!
فما سرُّ توظيفِ القاص المغربي للكلب؟ وما هي أشكال توظيفه؟
۱- الكلوبية:
نقصدُ بالكلوبيةِ التجلي الأول للاشتغالِ بالكلب في المتخيل القصصي المغربي؛ إذ يتخذ الإنسانُ صفةَ الكلبِ عن طريق المسخ، كما في قصةِ "كلب كندي" للقاص محمد أيت حنا[4]، أو عن طريقِ الحلول عبر تحولِ المرء أو تمنيه أن يكون كلبًا، كما هو الشأن في قصةِ "الكلب" لمحمد بوعلو[5]، وأخلاق الكلاب لمحمد أيت حنا[6]، وفي المظهرين معًا للكلوبية مقاصدُ فنية ودلالية يتوخَّاها القاصُّ؛ منها:
أ- الاتصاف بالوضاعةِ والانمساخ من أجلِ تصوير الفشل والخيبة، نتيجة اتساع الهوةِ بين الرَّغباتِ الذاتية، وشروط تحققها على سطحِ الواقع.
ب- الخلاص الفردي من شرنقةِ القهر الواقعي، عبر التصوير السَّاخرِ الذي يبنى على التحولِ إلى الأسوأ، استنكارًا ورفضًا لأيِّ استسلامٍ أو خنوع لهذا الواقع.
۲- الكلب المضاعف:
نقصدُ بالكلبِ المضاعف؛ التجلِّي الثاني لتوظيفِ الكلب؛ إذ في مجموعةِ محمد كويندي القصصية "سرير الدهشة"[7] يُوظَّف الكلبُ بالتضعيف:
• الكلب الأول: فوكس؛ مدلَّل لدى معيله.
• الكلب الثاني: طوكسي؛ كلب رمز حزب سياسي.
• الكلب الثالث: الباكل؛ فصيلةُ كلبٍ صغير يظلُّ في جيبِ حامله.
إنَّ الصورَ الثلاث للكلبِ على الرَّغمِ من اختلافها في المرجع والوضع الاجتماعي، إلا أنها تتكاملُ وتنسجم في كونِها تقعيرًا للكلب "فوكس"؛ لأنَّ الكلب "طوكسي" يمثِّلُ سببًا في تحولِ هذا الأخير إلى كلبِ "الباكل"، نتيجة إحساسِه بالغيرة من جهة، وعدم قناعتِه من جهةٍ ثانية، لهذا فرغم تعدد الكلابِ فالقصةُ لا تعدو أن تهم كلبًا واحدًا؛ هو "فوكس"، بينما شكَّل "طوكسي" محفِّزًا نفسيًّا للتحول، ومثَّل "الباكل" نتيجة لهذا التحول، وقد انعكس هذا التقعيرُ والتضعيف على بنيةِ القصة فنيًّا وبنائيًّا؛ إذ:
أ- اعتمدت التضمينَ؛ أي: القصة في القصة، نتيجة تأسس الحكي على شخصيةٍ حكائية واحدة "الكلب"، في حين تعدَّدتِ الأحداثُ حولها.
ب- خلقت مسافة وهمية بين الأشياءِ والذَّوات، فرغم تحقُّقِ التداخل والتكامل بين أصنافِ الكلاب الثلاثة؛ من حيث الصفات: (الصغر، الوداعة، الألفة)، إلاَّ أنَّ هناك عناصر متفرقة ومتباعدة فيما بينها: (فوكس: الكلب المجرم، طوكسي: الكلب المشهور، الباكل: الكلب الجيبي).
۳- الكلب: الصدى المرآوي:
عند سعيد رضواني في مجموعتِه القصصية مرايا[8]، نصطدمُ بتجلٍّ ثالث للكلبِ في نصين؛ هما: "نباح" و"دوكي وروز"؛ إذ يمثل الكلبُ انعكاسًا لرغباتِ الإنسان العاطفية والوجدانية في الصُّراخ، وفي ممارسةِ الحب الشبقي، دون وجودِ موانع اجتماعية أو قانونية، فتلاشت بذلك الحدودُ بين عالَمِ الكلاب وعالم الإنسان، وقد انعكست الرؤيةُ المرآوية على نصيته، فاتخذ الأنماطَ الآتية:
أ- الحكي بالتوازي، عبر حكي مشهدٍ يتعلَّقُ بالكلبِ ثم آخر يتعلَّقُ ببطلِ القصة، في انعكاسٍ مماثل تبدو فيه أفعالُ البطل صدًى لأفعال الكلب.
