وقد عالج كتاب جودة بن قريش، في القرن الرابع الهجري العلاقة بين العبرية والآرامية، وبين العبرية والعربية، وانتهى إلى أن هذه اللغات الثلاث قد صيغت بالطبيعة بطريقة واحدة[22].
أما كتاب ابن بارون فهو في القرن الخامس الهجري، واسمه (كتاب الموازنة بين اللغة العربية)، وقد أثبت فيه أن اللغة العبرية والعربية والسريانية متقاربة الاشتقاق والتصريف واللفظ لقرب مزاج أهلها ولقربهم في الإقليم[23].
وقد طبع كتابه هذا في روسيا، على يد المستشرق الروسي ك كوكوفتسوف P.K. Kokovestov سنة 1893 م.
وهناك نقول كثيرة عن التوراة، في كتب التاريخ[24].
كما لا نعدم إشارات بسيطة متفرقة عند بعض العلماء العرب وبخاصة المعجميين، في شرح دلالة كلمة ما، ومن هاذ ما نلاحظه عن الزمخشري (ت 538 هـ) حين تعرض لشرح كلمة (فهر) فقال:
(( وكأنهم اليهود خرجوا من فُهْرهم وهو مدارسهم _ تعريب: بُهْر بالعبرانية ))[25].
ونلاحظ مثل ذلك أيضاً عن ابن منظور (ت 711 هـ) حين تعرض لبعض الكلمات مثل (طور) فقال:
(( وهو بالسريانية طروى))[26].
وقال في شرح كلمة (يم): (( وزعم بعضهم أنها لغة سريانية ))[27].
وقل مثل ذلك في كثير من الكلمات التي ترجع إلى اللغة العبرية أو السريانية.
وفي حديث أبي العباس القلقشندي عن السنة العبرية يقول:
(( جعل سنيهم قسمين: الأول بشيطا ومعناه بسيطة، وهي: القمرية، والثاني معبرات ومعناه كبيسة )[28].
ولكن هذه الملاحظات البسيطة - عند هؤلاء - لا تدل على معرفتهم إحدى هذه اللغات السامية، بل هي مجرد بدهيات أو مسلمات نقلت عمن قبلهم، بدليل أن القلقشندي رأي أن فونيمات العبرية ما بين 32 أو 36 فونيماً[29].
الخاتمة:
تناول هذا الكتاب قضية اللغات السامية، ومدى معرفة المجتمع العربي لها، سواء كانت تلك المعرفة من جانب رجال من بعينهم في الجاهلية وصدر الإسلام، أم علماء فيما تلا ذلك من عصور، حتى القرن الثامن الهجري.
وقد توصل الكتاب إلى النتائج التالية:
1- عرفت اللغة العبرية في شبة الجزيرة العربية قبل الإسلام بسبب عاملين هما:
أ- انتشار اليهود فيها وبخاصة في اليمن ويثرب.
ب - تعلم بعض العرب تلك اللغة لهدف ديني، هو انتظار الإسلام.
3- عرفت اللغة الحبشية قبل الإسلام، عن طريق رحلة اليمن والتعامل بين العرب والأحباش واستيطان بعضهم مكة: كبلال بن رباح.
4- تُرجم الإنجيل (العهد القديم) من لغته إلى العربية قبل الإسلام، ولكن لا ندرى من أية لغة ترجم ومن قام بهذه الترجمة.
5- عرف المسلمون اللغة العبرية، وذلك لاختلاطهم باليهود في المدينة المنورة.
6- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة بتعلم اللغة العبرية، لضمان صحة الترجمة فيما يكتب لهم أو يقرأ عليه منهم.
7- كان لاختلاط مجتمع الصحابة في المدينة المنورة أثره في معرفة بعضهم اللغة العبرية أو الحبشية.
8- عرف اثنان من المفسرين بعض اللغات السامية، هما ابن قتيبة وأبو حيان الأندلسي.
9- عرف اثنان من علماء الأصول بعض اللغات السامية، وهما الإمام الغزالي وابن حزم.
10- عرف أربعة من اللغويين بعض اللغات السامية، وهم الخليل ابن أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو منور الجواليقي، وأبو القاسم السهيلي.
11- كان بعض هؤلاء العلماء يعرف إحدى اللغات السامية معرفة سطحية، دون النظر إلى أوجه الشبة بينها وبين العربية، ومنهم من كان يعرف العلاقة بينهما.
12- لم يخل قرن من القرون الهجرية، منذ الأول حتى الثامن، من معرفة عالم أو أكثر بإحدى اللغات السامية أو العلاقة القربى بينها وبين العربية.
