كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
حكم قراءة الفاتحة في حق المأموم
اختلف أهل العلم رحمهم الله قديمًا وحديثًا في هذه المسألة؛ لسببين، هما:
أ - السبب الأول: ظاهر النصوص الواردة في هذه المسألة، فبعضها يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة، وبعضها يوجب الإنصات لقراءة القرآن؛ الأمر الذي جعل أهل العلم تختلف أقوالُهم في توجيه هذه الأدلة، والتوفيق بينها.
ب - السبب الثاني: كثرة المرويِّ عن الصحابة والتابعين في هذه المسألة، واختلاف النقل عنهم فيها؛ فمنهم من رُويَ عنه جواز القراءة خلف الإمام مطلقًا، ومنهم من رُويَ عنه جواز القراءة خلف الإمام في السِّرِّيَّة دون الجهريَّة، ومنهم من رُوي عنه المنع من القراءة خلف الإمام مطلقًا، بل منهم من رُويَ عنه أكثر من قول في هذه المسألة.
وبناءً على هذا كثُر الاختلاف في هذه المسألة إلى يومنا هذا، وقد ألَّف فيها كثير من أهل العلم، وبسطوا القول فيها، منهم من أفردها بالتأليف؛ كالإمام البخاري في كتابه "خير الكلام، في القراءة خلف الإمام"، والبيهقي في كتابه "القراءة خلف الإمام"، واللكنوي من علماء الحنفية في العصر الحاضر في كتابه "إمام الكلام، فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام".
وقد ذكر شارح سنن الترمذي المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (1/256): أنه ألَّف فيها كتابًا مبسوطًا سماه: "تحفة الكلام، في وجوب القراءة خلف الإمام".
ومنهم من بسط القول فيها ضمن مؤلَّف، ولم يفردها بالتأليف؛ كابن المنذر في "الأوسط"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وابن عبدالبر في "التمهيد" و"الاستذكار"، والحازمي في "الاعتبار"، ومن أحسن ما كُتِب فيها ما كتَبَه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "مجموع الفتاوى"، وقد أفرَدَ بعضهم جواب شيخ الإسلام عن هذه المسألة فطبَعَه برسالة مستقلة، وهي نفس ما في الفتاوى.
وممن بحث في هذه المسألة من المعاصرين الشيخ عبدالمحسن بن محمد المنيف في كتابه "أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة".
ويمكن إجمال الخلاف في هذه المسألة وأدلتها في أقوال ثلاثة، هي:
1 - القول الأول: أن المأموم يقرأ الفاتحة خلف الإمام مطلقًا في الصلاة السِّريَّة والجهريَّة.
وهذا القول مرويٌّ عن جمع من الصحابة والتابعين، مع اختلاف في النقل عن أكثرهم، وكذا احتمال النقل عن بعضهم أن يكون مرادًا به هذا القول، وهو القراءة خلف الإمام مطلقًا، أو القول الذي بعده، وهو القراءة في السريَّة فقط؛ فممن رُويَ عنه هذا القول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه[1]، وعبادة بن الصامت[2]، وأبو هريرة[3]، وعبدالله بن عباس[4]، وعبدالله بن عمرو[5]، ومعاذ بن جبل[6]، وأُبَيِّ بن كعب[7]، وحذيفة بن اليمان[8]، وعبدالله بن الزبير[9]، وأنس بن مالك[10]، وهشام بن عامر[11]، رضي الله عنهم أجمعين.
كما رُويَ عن جمع من التابعين؛ منهم: مجاهد بن جبر[12]، وسعيد بن جبير[13]، والحسن البصري[14]، ومكحول[15]، وأبو المليح[16]، وأبو سلمة بن عبدالرحمن[17]، وميمون بن مهران[18]، ومالك بن عون[19]، والشعبي[20]، وأبو مجلز[21]، وسعيد بن أبي عروبة، والحكم بن عتيبة[22]، وعروة بن الزبير[23]، وعطاء[24]، وقال بهذا القول الإمام الشافعيُّ في الجديد، وأكثر أصحابه[25]، والأوزاعي[26]، والليث بن سعد[27]، وأبو ثور[28]، وهو رواية عن مالك[29]، وأحمد[30].
