عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-06-2021, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,580
الدولة : Egypt
افتراضي الشخصية اليهودية في أدب باكثير: رؤية تحليلية تداوليَّة

الشخصية اليهودية في أدب باكثير: رؤية تحليلية تداوليَّة


د. إدريس مقبول





الشخصية اليهودية في أدب باكثير: رؤية تحليلية تداوليَّة

د. إدريس مقبول - المغرب[1]

من أبحاث مؤتمر "علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية"

المنعقد بالقاهرة في 18-21 جمادى الآخرة 1431هـ/ 1-4 يونيه حزيران 2010م

تحت رعاية رابطة الأدب الإسلامي العالمية



يُعدُّ أدب علي أحمد باكثير - رحمة الله عليه - بحقٍّ من الأدب الإنساني العالمي الذي يَرقَى بشموخٍ إلى مصافِّ النُّجوم الخالدة والروائع الرائدة، وهو عندنا بمنزلة شكسبير للإنجليز غير أنَّه لم يوفَّ حظَّه من المتابعة النقديَّة، إنَّه باكثير الذي لم يستظلَّ بأدبه كما هي عِبارة المتقدِّمين من النُّقَّاد؛ بمعنى: أنَّه لم يتكسَّب به، باكثير الذي ناضَل بقلمه وفنه من أجل رِسالته في الحياة، مُنتَصِرًا لقِيَم الحقِّ والعدالة والجمال، ولعلَّ الأعمال الفنيَّة التي خلَّفها ما تزالُ ظَمأَى إلى مزيدٍ من الاجتهاد وبذْل الجهد في كشف مَكنُوناتها الفنيَّة وإماطة اللِّثام عن أفكارها ورُؤاها الأدبيَّة المتميِّزة.

ونحسب أنَّ موضوع "الشخصية اليهودية في أدب باكثير: رؤية تحليلية تداوليَّة" محاولةٌ ضمن هذا المشروع، ويمكن تلخيص دواعي اختيارنا لهذا الموضوع فيما يلي:

الكشف عن جانب من جوانب إبداع الأديب علي أحمد باكثير في التصوير الأدبي المتحيِّز لقضايا أمَّته، وإبراز الرؤية الفنيَّة والفكريَّة التي كانت ثاويَةً في تصوير باكثير للشخصيَّة اليهودية، وتجلية الرسالة الفنيَّة والإنسانيَّة في مُعالَجة باكثير لقضيَّة اليهود واليهوديَّة في أعماله، والجمع بين تجربتين: الأولى إبداعيَّة فنيَّة للراحل باكثير، والثانية منهجيَّة تحليليَّة نقديَّة للراحل عبدالوهاب المسيري.

وقد صدرت في موضوع القضيَّة الفلسطينيَّة في مسرح باكثير عدَّة دراسات، والواقع أنها كلُّها دراسات علميَّة جادَّة على جانبٍ من الأهمية في إثارة سُؤال اليهود في أعمال باكثير الأدبيَّة، غير أنَّ ما يغلب عليها هو انشِغالها بمسألة ريادة باكثير في طرْق موضوع القضيَّة الفلسطينيَّة حتى قبل قِيام الكيان الصِّهيَوْني - وهي مسألة مهمَّة بكلِّ تأكيد - كما انشغلت هذه الأعمال باستعراض جُلِّ أعمال الأديب الراحل التي تناوَلت الموضوع، والتمييز فيما بينها بين ما جاء موضوعه عن القضيَّة الفلسطينيَّة واليهود وما جاء فيها التعرُّض لليهود بطريقةٍ غير مباشرة أو رمزيَّة، وكذا عِناية باكثير - عليه رحمة الله - بعَرْضِ اليهود بصورةٍ موضوعيَّة غير متجنِّية ولا مُغرِضة؛ إذ لم يقتَصِر على تصوير الشخصيَّات اليهوديَّة التي تُمثِّل الجانب الشرِّير وحدَه، بل عرض للكثير من الشخصيَّات اليهوديَّة الإيجابيَّة التي ترفُض الحركة الصِّهيَوْنية، التي تقومُ على مبدأ التمييز العنصري وترفُض المقومات التي قامت عليها دولة إسرائيل.