13- لم تثمر معرفة أي هؤلاء العلماء في دراسة بعض قواعد اللغة أو تراكيبها: في ضوء المقارنة بين هذه اللغات السامية والعربية.
14- كان سبب عدم إثمار تلك المعرفة في ظهور منهج مقارن هو نظرة العلماء العرب للغة العربية نظرة تقديس وإجلال، لنزول القرآن الكريم بها، وبذلك درسوها دراسة معيارية في غالب الأحيان.
[1] العين 1 / 232 وعنه في فصول فقه العربية 43 والمدخل إلى عل اللغة 201.
[2] الزينة في الكلمات الإسلامية 1 / 77 وعنه في فصول العربية 43 والمدخل إلى علم اللغة 202.
[3] سورة التين 95 / 2 وق تكررت تلك الكلمة في القرآن الكريم/ في ثلاثة مواضع أخرى وفي سورة البقرة 2 / 63 والنساء 4 / 145 والمؤمنون 22 / 20.
[4] سورة طه 20 / 39.
[5] انظر: تفسير القرطبي 1 / 436 والإتقان في علوم القرآن 1 / 139، 140 ولسان العرب (طور) 2 / 624 و (يم) 3 / 1016.
[6] انظر: في التنكير والتعريف في اللغات السامية، ومنها السريانية، فقه اللغات السامية 103 والتطور النحوي 143 والمدخل إلى علم اللغة 244.
[7] انظر: المعرب من الكلام الأعجمي 116 وحاشية ابن برى 46 وجمهرة اللغة 3 / 307 وعن الأول في علم اللغة العربية 211.
[8] انظر: المرجع نفسه 382، 383، وعنه في علم اللغة العربية 211 وجمهرة اللغة 2 / 379
[9] انظر: المدخل إلى علم اللغة 216، 217.
[10] ولذلك نرى كلمات هذا الوزن غير عربين: مثل (هاروت، ماروت هارون قارون تابوت).
انظر: لسان العرب (تبت) 1 / 309 (قرن) 3 / 77، (مرت) 3 / 460 (هرت) 3 / 793، (هرن) 2 / 800 أما لفظ (ماروت) فلم يذكره. وكذا حكم ابن عصفور الإشبيلي (ت 665 ه) في كثير من كلمات هذا الوزن. انتظر: الممتع 1 / 97.
[11] انظر: فقه اللغات السامية 109، 125 والمدخل إلى علم اللغة 229، 230.
[12] انظر / فصول في فقه العربية 55 – 57 ومصادر الشعر الجاهلي 27 – 29 وراجع ص من هذا الكتاب وتاريخ اللغات السامية وفي اللهجات وفي اللهجات العربية 34، 35 وتاريخ الأدب العربي 1 / 63 وورد كذلك في نقش حران أيضاً.
[13] هو أبو بكر بن دريد صاحب الجمهرة (ت 330 ه )
[14] المعرب من الكلام الأعجمي 129، وانظر: حاشية ابن بري 50
[15] ويلاحظ أن الثعالبي (ت 429 ه) قد ردها إلى اللغة الفارسية، انظر: فقه اللغة وسر العربية 314.
[16] التعريف والاعلام بما أبهم في القرآن الكريم 11 وعنه في فصول في فقه العربية 44 والمدخل إلى علم الفقه 202 ويمتد كتاب السهيلي هذا أول كتاب يتناول الأسماء المبهمة في القرآن الكريم، وله كتاب آخر في الموضوع نفسه هو (الإيضاح والتبين لما أبهم من تفسير الكتاب المبين).
انظر: معجم مصنفات القرآن الكريم 3 / 143، 4 / 198.
[17] راجع ص 16 من هذا الكتاب.
[18] انظر: التطور النحوي 220.
[19] فصول في فقه العربية 7.
[20] يلاحظ أن أبا منصور الجواليقي قد نقل عن ابن دريد، الذي نقل عن أبي حاتم السجستاني عن الأصمعي كلمة (برطله). راجع ص 62 من هذا الكتاب.
[21] انظر: البحث اللغوي عند العرب 224 - 226 نقلاً عن:
- H.Hirschfeld: Literary History of Heibrew Grammarians ; PP. 16 - 23
[22] انظر: البحث اللغوي عند العرب 226، 227.
[23] المرجع نفسه 226.
[24] انظر: تاريخ الطبري 1/ 141،.152
[25] أساس البلاغة (فهر) 485.
[26] لسان العرب (طور) 2 / 624.
[27] المرجع نفسه (يمم) 2 / 1016.
[28] صبح الأعشى 2 / 400.
[29] انظر: المرجع نفسه 3 / 15.