عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-06-2021, 03:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي مع الشاعر محمد التهامي في ديوان شعره (أشواق عربية)

مع الشاعر محمد التهامي في ديوان شعره (أشواق عربية)
د. طه مصطفى




في مقدِّمة هذا الديوان يُطالعنا الشاعر الكبيرُ بِهذه الكلمات التي هي كأنَّها بنتُ اليوم، في ظلِّ ما تعيشه الأُمَّةُ العربية والإسلاميَّة من أحداث.

يقول الشَّاعر: والأمر الذي لا شكَّ فيه أنه لا يَختلف مفكِّرٌ عربيٌّ واحد أو أجنبي على أنَّ الوحدة العربية هي طوقُ النَّجاة لكلِّ العرب، وهي طريقُهم الوحيد إلى الدُّخول في المعترَكِ العالَمِيِّ الذي لا يَرحم الصِّغار، ولا يعترف إلاَّ بالكيانات الكبيرة، الكثيرون يؤمنون بذلك، ويَحلمون بتحقيقه، ولكن كيف؟ هذا هو السُّؤال الذي سيُجِيب عنه الزَّمن؛ طال أو قَصُر".

ومِن وَحْيِ هذه المقدِّمة، ومن وحي ما يَمُرُّ بالأمة العربية من أحداثٍ جِسام، كانت لنا هذه الوقفة مع قصيدةٍ من قصائد هذا الدِّيوان، ومع أنَّها قصيدةٌ يَرجع تاريخُ نظمِها إلى سنة 1998م، إلا أنَّها تبدو وكأنَّها قيلت اليوم؛ نظرًا لِما فيها من تَماثُل البواعث التي كانت من وراء نَظْمِها، ولما يجب أن يُقال أيضًا لو أنَّ صاحبها صاغها في ظلِّ الأحداث التي تعيشها الأمَّة العربية الآن.

أمَّا هذه القصيدة، فهي التي جاءت في الديوان تحت عنوان "بغداد"، وقد جاءت في افتتاحها هذه الأبيات:
بَغْدَادُ، مَهْمَا تُلاَقِي أَنْتِ بَغْدَادُ
لاَ بُدَّ يَوْمًا لَكِ الأَيَّامُ تَنْقَادُ

كَمْ عِشْتِ فِي قِمَّةِ التَّارِيخِ سَيِّدَةً
يَعْنُو لِجَاهِكِ أَحْرَارٌ وَأَسْيَادُ

أُغْرِمْتِ بِالْمَجْدِ حِينًا وَانْفَرَدْتِ بِهِ
لَمْ يَبْقَ حَوْلَكِ لِلْبَاقِينَ أَمْجَادُ



ومن غير شكٍّ فإنَّ هذا المَطلع يَفرض نفسه فرضًا على لسان كلِّ عربي، فضلاً عن كلِّ مُسلم، وهو يرى بعينه الآن ما نزل بعاصمة الرَّشيد، إنَّ الخِطاب هنا ليس دعوةً للوقوف على الأطلال، وبُكاءِ الدِّيار، وإنَّما هو الدَّعوة الصادقة إلى تضميد الجِراح، وإلى الارتفاع فوقَ مُستوى الآلام - على قسوتِها وشِدَّتِها - مِمَّا يُمَثِّل الصُّمود النَّفسي والإيمانِيَّ أمام الحدَثِ الجَلل، ويبدو لنا هذا الصُّمود من خلال هذا النِّداء، وما يَحمله في حروفه من كلِّ معاني العِزَّة والكرامة، والإجلال والإكبار:
بَغْدَادُ مَهْمَا تُلاَقِي أَنْتِ بَغْدَادُ

ذلك لأنَّ ذاكرة التاريخ لا يُمكن أن تنسى تاريخَ بغداد، وكيف تنسى؟ والماضي كلُّه ماضي أمجادٍ وانتصارات، وقدرةٍ على مواجهة الأحداث، وعلى النُّهوض القويِّ من كل كبوة ألَمَّت بِها، ومِن كلِّ خطر داهَمَها، والتاريخ خيْرُ شاهدٍ، فهو خبَرٌ مسطور، وخبَرٌ مقروء، وخبَرٌ موثَّق، يعرف ذلك القاصي والدَّاني، والقريبُ والبعيد، والعدوُّ والصديق.

واستِنادًا إلى هذا الماضي المجيد، واحتكامًا إلى حقائق التاريخ؛ جاء هذا التَّأكيد، العالي الصَّوت، الواثق النَّبْرة:
لاَ بُدَّ يَوْمًا لَكِ الأَيَّامُ تَنْقَادُ

نعم، لا بدَّ، وإن طال الأمَد، وإن توالت الأحداث، وإن تباطأت الخُطى، وإن ادْلَهمَّت الظُّلمات، وإن تكاثر الأعداء، وإن تَحالفت قُوَى الظُّلم والطغيان، لا بُدَّ أن تعود إليها السِّيادة، ولا بدَّ أن يعود إليها زِمامُ أمرِها؛ ليكون في يدها، وطوع تصرُّفِها، لا بد أن تنكشف الظُّلمات، وتعودَ الأضواء، لا بُدَّ أن تعود قوى البَغي على أعقابِها خاسئةً مدحورة، ومخذولةً مهزومة، لا بُدَّ أن يصحو الإيمان، وترسخ جذوره في قلوب المؤمنين الصَّادقين؛ فالله - تعالى - غالِبٌ على أمره، وهو - سبحانه - الذي وعَد، ووَعْدُه الحقُّ: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].