تكمُن صُعوبات البحث في هذا الموضوع في أمرين أساسين:
الأول: ويتمثَّل في اتِّساع دائرة أعمال المرحوم الأديب الراحل، وتنوُّعها الأجناسي بين شِعرٍ ورواية ومسرح ومحاضرة وغيرها، وكلُّ أولئك يجعَلُ مهمَّة التتبُّع والاستقراء صعبةً في ورقةٍ علميَّة كهذه.
والثاني: يتمثَّل في غِياب مَراجِع أو دِراسات تحليليَّة سبقَتْ إلى تناول الموضوع من وجهة نظَر تداوليَّة تحليليَّة (النموذج التحليلي المركب).
ولعلَّ هذه الورقة تكونُ - بإذن الله - لبنة في هذا البناء.

النموذج المعرفي التحليلي المركَّب:
النموذج المعرفي التحليلي الذي اخترناه لِمُقارَبة الموضوع يعودُ الفضل في تأسيسه في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة المعاصرة إلى المفكِّر والناقد الكبير الدكتور الراحل عبدالوهاب المسيري - عليه رحمه الله - وهو ما ندعوه في بعض دراساتنا بالتداوليات التحليليَّة[2]، والمنهج هو وسيلةٌ لإدراك ما لا يمكن إدراكه بشكلٍ مباشر؛ نظرًا لتركيبيَّة الظواهر المدروسة باعتبارها مجازات مُتداخِلة.

إنَّ هذا المنهج يهدف إلى رصْد الظواهر في خُصوصيَّتها وعُموميَّتها، في سطحها وأعماقها، ورصد ما هو ظاهرٌ وقائم، وما وهو كامن وممكن، وهو منهجٌ تحليلي يحاول رصْد الظواهر لا بوصفها أجزاء مُتناثِرة، وإنما بوَصْفِها جزءًا من كلٍّ، أجزاء يَتفاعَل بعضها مع بعض.

إنَّه منهجٌ يعلمنا عبر إجراءاته وآليَّاته التفكيكيَّة عدم الخضوع لإمبرياليَّة المقولات وعدم تقبُّل رُؤَى الآخَر عن نفسه وعنَّا كما لو كانت حقائق طبيعية ونهائيَّة؛ إذ لا بُدَّ أنْ ننفض عن أنفسنا التبعيَّة الإدراكيَّة، ونتخلَّص من التبسيط الموقع في الاختزاليَّة[3].

أولاً: لماذا البحث في الشخصية اليهودية؟
البحث في الشخصيَّة اليهوديَّة هو بحثٌ في غور "الإنسان الماكر" بنصِّ الدين والأدب والتاريخ، واستِطلاع لكشف أعماقه التي يُسَيطِر عليها في بعض الأحيان النُّزوع الشيطاني المارد على الحقِّ والخير والجمال، الطالب للباطل المشيع لقِيَم القُبح والسوء.

إنَّ البحث في الشخصيَّة اليهوديَّة هو بحثٌ يَرمِي إلى التعرُّف عن قُرْبٍ كيف تُفكِّر وتُدبِّر هذه الشخصيَّة، وكيف تَبنِي منطقها بالمغالطة والالتِفاف على حُقوق الآخَرين، كيف تستَبِيح حُرمات الآخَرين، كيف تُتقِن بناء منظومة الكذب ببراعة، وكيف تحتمي بشرنقة المظلوميَّة لتعاود الإغارة على ضحاياها أصحاب الحق.

وعلى قدر ما تَنال هذه الشخصيَّة اليهوديَّة من الإدانة الإنسانيَّة بسبب مواقفها وسُلوكياتها، تَحظَى في الآن نفسه بنوعٍ من الجاذبية التي يفرضها مَنطِقُ التصوير الأدبي، وهنا تكمُن براعة الأديب وقُدرته الفنيَّة في الرصد والتصوير والنَّفاذ إلى الأعماق مع الحِفاظ على التوازُنات المطلوبة في الصِّراع الدرامي[4]، ولقد أجاد باكثير - رحمه الله - أيما إجادة في رسم الملامح الفنيَّة لهذه الشخصيَّة بما يَشِي بمعرفة دقيقة بها وبمكوناتها وتفاصيلها النفسيَّة من منطلق رسالي[5]، وهو ما ساعَدنا في تطبيق نموذجنا التحليلي المركب عليها؛ لأنها تمتلك من مقومات البناء ما يسمح بتوفير قدرٍ كبير من المعطيات التي يغتني بها النموذج التحليلي لهذه الشخصيَّات في الواقع والأدب على حدٍّ سواء، ولقد كان باكثير - رحمه الله - على وعيٍ كبير بِخُطورة رسم الشخصيَّة في أعماله، فهو يُعتَبر أنَّه "لكي يُوفِّق الكاتب في رسم شُخوصه ينبغي أنْ يتعرَّف إليهم واحدًا واحدًا، ويعيش معهم في ذهنه برهةً كافية حتى يُقرِّر أو يكتشف لكلِّ واحد منهم أبعاده الثلاثة: البعد الجسماني أو الشكلي، والبعد الاجتماعي، والبعد النفسي، فعلى معرفته الدقيقة بهذه الأبعاد يتوقَّف نجاحه في رسم شخصيَّاته"[6]، وقد أفلَح باكثير في مهمَّته التصويريَّة لشخصيَّاته عُمومًا، وشخصيَّاته اليهوديَّة على وجه الخصوص.

