عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-06-2021, 03:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مع الشاعر محمد التهامي في ديوان شعره (أشواق عربية)

لم يكن إلا ما تقوله هذه الجمل: (ما انخفضَتْ فيك الجِباه - لَم يَهْزمك أوغادٌ - عِشْت في زحمة الأغلال شامخةً)، لقد عاشَت مع الأحداث عالية الرَّأس، موفورة الكرامة، ولم تنحنِ ذلاًّ وخنوعًا، ولم تنهزم روحًا ونفْسًا، ولم تضعف عزيمةً ولا إرادة، وعاشت في شموخٍ وسُموٍّ كما كانت تعيش من قبل دائمًا؛ لأنَّ الجوهر الخالص لا يتغيَّر أبدًا حيثما كان، وحيثما وُضِع، وهل يتغيَّر الذَّهَب إذا نُقِل من مكان نظيفٍ برَّاق إلى مكان كلُّه ترابٌ في تراب؟ وهل يزول عن الأسد جوهَرُ الأسد ومعناه إذا نُقِل من الغاب حيث مَملكَتُه، إلى داخل أقفاصٍ من حديد، يكون خلالَها مسلاةً للمتفرِّجين؟ لا، سوف يظَلُّ الذَّهب ذهبًا كما كان ذهبًا، وسوف يبقى الأسد أسدًا، كما كان من قَبل أسدًا دون نقصان، ومن هنا جاء هذا القياس الذي جاء به الشَّاعر تأكيدًا لهذه الحقيقة:
فَالتِّبْرُ فِي القَبْرِ تِبْرٌ عَزَّ مَعْدِنُهُ
وَالأُسْدُ فِي ظُلْمَةِ الأَقْفَاصِ آسَادُ



وهو تأكيدٌ يؤكِّد تلك الحقيقة الخاصة بعاصمة الرشيد (بغداد):
بَلْ عِشْتِ فِي زَحْمَةِ الأَغْلاَلِ شَامِخَةً
لاَ السِّجْنُ سِجْنٌ وَلاَ الأَصْفَادُ أَصْفَادُ



ثم يقدِّم الشاعر بعد ذلك تفصيلاً لِمُفردات الموقف الأدبي الذي كان من (بغداد) في مواجهة الأحداث الجِسَام، وهو تفصيلٌ يقدِّم أمثلةً من البطولة، وأمثلةً من الجهاد، وأمثلة من قوة الصُّمود، مع ما كان من وراء ذلك من تكاليفَ باهظة، ومن خسائر فادحة، ومن أعباء ثِقَال، لكن ذلك كُله يهون في سبيل استرداد الحُرِّية، وفي سبيل إعادة العِزَّة والكرامة، وفي سبيل قهر ورَدِّ المعتدين الجبابرة، وعن تفصيل هذا الموقف يقول الشاعر:
وَالكُلُّ يَعْرِفُ كَمْ حَاوَلْتِ صَادِقَةً
دَكَّ السُّجُونِ وَكَمْ هَدَّمْتِ مَا شَادُوا

لَمْ يَثْنِ عَزْمَكِ أَعْدَاءٌ جَبَابِرَةٌ
وَلَمْ يَرُدَّ خُطَى الأَحْرَارِ جَلاَّدُ

وَلَمْ يَعُدَّ الضَّحَايَا وَهْيَ مَاضِيَةٌ
كَالْمَوْجِ فِي مِهْرَجَانِ الْمَوْتِ عَدَّادُ

وَكَمْ دَفَنْتِ شَبَابًا نَاضِرًا أَلِقًا
أَيَّامُهُ البِيضُ أَحْلاَمٌ وَأَعْيَادُ

وَخُضْتِ فِي الدَّمِ كَالطُّوفَانِ تَنْزِفُهُ
مِنْ شَعْبِكِ الْحُرِّ أَشْلاَءٌ وَأَكْبَادُ

وَعِشْتِ فَوْقَ حِيَاضِ الْمَوْتِ مُزْهِرَةً
كَأَنَّمَا الْمَوْتُ فِي دُنْيَاكِ مِيلاَدُ