ب- تبادل الأدوار في نوعٍ من المحاكاة السَّاخرة، أو المماثَلة التشابهية، فما تقومُ به الشَّخصياتُ الحكائية من أدوارٍ يشكِّل في العمقِ انعكاسًا لما يقومُ به الكلبُ من سلوكياتٍ وممارسات:
• نباح الكلب: صراخ البطل/ قصة نباح.
• ملاحقة الكلب دوكي للكلبة روز: ملاحقة البطل للبطلة/ قصة دوكي وروز.
ج- استيهامات المعنى وتوالد السَّردِ عبر التخيُّلِ الذي شكل "الصوت" مصدرًا له في قصة "نباح"، والصورة في قصةِ "دوكي وروز".
د- يهدفُ تماهي الشخصية الحكائية مع الكلبِ إلى القضاء على انعزاليةِ الذَّات وفردانيتها، عبر توحدِها مع الآخر، وخلق امتدادات لها في المحيطِ كتعبيرٍ على الوجودِ والحضور.
2- القط:
يتخذ اشتغالُ القاصِّ المغربي على القطِّ مظاهرَ متعددة، وتجليات متباينة، نفصلُ فيها بين مظهرين:
۱- القط المتعدد:
يوظف القاصُّ أحمد بوزفور في قصتِه "النظر في وجهِ العزيز"[9] القطَّ الأسود؛ وهو قطٌّ ليس كقطِّ "إدجار ألان بو" القاتل،ولا قط "بودلير" القوي النَّاعم، العالم العاشق[10]، وإنما قطٌّ هارب ومنفلت، الشيء الذي يجعلُ السَّاردَ يقدمُ لنا القطَّ بعيونٍ متعددة:
• عند الأم: القط = الابن المهاجر.
• عند الأب: القط = اللَّعنة.
• عند الشرطي: القط = الحيوان المتسخ.
• عند الأستاذ: القط = الحيوان الأليف.
• عند الخطيبة: القط = الرجل البحوث عنه المغامر والمحافظ معًا.
رغم تعدد زوايا نظرِ الشَّخصياتِ تجاه القطِّ الأسود، فإنَّ السَّاردَ يرى في قطِّه أمرين: الحلمَ الذي انفلت منه عند انبلاجِ الفجر من جهة، والقصةَ التي تموتُ حُبًّا في النَّاس، وفي الحياة، وفي العيشِ من جهة أخرى.
لقد انعكس تعددُ الرؤى على بنيةِ القصة؛ إذ اعتمدت على:
أ- التشظي، فانشطرت إلى أربعةِ مقاطع: (النظر، في، وجهكم، العزيز)، سمح هذا التشظي بتوزعِ أساليب الخطاب بين:
1- الوصف: يتجلَّى في مقطعين: "النظر" و"العزيز"؛ لأنَّ السَّاردَ يحدِّدُ صورةَ الفضاء الطبيعي باعتمادِ حاسة "البصر"، والشخصية تبحث داخل هذا الفضاءِ عن هذا الهارب المفقود/ العزيز.
2- العرض: وهو ليس حوارًا بين الشَّخصياتِ فقط، بل عرض لرؤاها تجاه القط الأسود، وقد ارتبط بحرفِ "في"؛ لأنَّ داخل كلِّ واحدٍ منَّا قطًّا هاربًا.
3- الشعر: يرتبط الشعر بمقطعِ "وجهكم" والوجه هو شعر الحياة بالأبيض والأسود، بالصوتِ والصورة.
ب- تعدد القراءة، واتساع مجال التأويل؛ لأنَّ لا وجود لقراءةٍ مكتملة وتامَّة.
ج- القصة تتضمَّنُ خطابًا ترسُّليًّا، لكنَّها لا تتخذُ الرِّسالةَ شكلاً أدبيًّا، خاصة وأنَّ خطابَ الترسل في الثقافةِ العربية والمغربية عُرف بعبارة مسكوكة: "لا ينقصنا سوى النظر في وجهِكم العزيز"، لعلَّ هذا ما يبرِّرُ فرادة الكتابة القصصية عند القاصِّ؛ لأنَّه يبحثُ عن المغايرةِ دائمًا بتجاوزِ القوالب الكلاسيكية والتقليدية.
يتبع