ثانيًا: الشخصيَّة اليهوديَّة والجماعة الوظيفيَّة:
الجماعة الوظيفيَّة[7] مُصطَلحٌ قام بوَضعِه الدكتور عبدالوهاب المسيري؛ استنادًا إلى مصطلحات قريبةٍ في علم الاجتماع، لوصف مجموعاتٍ بشريَّة تستَجلِبها المجتمعات الإنسانيَّة، من خارِجها في مُعظَم الأحيان، أو تجندها من بين أعضاء المجتمع أنفُسهم من بين الأقلِّيات الإثنيَّة أو الدينيَّة، ويوكل لأعضاء هذه الجماعة القِيامَ بوظائف في الغالب هامشيَّة ومنحطة ودمويَّة وارتزاقيَّة، ويتوارث أعضاء الجماعة الوظيفيَّة الخبرات في مجال تخصُّصهم الوظيفي عبر الأجيال ويحتكرونها بل ويتوحَّدون بها؛ لينتهي الأمر باكتسابهم هويَّتهم ورؤيتهم لأنفسهم من خِلال هذه الوظيفة لا من خِلال إنسانيَّتهم الكاملة، فإنسان الجماعة الوظيفيَّة إنسانٌ اختُزِلتْ إنسانيَّته فصار كائنًا ذا بُعدٍ واحدٍ[8].

والجماعة الوظيفيَّة كما تكون أفرادًا يمكن أنْ تكون دولة بكاملها مثلما هي إسرائيل نفسها في الشرق العربي أو الأوسط؛ إذ أرادت أمريكا أنْ ترث الاستعمار القديم فاتَّخذت إسرائيل آلةً لإخضاع العرب من خِلال اليهود، ظانَّة بذلك أنها تخضع العرب لها إلى أمد بعيد" كما ورد على لسان كوهين في "التوراة الضائعة" لباكثير[9].

والظاهر أنَّ باكثير كان على وعيٍ بخصوصيَّة هذه الجماعة الوظيفيَّة في دائرة الصِّراع العربي الإسرائيلي، وقد أحسن توصيفها وتأطيرها دراميًّا من خِلال ما رسَمَه لها من ملامح وما رصَدَه لها من أدوار، وفي مسرحيَّة "شيلوك الجديد" على سبيل المثال نُصادِف نماذج للشخصيَّة اليهوديَّة كلها تُمارس أدوارًا ضِمنَ مفهوم الجماعة الوظيفيَّة؛ انطِلاقًا من شيلوك الذي يرمز للقائم على الاقتصاد الربوي في المنظومة الصِّهيَوْنية، إلى كوهين الذي يُمارِس المحاماة لانتزاع الحقوق من أصحابها لفائدة التوسُّع الصِّهيَوْني، إلى زيكناخ رمز الجماعات المسلَّحة الدمويَّة التي تُصفِّي المعترضين على المشروع الصِّهيَوْني والمقاومين لمخططاته، إلى راشيل التي تلعب دور المرأة الجسد في لعبة الصِّراع.