فإذا جئنا هنا إلى بيان تفاصيل ذلك الموقف الجهادي الأبِيِّ، فإنَّنا نشير إلى اختيار الشَّاعر لهذه الكلمات التي تُنْبِئ عمَّا وراءها من معانٍ كبيرة وعظيمة، وتلك الكلمات هي (دك - هدمت - الضَّحايا - مهرجان الموت - دفنت شبابًا - خضت في الدَّم - أشلاء - أكباد - حياض الموت)، وكلُّنا يعرف قوة من يدكُّ ويهدم، ويعرف جودَ وسخاء من يضحِّي بروحه، ويعرف إيثار من يُقدِّم زهرة الشباب فداءً للحرية، ويعرف شجاعة من يخوض في الدِّماء التي يَنْزفها دون رهب ولا وجل، مهما كان هناك من أشلاء ممزَّقة ومُبَعثرة، ومهما كان من أكبادٍ مقطَّعة ومفتَّتة، وكذلك يعرف كلُّنا مقدار إقدام وجرأة من يتَّخِذ من حياض الموت مورِدًا عذبًا يمدُّه بالحياة؛ تحقيقًا للمبدأ القائل: "اطلب الموت توهَبْ لك الحياة".

وفوق هذه الكلمات التي تُخْبِرنا عن الموقف الجهاديِّ الصادر ضد الأعداء، فإنَّ هناك من الكلمات والعبارات ما يُخْبِرنا عن الموقف الجهاديِّ إزاءَ ما يأتي من هؤلاء الأعداء، وقد اختار الشاعر من الكلمات ما ينبئ عن قوَّة وبأسِ هؤلاء الأعداء، حتَّى يكون النصرُ عليهم موضِعَ اعتزازٍ وافتخار، ومن هذه الكلمات (جبابرة - جلاَّد)، وكلُّنا يعرف صفة التجبُّر وما توحي به مِن صلَف وقسوة، وغلظة وجفاء، وبُعْدٍ عن الرحمة والرأفة، ويعرف كذلك معنى كلمة الجلاَّد، وما يؤدِّيه الجلاد من وظيفة الجلد بالسِّياط التي تُلْهِب الجلود، وتشوي الظُّهور، وتستدعي العويل والصُّراخ، ومع كل ما توحي به الكلماتُ هنا وهنا، فإنَّ موقف (بغداد) إزاءَ ذلك هو الموقفُ ذاته؛ لا خضوعَ ولا خنوع، ولا ضعف ولا انهزام، كما تعبِّر عن ذلك هذه الجمل:
لَمْ يَثْنِ عَزْمَكِ أَعْدَاءٌ جَبَابِرَةٌ
وَلَمْ يَرُدَّ خُطَى الأَحْرَارِ جَلاَّدُ



ثُمَّ كان من وراء ذلك كلِّه هنا وهناك تلك الحياةُ الحيَّة المُزْهِرة، الناضرة المورقة، التي تعطي لِمَظاهر الموت معنًى آخَر غَيْرَ الذي يعرفه الناس، إنَّ هذا المعنى هو ميلاد الحياة، وهو بدايتها الحقيقية:
كَأَنَّمَا الْمَوْتُ فِي دُنْيَاكِ مِيلاَدُ

ومن الجوانب التفصيلية لكفاح (بغداد) وجهادها ضدَّ الطغاة الذين كان لهم شأنٌ فيها يومًا من الأيام - ما يعبِّر عنه الشاعر في قوله مخاطِبًا إيَّاها:
وَكَمْ سَخِرْتِ مِنَ الطَّاغِينَ فِي يَدِهِمْ
حَوْلَ الْمَشَانِقِ أَحْبَالٌ وَأَعْوَادُ

وَعَاشَ فَوْقَ لَظَى البُرْكَانِ حُكْمُهُمُ
مَا قَرَّ يَوْمًا وَلَمْ تُثْبِتْهُ أَوْتَادُ

حَتَّى تَحَرَّكَ فِي البُرْكَانِ ثَائِرُهُ
فَزَلْزَلَ الْحُكْمَ لَمْ تَنْفَعْهُ أَسْنَادُ





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.39 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.99%)]