كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
ما يؤخذ من سورة الفاتحة من فوائد وأحكام (3)
48 - أن طريق الحق واحد؛ ولهذا ذُكر بالإفراد، وعُرِّف في الموضعين: الأول بأل، والثاني بالإضافة؛ قال تعالى: ï´؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ï´¾ [الفاتحة: 6، 7]؛ أي الطريق المعهود المعروف.
بخلاف طرق الباطل، فهي كثيرة متشعبة؛ ولهذا ذكرها بالجمع، بينما أفرد طريق الحق في قوله تعالى: ï´؟ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ï´¾ [الأنعام: 153].
قال ابن القيم[1]: "وذكر الصراط المستقيم مفردًا معرَّفًا تعريفين: تعريفًا باللام، وتعريفًا بالإضافة، وذلك يفيد تَعَيُّنَه واختصاصه، وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال، فإنه سبحانه يجمعها ويفردها؛ كقوله: ï´؟ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ï´¾ [الأنعام: 153] ".
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، وقال: ((هذه سبيل الله))، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره، وقال: ((هذه سبل، على كل سبيل شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: ï´؟ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ï´¾ [الأنعام: 153]))[2].
49 - أن الصراط تارة يضاف إلى سالكيه، كما في قوله تعالى: ï´؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ï´¾ [الفاتحة: 7]، وتارة يضاف إلى الله تعالى الذي نصَبَه وشرعه ووضعه لعباده، كما في قوله تعالى: ï´؟ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ï´¾ [الشورى: 53]، وقوله تعالى: ï´؟ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ï´¾ [الأنعام: 126]، وقوله تعالى: ï´؟ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ï´¾ [الأنعام: 153].
50 - وجوب الاعتراف بالنعمة لمُولِيها ومُسْديها؛ لقوله تعالى: ï´؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ï´¾، فالمنعِم الحقُّ بجميع النعم هو الله جل وعلا، كما قال تعالى: ï´؟ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ï´¾ [النحل: 53]، وقال تعالى: ï´؟ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ï´¾ [إبراهيم: 34، والنحل: 18].
51 - في إثبات حمده بصفات الكمال، وإثبات ربوبيته وملكه، وكونه مستعانًا به، مسؤولًا أن يهديَ عباده الصراط المستقيم، وكونه منعمًا - في ذلك كلِّه دلالةٌ على أنه تعالى فاعل مختار بقدرته ومشيئته، وردٌّ على القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا[3].
52 - استدل الشنقيطي[4] بقوله تعالى: ï´؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾ [الفاتحة: 6، 7] على صحة إمامة أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه قال: "لأنه داخل في الذين أمَرَنا الله في هذه السورة بأن نسأل أن يهديَنا صراطَهم. قال: فدلَّ على أن صراطهم هو الصراط المستقيم، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصِّدِّيقين، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم؛ لقوله تعالى: ï´؟ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ï´¾ [النساء: 69]. قال: فهو رضي الله عنه على الصراط المستقيم، وإمامتُه حق".
53 - إثبات كمال الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم؛ لقوله تعالى بعد أن ذكر هذا الصراط: ï´؟ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾ [الفاتحة: 7]؛ أي غير صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين.
لأن الصفات السلبية يؤتى بها لإثبات كمال ضدِّها؛ كقوله تعالى: ï´؟ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ï´¾ [البقرة: 255] لإثبات كمال قيوميته، وكقوله: ï´؟ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ï´¾ [الفرقان: 58]، ونحو ذلك.
54 - ينبغي للعبد بعد أن يسأل الله تعالى أن يهديَه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم فحققوا التوحيد: أن يسأله أيضًا أن يَجْنُبَه صراطَ المغضوب عليهم ممن عرَفوا الحق ولم يعملوا به، من اليهود وغيرهم، وصراط الضالين، الذين عبدوا الله على جهل وضلال، من النصارى وغيرهم؛ لقوله تعالى: ï´؟ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾ [الفاتحة: 7]، وهذا هو أفضل دعاء دعا به العبدُ ربَّه وأَوجَبُه وأنفَعُه[5].
55 - إثبات صفة الغضب لله - كما يليق بجلاله وعظمته، وهي من الصفات الفعلية المتعلِّقة بالمشيئة، لكن لا يُشتَقُّ منها اسمٌ على الإطلاق؛ فلا يقال: الغضبان، أو الغاضب، قال تعالى: ï´؟ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ï´¾، وقال تعالى: ï´؟ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ï´¾ [الفتح: 6]، وقال تعالى: ï´؟ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ï´¾ [النساء: 93].
56 - ينبغي للعبد أن يسلك من الطرق أحسنها وأصلحها وأقومها، وأن يختار لنفسه القدوة الحسنة، والأسوة الصالحة، بسلوك طريق النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يحذر من طرق الكفر والبغي والضلال، التي هي مسالك اليهود والنصارى وغيرهم.
57 - أن من أخص صفات اليهود الغضب؛ لأنهم عرَفوا الحق وتركوه، كما قال تعالى: ï´؟ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ï´¾ [المائدة: 60].