ولنأخُذ مثال "راشيل" (رمز الصِّهيَوْنيَّة الفاجرة) في مسرحيَّة "شيلوك الجديد"؛ إذ يصفها باكثير حين يُحدِّد سماتها في إطارٍ وظيفي أحادي البُعد، لا يخرج عن "التوظيف المادي الجسدي"، وكلُّ منظومتها السلوكيَّة لا تبتَعِد عن هذا التوظيف بما يستَتْبِع من (كذب وخيانة ومجون وعمالة وفساد...)، إنها نموذج الفتاة اليهوديَّة التي لا تردُّ يَدَ لامسٍ طبعًا من أجل غايات ووظائف محدَّدة، وتركيز باكثير منذ البداية على أنها "شقراء ممشوقة القد، ناضجة الأنوثة، كلُّها إغراء وفتنة، وترتدي فستانًا من الحرير سماوي اللون، محبوكًا على جسدها حتى ليكاد أنْ يتمزَّق"[10] يفتح أفق توقُّع القارئ على الوظيفة المرسومة لهذه الشخصيَّة ولأدوارها في المسرح والحياة، ومن جهةٍ أخرى يعطي الانطباع بأنَّ الكاتب كان واعيًا بالمفهوم الذي نُرسِي عليها تحليلنا؛ أي: "المجتمع الوظيفي" وما يتطلَّبه من "مهارةٍ وخبرةٍ وظيفيَّة" حتى يفعل "مفعوله".

ومعلوم أنَّ "الشخصيَّة اليهوديَّة تاريخيًّا "مثلت وظيفيًّا "الدعارة في سبيل العمالة" عالميًّا أخبثَ تمثيل وأكثرَه قدرة على التأثير والاختراق.

ولَمَّا كانت هذه الوظيفة تتوجَّه أكثر ما تتوجَّه لمخاطبة أحطِّ ما في الإنسان من مقومات، وهو جانبه الأضعف، فقد كان دائمًا العمل الاختراقي لجهاز العمالة لا يستغني عنه باعتباره "مكملاً وظيفيًّا رئيسًا"، وهو ما عبَّر عنه "خليل" حين بادَر بالجواب على راشيل: "لقد أدَّيت واجبي الذي أقدر عليه، أمَّا الباقي فعلى جمالك يا راشيل وفتنتك"[11].

إنَّ سائر المفاهيم التواصُليَّة من وجهة نظَر الجماعة الوظيفيَّة تأخُذ معناها من طبيعة المهمَّة المنوطة بالجماعة ذاتها حتى إنَّ مفهوم "المكافأة" الذي يُعتَبر مفهومًا تحفيزيًّا في أيِّ عمل إنساني من أجل المواصلة والتقدُّم، يصبح في تقاليد المجموعة الوظيفيَّة التي تنتمي إليها "راشيل" مفهومًا موسعًا يبتدئ بـ"المال الحرام" الذي يسيل له لُعابُ الضعفاء (خليل وأضرابه)، مُرورًا بـ"الجسد" الذي يتمُّ تسليعه وحوسلته على حدِّ تعبير الدكتور المسيري (أي: تحويله إلى وسيلة) من خلال علاقة تعاقديَّة نفعيَّة محايدة خالية من أيِّ بُعدٍ عاطفي وإنساني، فلا مجالَ للغيرة أو الحبِّ الحقيقي أو أيِّ بُعدٍ أخلاقي؛ إذ لا مجال للصِّدق أو الإخلاص، فيتمُّ التعامُل مع المنتمي لهذه الجماعة الوظيفيَّة "بوَصفِه مادَّة نافعة يتمُّ التعامُل معها بمقدار نَفعِها"[12]، وفي هذا المعنى يُورد باكثير على لسان شيلوك وراشيل الحوار الذي يُؤكِّد هذه الحقيقة:
"شيلوك: حاذري يا ابنتي أنْ تكوني جادَّة في هذا الأمر، إنَّنا إنما نلعب بهذا الشاب العربي لنقضي وطرنا منه، ومن مصلحتنا أنْ تتَّصل به فتيات أخر من أخواتك.
راشيل: صدِّقني يا عمي شيلوك إنِّي ما غرت عليه من أحد"[13].

إنَّه لا مجال للعواطف في عمل الشخصيَّات المنتمية لـ"الجماعة الوظيفيَّة"؛ لأنَّ الأخلاق والعواطف قِيَمٌ إنسانيَّة ترفَع من معدلات انتماء الشخصيَّة للمجتمع الإنساني وتزيد من تماسُكه وانسجامه، في حين لا يطلب من عضو الجماعة الوظيفيَّة إلا الالتزام الصارم بالوظيفيَّة المحدَّدة لها خالية من أيِّ قيمة، وهذا الفصل بين الفعل والقيمة صُلبُ الفلسفة العلمانيَّة الصِّهيَوْنيَّة[14].

