عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-06-2021, 03:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,426
الدولة : Egypt
افتراضي موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر

موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر
أحمد الشجاع


من سنن الله الشرعية وكذلك الكونية أن يمر الناس بحالات القوة والضعف والنصر والهزيمة والسعادة والشقاء والفرح والترح.. وغيرها من الظروف التي يمر بها الإنسان..
وبحسب ما يمارسه الإنسان من سلوك في حياته تتحدد نوعية الحالة التي يمر بها ومقدار ما يناله منها..
وقد وضع الله تعالى شرائع للناس تربطهم بخالقهم وتنير لهم طريق الفلاح والسعادة وأنزل رسله وأنبياءه لهذا الهدف..
فأصبح الشرع هو الأساس والمصدر الوحيد لضبط سلوك الإنسان وتصحيح مسار حياته.. ووضع لذلك القواعد التي على إنجاح هذا الأمر..
وهذا ما جاء به الإسلام؛ ومن هنا أصبح المسلم يتميز عن غيره بتعاليم الدين الصحيح من خلال النص الشرعي وما ترتبط به من أحداث ووقائع جعل الشرع منها وسائل لفهم مقاصده.
ومن تلك الأحداث معركتي (بدر) و(أحد) بما فيهما من معاني ودلالات أراد الشرع أن تكون مرجعاً للأمة الإسلامية في فهم حقيقة النصر والهزيمة.
وقد تحدثنا في تقرير سابق عن الدلالات التي جاءت بها معركة بدر وكلها كانت حول النصر: لماذا وكيف؟.. وفي هذا التقرير نستعرض ما جاءت به معركة أحد من دلالات أدت إلى هزيمة المسلمين أمام أعدائهم؛ لتكتمل بذلك الصورة بحالتيها المتناقضتين.
وقائع المعركة:
لما قتل الله أشراف قريش ببدر وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها، وترأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم، وجاء إلى أطراف المدينة في غزوة (السويق) ولم ينل ما في نفسه؛ أخذ يؤلب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين ويجمع الجموع. فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم؛ لئلا يفروا وليحاموا عنهن.
ثم أقبل بهم نحو المدينة فنزل قريباً من جبل أحد بمكان يقال له (عينين) وذلك في شوال من السنة الثالثة واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟، وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي وكان هو الرأي، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر وأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك. وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة وتابعه على ذلك بعض الصحابة فألح أولئك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا: أكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج، فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه].
فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف من الصحابة واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، وكان رسول الله رأى رؤيا - وهو بالمدينة - رأى أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقراً تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة؛ فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط بين المدينة وأُحد رجع عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر، وقال: تخالفني وتسمع من غيري، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم وسبهم، وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى.
ونفذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم. فلما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله بن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم وألا يفارقوه ولو رأى الطير تتخطف العسكر، وكانوا خلف الجيش، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.
فظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين يومئذ وأعطى اللواء مصعب بن عمير، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشباب يومئذ فرد من استصغره عن القتال، وكان منهم عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزم.
وأجاز من رآه مطيقاً وكان منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل: أجاز من أجاز لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ورد من رد لصغره عن سن البلوغ، وقالت طائفة: إنما أجاز من أجاز لإطاقته ورد من رد لعدم إطاقته، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك، قالوا: وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر: فلما رآني مطيقا أجازني.
وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل. ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق واسمه عبد عمرو بن صيفي، وكان يسمى (الراهب) فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – (الفاسق)، وكان رأس الأوس في الجاهلية فلما جاء الإسلام أعرض عنه وجاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداوة.
فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحضهم على قتاله ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه، فكان أول من لقي المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم، فقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً، وكان شعار المسلمين يومئذ (أمت).
وأبلى يومئذ أبو دجانة الأنصاري وطلحة بن عبيد الله وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر وسعد بن الربيع.