واختار هذا القولَ بعضُ المحقِّقين من أهل العلم، منهم البخاري[31]، وأبو بكر بن المنذر[32]، وأبو بكر بن خزيمة[33]، والخطابي[34]، والبيهقي[35]، وابن حزم[36]، والحازمي[37]، وأبو البركات جد شيخ الإسلام ابن تيمية[38]، والقرطبي[39]، وأبو الطيب محمد شمس الحق آبادي[40]، والشوكاني[41]، وأحمد محمد شاكر[42].
واتفَقوا على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة السرية.
واختلَفوا في حكم قراءتها في حال جهر الإمام بالقراءة، فقال بعضهم بوجوب ذلك؛ منهم: الشافعي، والبخاري، وابن حزم، والشوكاني، وغيرهم، وقال بعضهم باستحبابه فقط؛ منهم: الأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو البركات، والأَولى عندهم جميعًا أن تكون في سكتات الإمام.
الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول:
أ - من الكتاب: قول الله تعالى: ï´؟ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ï´¾ [المزمل: 20].
ب - ومن السنة أحاديث كثيرة جدًّا، منها ما يأتي:
1 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في قصة المسيء صلاتَه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن))[43].
قالوا: ووجه الدلالة من الآية والحديث: أن الأمر للوجوب في الآية والحديث بقراءة ما تيسَّر، والفاتحة هي أيسرُ ما تيسَّر من القرآن، والآيةُ والحديث كلٌّ منهما مبيَّن مفسَّر بالأحاديث التالية، التي فيها وجوب قراءة الفاتحة.
2 - ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))؛ متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن))[44].
وفي رواية للدارقطني[45] والبيهقي[46]: ((لا تُجزِئُ صلاةٌ لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب))[47].
قالوا: فقوله: "لا صلاة" صلاة نكرة في سياق النفي، فهو يعم[48].
وهو نفي للصلاة الشرعية المجزئة؛ بدليل رواية الدارقطني والبيهقي: ((لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب))، قالوا: وهذا العموم لم يخص منه المأموم[49].
3 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خِداج - ثلاثًا - غير تمام))، فقيل لأبي هريرة: إنَّا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: قسَمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)) الحديث؛ رواه مسلم[50].
4 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل صلاة لا يُقرأ فيها بأم الكتاب، فهي خِداج))؛ رواه ابن ماجه وغيره[51].
5 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج، فهي خداج))؛ رواه ابن ماجه وغيره[52].
قالوا: ووجه الدلالة من حديث أبي هريرة، وما في معناه من الأحاديث: أن الخداج هو الفساد والنقصان الذي لا تجزئ معه الصلاة؛ من قولهم: أخدجت الناقة: إذا ولدت نتاجًا فاسدًا قبل وقتها، وقبل تمام الخلق[53].
وقالوا: ومما يدل على أن المراد بالخداج النقصان الذي لا تصح الصلاة معه ولا تجزئ، وأن ذلك يشمل المنفرد والإمام والمأموم: قولُ أبي هريرة: "اقرأ بها في نفسك"[54].
6 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "في كل صلاة يقرأ، فما أسمَعَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمَعْناكم، وما أخفى عنا أخفَيْنا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير))؛ متفق عليه[55].
قالوا: فقوله: "وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت" يدل على أنه لا تجزئ الصلاة بدون أم القرآن، وأن قراءتها في الصلاة أقلُّ المجزئ، وأن الزيادة عليها خير؛ أي: مستحبة وليست واجبة.
7 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زادَ"؛ رواه أبو داود(2).
8 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر"(2).
9 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن"؛ رواه ابن خزيمة وابن حبان[56].
قالوا: فهذه الأحاديث الثلاثة كحديث أبي هريرة الذي قبلها، تدل على وجوب قراءة الفاتحة، وأنه لا تصح الصلاة بل ولا تجزئ بدونها، سواء كان المصلي إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا.
يتبع