"ويتجاوَز مفهوم الجماعة الوظيفيَّة الجوانب الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المباشرة ليصلَ إلى الجوانب المعرفيَّة وإلى رؤية الإنسان للكون"[15].

ومن ذلك أنَّ "راشيل" وإن اختُزِل وجودها في تحقيق طُموحات وغايات وظيفيَّة ماديَّة صِرفة، فإنها لا تخلو من وعيٍ يُمثِّل الحدَّ الأدنى من رؤيتها للعالم، هذه الرؤية التي لا تخلو في هندستها من مُعتقدٍ ديني يتراوَح في جدليَّة بين الخفاء والتجلِّي:
"راشيل: هذا الخاتم في إصبعك يشهَدُ إنَّك كاذب فيما تقول.
عبدالله: هذا الخاتم في إصبعي وليس في قلبي.
عبدالله: قد كان ذلك قبل أنْ أراك يا راشيل، ولكن حبك قد نسخه كما نُسخت شريعة موسى بشريعة محمد.
راشيل: ولكن شريعة موسى هي الباقية يا عبدالله.
عبدالله: دعي هذا البحث للشيخ والحاخام يتنازَعان القول فيه، أمَّا نحن فلنُوحِّد الشريعتين في هذه القبلة"[16].

إنَّ "راشيل" لا تني تردُّ في سُرعة بديهة بوثوقيَّة وجزم على عشيقها "عبدالله" حين أحرجَتْه بارتباطه بالمرأة المصريَّة من خلال الخاتم الذي يحمله في إصبعه، ردًّا يعكس جزءًا من العقيدة التوراتية التي تنفَلِت بين الفينة والأخرى لتفصح عن "المكنون" الذي لا يموتُ ولا يتلاشى وإن "استتر" لدواعٍ تداوليَّة سياقيَّة.

إنَّ جواب "راشيل" يَعكِس لحظةً من الوعي اليهودي بالهويَّة المستقلة، "واليقظة الصِّهيَوْنية" في مقابل "بوهيمية عربية" و"غفلة قومية" عن حساسية الموقف الوجودي حين يشهر "الآخر" سلاحه و"هويته"، فـ"راشيل" لم تقل بأنْ شريعة موسى باقية ولم تُنْسَخ كما ذكر "عبدالله" في معرض توظيفه الحجاجي، وإنما أكَّدت بأسلوبٍ غاية في التوكيد والحسم بأنَّ شريعة موسى "هي الباقية" بالتعريف المفيد القصر، وهذا جزءٌ من البرنامج الوظيفي للشخصيَّة، وما يفهم بالاقتضاء أنَّ سواها هو المنسوخ والفاني، إنها لحظة تواصليَّة ينكشف فيها "المستور" من خِلال الخطاب والحرب المستضمرة في الخطاب، ليستمرَّ شلل الذات العربيَّة أمام هذا التصريح، بل وليُؤكِّد "عبدالله" الذي لم يحفظ من الكلمات العبرية إلا كلمة "شالوم" أنَّه "تلميذ بليد كسول"[17]، إنَّه كذلك بالفعل لأنَّ مَن لم يعرف في الحياة إلا "السلام" كان فريسةً سهلة لأعدائه، ومَن يُراهِن على السلام وحدَه مع عدوٍّ لا يُؤمن إلا بمنطق العنف[18] والقوَّة لا يكون إلا بليدًا مُتأصِّل البلادة، وإنْ حصل على "الليسانس في الحقوق" كما جاء على لسان "عبدالله".

إنَّ من وظائف "راشيل" في مسار الأحداث أنْ تُسهِم في مَسار التطبيع مع "التضحية"، تطبيعًا يستهدف تحقيق أمرين:
الأول: أنْ تحطم الشخصيَّة الماديَّة والأخلاقيَّة للعربي "عبدالله" بإدخاله حالة السيولة، وهو الخطر الذي عبَّر عنه باكثير من خِلال تصوير الخطر المُحدِق بـ"السمعة"؛ أي: الشخصيَّة المعنوية أو الأخلاقيَّة و"الأملاك"[19] أو الشخصيَّة الماديَّة.
الثاني: أنْ تتحوَّل الدوالُّ عن مَدلولاتها الحقيقيَّة، فيَصِير العدوُّ صديقًا، ويتحوَّل الشرُّ إلى خيرٍ مُطلَق، ويستحيل المستعمِر إلى صاحب حقٍّ، وهي آليَّة ذاتُ خطرٍ كبير[20]، ولعلَّ أكبر خطرٍ يتهدَّد الوجود العربي والإسلامي هو خطر التطبيع الذي ينطلق لنسف مقوم الوجود من أساسه، وتظلُّ اللغة غير بريئة في هذا الاتِّصال النكد، ولنستمع إلى عبدالله يُبيِّن كيف سرى في جسمه الداء إلى أنْ أقعده:
"راشيل:... إنَّك تُبغِض العبرية كما يبغضها قومك.
عبدالله: أتريدين الحقَّ يا حبيبتي راشيل؟ كنت فيما مضى أكرَه العبرية وأعدُّها مزاحمةً للغتي القومية في فلسطين، ولكنِّي لما أحببت راشيل أحببت لغتها معها"[21].