وكانت الدُوُلة أول النهار للمسلمين على الكفار فانهزم عدو الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه، وقالوا: يا قوم الغنيمة، فذكرهم أميرُهم عهدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة فذهبوا في طلب الغنيمة وأخلو الثغر، وكر فرسان المشركين فوجدوا الثغر خالياً قد خلا من الرماة فجازوا منه وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة وهم سبعون.
وتولى الصحابة وخلص المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى وكانت السفلى وهشموا البيضة على رأسه، ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وكان الذي تولى أذاه - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص، وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهري عم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري هو الذي شجه. وقتل مصعب بن عمير بين يديه فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح، وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه وامتص مالك بن سنان - والد أبي سعيد الخدري - الدم من وجنته وأدركه المشركون يريدون ما الله حائل بينهم وبينه فحال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردها عليه بيده وكانت أصح عينيه وأحسنهما. وصرخ الشيطان بأعلى صوته: إن محمداً قد قتل؛ ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وفر أكثرهم وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟، فقالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟، قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل الناس ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد. فقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة. وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحواً من عشرين جراحة.
وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو المسلمين، وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار إليه أن اسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم، فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بن خلف على جواد له يقال له (العوذ) زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما اقترب منه تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته فكر عدو الله منهزماً، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون.
وكان يعلف فرسه بمكة ويقول: أقتل عليه محمداً، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: [بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى]، فلما طعنه تذكر عدو الله قوله: أنا قاتله، فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح، فمات منه في طريقه إلى مكة.
وجاء علي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء ليشرب منه فوجده آجناً فرده وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلو صخرة هنالك فلم يستطع لما به فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالساً وصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار.
وشد حنظلة الغسيل وهو حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد بن الأسود فقتله وكان جنباً؛ فإنه سمع الصيحة وهو على امرأته فقام من فوره إلى الجهاد فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن الملائكة تغسله. ثم قال: [سلوا أهله ما شأنه؟]، فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر. وجعل الفقهاء هذا حجة أن الشهيد إذا قتل جنباً يغسل اقتداء بالملائكة.
وقتل المسلمون حامل لواء المشركين فرفعته لهم عمرة بنت علقمة الحارثية حتى اجتمعوا إليه وقاتلت أم عمارة، وهي نسيبة بنت كعب المازنية، قتالاً شديداً، وضربت عمرو بن قمئة بالسيف ضربات فوقته درعان كانتا عليه وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحاً شديداً على عاتقها.
وكان عمرو بن ثابت المعروف بالأصيرم من بني عبد الأشهل يأبى الإسلام فلما كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي سبقت له منه، فأسلم وأخذ سيفه ولحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقاتل فأثبت بالجراح، ولم يعلم أحد بأمره، فلما انجلت الحرب طاف بنو عبد الأشهل في القتلى يلتمسون قتلاهم، فوجدوا الأصيرم وبه رمق يسير، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم ما جاء به لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه ما الذي جاء بك؟، أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟، فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله ثم قاتلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: [هو من أهل الجنة]، قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاة قط.
ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد؟ـ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟، فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟، فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قوام الإسلام بهم.
فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوءك. فقال: قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم قال: أُعلُ هبل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ألا تجيبونه؟]، فقالوا: ما نقول؟، قال: [ قولوا: الله أعلى وأجل]. ثم قال سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، قال رسول الله: [ألا تجيبونه؟]، قالوا: ما نقول؟، قال: [قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم].