وأن من أخص أوصاف النصارى الضلال؛ لأنهم عبدوا الله على جهل وضلال، كما قال تعالى: ï´؟ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ï´¾ [المائدة: 77].
ولهذا وصف الله في سورة الفاتحة كلًّا من اليهود والنصارى بأخص أوصافهم، فقال: ï´؟ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ï´¾ يعني اليهود، ï´؟ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾ يعني النصارى، وإلا فكلٌّ من الطائفتين مغضوب عليه وضالٌّ.
58 - أن كل من سلك مسلك أحد الطائفتين شَمِلَه وصفُ تلك الطائفة، كما قال سفيان بن عيينة: "من فسد من علمائنا ففيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فسد من عُبَّادِنا ففيه شبه من النصارى"، وفي الحديث: ((مَن تَشبَّهَ بقوم فهو منهم))[6].
فيجب الحذر من التشبُّهِ بهم؛ إذ ليس بين الله وبين أحد من الخلق نَسَبٌ، بل إن الآية توجب سؤال الله السلامة من جميع مسالك الكفر والضلال، والحذر من ذلك.
59 - دل قوله تعالى: ï´؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ï´¾ [الفاتحة: 6] وما بعده على أن الناس ينقسمون بحسب معرفة الحق والعمل به إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ أنعَمَ الله عليهم بمعرفة الحق والعمل به، وقسمان مخذولان، أحدهما: من عرَفوا الحق وتركوه كفرًا وعنادًا، وهم اليهود ومن سلك مسلكهم؛ ولهذا استحقوا غضب الله تعالى. والقسم الثاني: من ضلُّوا عن الحق وجهلوه، مِن النصارى ومن سلك مسلكهم؛ ولهذا وصفهم الله بالضلال.
60 - في إسناد النعمة إلى الله تعالى، وإضافتها إليه في قوله: ï´؟ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ï´¾ إشارة إلى تفرُّدِه بالإنعام، وتكريم المُنْعَم عليه. وفي حذف فاعل الغضب في قوله: ï´؟ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ï´¾ إشارة إلى أن الغضب عليهم لا يختص به تعالى، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله يغضبون لغضبه، كما أن في ذلك إشعارًا بإهانة المغضوب عليهم وتحقيرهم.
كما أن في إسناد النعمة إلى الله تعالى، وحذف فاعل الغضب وإسناد الضلال إلى من قام به في قوله: ï´؟ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾: تعليمًا لحسن الأدب مع الله بإسناد الخير والنعم إليه، وحذف الفاعل فيما يقابل ذلك أو إسناده إلى من قام به، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((والخير كله بيديك، والشر ليس إليك))[7].
أي إن الشر في مفعولات الله، لا في فعله، فإن فعله كلَّه خير وحكمة، وكما قال إبراهيم الخليل عليه السلام، فيما حكى الله عنه: ï´؟ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ï´¾ [الشعراء: 79، 80][8].
61 - بلوغ القرآن غاية الإيجاز مع الفصاحة والبيان؛ فإن الله وصف كلًّا من الطوائف الثلاث بوصف يستلزم الجزاء وسببه بأوجز لفظ في قوله تعالى: ï´؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾ [الفاتحة: 7].
قال ابن القيم[9]: "وتأمل سرًّا بديعًا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاث بأوجز لفظ وأخصره؛ فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح، وهي الهدى ودين الحق، ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء، فهذا تمام النعمة، ولفظ ï´؟ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ï´¾ يتضمن الأمرين.
وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضًا أمرين: الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان، والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه، فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال، فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم، وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم، وعقابه لهم، فإن من ضلَّ استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله وغضب الله عليه".
62 - الترغيب في سلوك سبيل المنعم عليهم والمؤمنين، والترهيب من سلوك طريق المغضوب عليهم والضالين؛ يؤخذ هذا من المقابلة بين الهداية والنعمة والغضب والضلال.
63 - دلَّت السورة على إثبات النبوات، ووجوب الإيمان بالكتب والرسل، والرد على منكِري النبوات، وذلك في مواضع كثيرة، منها ما يلي:
أولًا: من قوله تعالى: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ ï´¾ [الفاتحة: 2]؛ إذ لا سبيل إلى معرفة حمده، ووصفه بصفاته إلا عن طريق كتبه ورسله، كما أن في إثبات حمده التام ووصفه بصفات الكمال ما يقتضي كمال حكمته، وأن لا يخلق الخلق عبثًا، ولا يتركهم سدىً، لا يُؤمَرون ولا يُنهَوْن؛ ولهذا نزَّه تعالى نفسه عن هذا في مواضع من كتابه، وبيَّن أن من أنكر الرسالة والنبوة فإنه ما قَدَرَهُ حقَّ قدره، قال تعالى: ï´؟ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ï´¾ [الأنعام: 91]، وقال تعالى: ï´؟ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ï´¾ [الرعد: 19][10].
قال ابن القيم[11]: "فمن أعطى الحمد حقه علمًا ومعرفة وبصيرة، استنبط منه: أشهد أن محمدًا رسول الله، كما يستنبط منه أشهد أن لا إله إلا الله، وعلم قطعًا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد كتعطيل الصفات، وكإثبات الشركاء والأنداد".
يتبع