إنَّ هذا المقطع يُبيِّن مَسار التحوُّل والذوبان الذي انتهى بالعربي من "دائرة التحيُّز" الواعي "كنت فيما مضى" إلى "مهاوي التطبيع" و"التماهي الذي يصل حدِّ الهيام بـ"العدو"، إنَّه خطاب ينوب في التعبير عن بعض النخب العربيَّة التي صارت إلى "حب أعدائها" والدِّفاع عن "مصالح الملك" أكثر من "الملك".

إنَّ الوظيفة التطبيعيَّة لعُضوِ الجماعة الوظيفيَّة "راشيل" تواصل سَيْطرتها إلى حدٍّ يقرُّ فيه العربي "عبدالله" القاصر بأنَّه لا يستطيع ردَّ كلمات مركز القوَّة (الوصي على عقله ومشاعره)، فيمضي مستسلمًا قائلاً: "أمرك مُطاعٌ يا راشيل، ولا رادَّ لمشيئتك"[22].

وحين تتورَّط راشيل في علاقتها مع العربي "عبدالله" إلى آخر حدٍّ لتَحْمِل منه، يكشف لنا باكثير جانبًا من المهام الأخرى للجماعة الوظيفيَّة لا تقف عند حدِّ الإلهاء والغواية والتضليل والاستغلال، بل تصل إلى حدِّ الإسهاة في حسم المعركة الديمغرافيَّة التي يستشعرها اليهود ويستشعرون معها التهديد الديمغرافي للعنصر الفلسطيني، جاء على لسان شيلوك: "أما تحبين يا راشيل أنْ تُسهِمي في حركة النسل اليهوديَّة؟ إنَّ العرب يتناسلون بكثْرةٍ مزعجة، فلا بُدَّ أنْ نباريهم إنْ شئنا أن تكون لنا الأكثرية"، "لا بُدَّ من التضحية يا جميلتي راشيل، إنَّ الدولة اليهوديَّة تقوم على سواعد أمثالك من المضحيات المخلصات، وإنَّ إعادة هيكل سليمان يا ابنتي ليست بالمطلب الهيِّن"[23]، فمن هذا المنطلق يتمُّ تصوير المهمة البيولوجية "الاأخلاقيَّة" بأنها مهمَّة مقدَّسة، وقَداستها من جنس قَداسة الحرب التي تشنُّها إسرائيل على العرب وعلى كلِّ أعدائها، إنَّه التزام بالمهمَّة السامية من أجل الغاية الكبرى "إعادة هيكل سليمان" المزعوم[24].

و"راشيل" في شيلوك الجديد "لا تختلف عنها في "شعب الله المختار"؛ إذ تمارس نفسَ الأدوار وتقومُ بنفس الوظائف، ودائمًا يرتفع شعار "في سبيل إسرائيل"[25] ليُغطِّي على الجرائم والحماقات والفضائح...

يخلص لنا الدكتور المسيري ما مرَّ بنا من مواصفات عضو الجماعات الوظيفيَّة بأنَّه "إنسان اقتصادي محض له بُعدٌ واحد (وظيفة محددة) مُتحرِّر من القِيَم الأخلاقيَّة السائدة، ويُكرِّس ذاته لمنفعته ولذَّته، ويؤمن بالنسبيَّة الأخلاقيَّة وبازدواجيَّة المعايير وبالحتميَّة، ويتَّسم بالحركيَّة، ومرجعيَّته النهائيَّة في علاقته بالمجتمع المضيف مرجعيَّة ماديَّة"[26].



يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.83 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.82%)]