فأمرهم بجوابه عند افتخار أبي سفيان بآلهته وبشركه تعظيماً للتوحيد وإعلاماً بعزة من عبده المسلمون وقوة جانبه، وأنه لا يغلب ونحن حزبه وجنده، ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟. بل قد روي أنه نهاهم عن إجابته وقال: لا تجيبوه؛ لأن كلمهم لم يكن برد بعد في طلب القوم ونار غيظهم بعد متوقدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمى عمر بن الخطاب واشتد غضبه، وقال: كذبت يا عدو الله. فكان في هذا الإعلام من الإذلال والشجاعة وعدم الجبن والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم، وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم، وقد أبقى الله لهم ما يسوؤهم منهم. وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة بعد ظنه وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة وغيظ العدو وحزبه والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحداً واحداَ؛ فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده. فصبر له النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استوفى كيده ثم انتدب له عمر فرد سهام كيده عليه، وكان ترك الجواب أولاً عليه أحسن، وذكره ثانياً أحسن، وأيضاً فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانة له وتصغيراً لشأنه، فلما منته نفسه موتهم، وظن أنهم قد قتلوا وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل كان في جوابه إهانة له وتحقير وإذلال، ولم يكن هذا مخالفاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تجيبوه، فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمد؟ أفيكم فلان؟ أفيكم فلان؟، ولم ينهه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء فقد قتلوا. وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولاً ولا أحسن من إجابته ثانياً.
ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجابه عمر فقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
وقال ابن عباس: ما نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موطن نصره يوم أحد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبين من ينكر كتاب الله، إن الله يقول: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} (آل عمران: 152). قال ابن عباس: والحس: القتل، ولقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب المشركين سبعة أو تسعة..
وأنزل الله عليهم النعاس أمنة منه في بدر وأحد، والنعاس في الحرب وعند الخوف دليل على الأمن، وهو من الله، أما في الصلاة ومجالس الذكر والعلم فهو من الشيطان.
وقاتلت الملائكة يوم أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيحين: عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد.
وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال: [من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة]، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه فقال: [من يردهم عنا وله الجنة] أو [هو رفيقي في الجنة]، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ما أنصفنا أصحابنا]، وهذا يروى على وجهين: بسكون الفاء ونصب أصحابنا على المفعولية، وفتح الفاء رفع أصحابنا على الفاعلية.
ووجه النصب: أن الأنصار لما خرجوا للقتال واحداً بعد واحد حتى قتلوا، ولم يخرج القرشيان، أي: ما أنصفت قريش الأنصار.
ووجه الرفع: أن يكون المراد بالأصحاب الذين فروا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفرد في النفر القليل فقتلوا واحداً بعد واحد، فلم ينصفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثبت معه.
وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: "لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنت أول من فاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت: كن طلحة فداك أبي وأمي كن طلحة فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [دونكم أخاكم فقد أوجب]".
وفي الصحيحين عن أبي حازم أنه سئل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان يسكب الماء، وبما دووي. كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم".
وفي الصحيح: "أنه كسرت رباعيته وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول: [كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم]، فأنزل الله عز و جل: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} (آل عمران: 128).
ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر، وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني المسلمين)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعنى المشركين). ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟، فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد. ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم.
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} الآية (آل عمران: 142).
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟، فقال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء. قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟، قال: بلى. فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: [هذه الشهادة يا أبا جابر].
وقال خيثمة أبو سعد - وكان ابنه استشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم يوم بدر -: لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصاً حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً. وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبر سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقتل بأحد شهيداً.
وكان عمرو بن الجموح أعرجاً شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا. فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد]، وقال لبنيه: [وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز و جل أن يرزقه الشهادة]، فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل يوم أحد شهيداً.
بعد الحرب
ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال، فشق ذلك عليهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: [اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة. وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم فيها].
قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة. ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف على المسلمين أبو سفيان ثم ناداهم: موعدكم الموسم ببدر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [قولوا: نعم قد فعلنا]، قال أبو سفيان: فذلكم الموعد.
ثم انصرف هو وأصحابه فلما كان في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم، وقال: [لا يخرج معنا إلا من شهد القتال]، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟، قال: لا. فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القرح الشديد والخوف، وقالوا: سمعاً وطاعة.
واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي أسير معك. فأذن له فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد.
وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟، فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟، فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة، فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل فإني لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة.
ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة، فقال: هل لك أن تبلغ محمداً رسالة وأوقر لك راحلتك زبيباً إذا أتيت إلى مكة؟، قال: نعم، قال: أبلغ محمداً أنّا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه. فلما بلغهم قوله قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} (آل عمران: 174).
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.92%)]