إنَّ هذا الماضي الشَّاهد، الذي يعطي الدَّليل كلَّ الدليل على الثِّقة في المستقبل، وعلى التغيُّر من حالٍ إلى حال، هو ما يُخْبِرنا عنه الشَّاعر في قوله الواثق:
كَمْ عِشْتِ فِي قِمَّةِ التَّارِيخِ سَيِّدَةً
يَعْنُو لِجَاهِكِ أَحْرَارٌ وَأَسْيَادُ

أُغْرِمْتِ بِالْمَجْدِ حِينًا وَانْفَرَدْتِ بِهِ
لَمْ يَبْقَ حَوْلَكِ لِلْبَاقِينَ أَمْجَادُ



فبغدادُ لم تعش على هامش التاريخ، ولم تَعِش على مستوى متساوٍ مع بقية العواصم، وإنَّما عاشت - على مرِّ التاريخ، في كثيرٍ من الأوقات - على (قمَّة التاريخ سيِّدةً)، وكذلك فإنَّها حين خضع لها الآخرون فإنَّ هؤلاء الآخَرين ليسوا ضعافَ الناس ولا العبيد، فما في ذلك فضلٌ يُذْكَر، ولا مَجد يُؤْثَر، وإنَّما هم في حقيقتهم (أحرارٌ وأسياد).

وكذلك فإنَّ التاريخ حين سجَّل وقائع المجد لعاصمة الرشيد، فإنَّ هذا المجد لم يكن أمرًا عارِضًا، ولم يكن شيئًا عابِرًا طارئًا؛ وإنَّما أصبح المَجْدُ لديها معشوقًا، والعشق لا يكون عشقًا إلاَّ مع الثَّبات والدَّوام الذي يشغل كلَّ الأوقات، والعشق ليس للآخرين نصيبٌ منه (لَم يبق حولَكِ للباقين أَمْجاد).

وإذا كانت الدُّنيا تأتي بالخير أحيانًا، فإنَّها في أحيانٍ أخرى تأتي بالشَّر، وأعنى بذلك أنَّه قد يطرأ على المَجد والفخار ما لا يتَّفِق مع بريق المَجد ولمعان الفخار، وذلك أمرٌ يُعَدُّ سُنَّة من سنن الكون، وهي سُنَّة تُمَثِّل حقيقةً من الحقائق الَّتي أكَّدها القرآنُ الكريم في قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]، لكن ليس معنى التسليم بالحقيقة التسليمَ بِها أمرًا واقِعًا، ترضى به النَّفس، ويطمئنُّ إليه القلب، وتعنو له الجِباه، لكنَّه التسليم الذي يعني الاعترافَ بوجوده الذي يوجب الوقوف ضدَّه، والعملَ من أجل إزالته ومَحْوِه، مع ما يصحب ذلك من جهادٍ بالنَّفْس والنفيس، وبالمُهَج والأرواح، وهذا ما سجَّله الشاعر بالنسبة لعاصمة الرشيد (بغداد) عندما قُدِّر لها أن تقع أسيرةَ السجن، وأن تُغَلَّ بالقيود يومًا ما، فلقد كان لها مع القيود شأنٌ، وكان لها مع الأَسْر أمر، وهو شأن له ما بَعْدَه، وأمر كان من بعده الفجرُ الجديد، ذلك الفجر الذي تحطَّمَت معه القيود، وفُكَّ معه ما كان من أَسْر، وفتح معه ما كان موجودًا من سجون.

ويُطالعنا حول هذه الحقائقِ قولُ الشاعر:
حَتَّى إِذَا جَاءَ عَهْدُ القَيْدِ مَا انْخَفَضَتْ
فِيكِ الْجِبَاهُ وَلَمْ يَهْزِمْكِ أَوْغَادُ

بَلْ عِشْتِ فِي زَحْمَةِ الأَغْلاَلِ شَامِخَةً
لاَ السِّجْنُ سِجْنٌ وَلاَ الأَصْفَادُ أَصْفَادُ

فَالتِّبْرُ فِي القَبْرِ تِبْرٌ عَزَّ مَعْدِنُهُ
وَالأُسْدُ فِي ظُلْمَةِ الأَقْفَاصِ آسَادُ



فالشاعر يسجل موقِفَ (بغداد) مع الأحداث الطَّارئة، وهذه الأحداث تُمَثِّلها الكلمات (القيد - أوغاد - الأغلال - الأصفاد - القَبْر - ظلمة - الأقفاص)، وهي كلماتٌ تُلقي بظلالِها وإيحاءاتِها على الجوِّ المُحيط بها، وكلُّنا يعرف مأساةَ مَن تكون في يده القيود، ومن تكون في عنُقِه الأغلال، ومن تكون في قدَمَيه الأصفاد، ومن يُحبس في قَبْوٍ أشبه بالقَبْر، ومن تُحيط به ظلماتٌ لا يُبْصِر فيها شيئًا، ومن يسجن داخل أقفاصٍ من حديد يُحال بها بينه وبين حرِّية الحياة، ومع ذلك فماذا كان من بغداد مع كلِّ هذا؟


يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.88 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.79%)]