تصورات مغلوطة وسبل علاجها (7/7)
د. مشعل عبدالعزيز الفلاحي
في الحلقة السادسة من هذه التصورات، قلنا: إن دور المعلم أكبر من معرفةٍ يجهد في إيصالها إلى طالبه، وأكبرُ من حصة دراسية يستنفد فيها جهدَه للخلاص من مقرر معرفي لا علاقة له بالواقع التربوي، وأكدنا هناك أنه لن يتحقق للمعلم البناءُ الذي يرجوه إلا إذا كانت حصته واضحةَ الهدف، مشبعةً بالقيم، ثريةً بالجوانب العملية، ولن تؤتي هذه ثمارَها على الوجه الأكمل حتى يكتمل دورُ المعلم خارج إطار الحصة، ويكون همُّه التربية في كل لحظة يعيشها داخل إطار تلك المدرسة التي يعمل فيها.
ونناقش في هذه المساحة السؤال السابع:
هل الإشارة للقيم التربوية والاجتماعية في زمن الحصة كافية لرسوخها؟
قد لا يختلف اثنان اليوم أن المخرجاتِ التي تدفعها المدرسةُ إلى المجتمع مخرجاتٌ ضعيفة في البناء المعرفي، والبناءِ القيمي، وهذا الضعف لم يعد تكهنًا لفرد من الناس؛ وإنما أضحى صورةً واقعية يلمسها كلُّ من يشاهد هذه المخرجات، وأرجو أن أكون محقًّا إذا قلت: إن تركيزنا على المعرفة المجردة، وجلبتنا عليها بهذه القوة - هو الجزءُ الأكبر المتسبب في هذه الفجوة بين طلابنا والقيم الكبرى في شخصياتهم.
إن المعلم يجهد في إيصال هذه المعرفة،وينسى في كثير من الأحيان قيمَه وأهدافه كمُرَبٍّ يسعى لتحقيق الإنسان الصالح على ظهر الأرض.
إن العناية بالقيم التربوية والاجتماعية في زمن الحصة لم تجد اهتمامًا كبيرًا بعدُ، وهذا جزء من مشكلتنا الكبرى في منظومة التربية والتعليم، وقد استشعر المعنيون هذه الخطورةَ، فعمدوا إلى تغيير مسمى (وزارة التعليم) إلى مسمى (وزارة التربية والتعليم)، محاولين بذلك لفْتَ أذهان المعنيين إلى رسالتهم الكبرى في الميدان التربوي، وما زلنا - مع كل أسف - نسبح في فضاء المسمى الأول دون تحفُّظ، وكأن للزمن الطويل أثرًا في تكوين ثقافاتنا!
إن مهمة المعلم الأولى والأخيرة، والسابقة واللاحقة، والرأس منها والجذر - هي بناء القيم فحسب؛ وبرهان ذلك عندي أن هذه الجهود الكبيرة في الجلبة على المعرفة لم يقنع طلابُنا بعد بأهميتها على أرض الواقع، وأقسم بالله يمينًا لا أستثني في ذلك، أنه لو كان لطلابنا بعض القيم التي ننشدها في حياتهم، لاحتفوا بالمعرفة احتفاءهم بالأعياد الكبرى في حياتهم.
إنه لمن المستحيل أن تقنع طالبك بالمعرفة وهو لا يعرف قيمة العلم في حياته كفرد، أو قيمته في حياة أمته، إن العلم إذا لم تكن له نتائجُ وآثارٌ يجدها طالبه في حياته، فهو حروف مقطعة على شكل طلاسم سحرية، تجلب الهمَّ والألم والقلق، أكثر من تحقيقها لمعانٍ سامية، وآثارٍ باقية.
إنني أتساءل: ما قيمة كتاب الفقه كله إذا لم نتعلم منه كيف نؤدي عباداتنا على وجهها الصحيح؟! وما قيمة كتاب التوحيد إذا لم يفلح في تصحيح عقيدتنا؟! وما قيمة كتاب القواعد إذا لم يمكنَّا من النطق السليم؟! وما قيمة كتاب الرياضيات إذا لم يعلمنا كيف ندير حساباتنا الشخصية بمهارة على الأقل في مرحلة كهذه التي يعيشها الطالب؟!
وأتساءل ثانية: ما قيمة العلم في حياة طالبٍ يكتب على هوامش المصحف بعض كلمات الحب لمعشوقته؟! ويسطر في بعض الهوامش بعض أسماء القنوات الفضائية؟! ما قيمة العلم في شخصية طالب يرى المدرسة سجنًا مؤقتًا لحريته؟! ومنزلاً بغيضًا في حياته؟! ما قيمة العلم في شخصية طالب لا يملك أن يقول كلمتين أمام أستاذه؟! ما قيمة العلم إذا لم يتعلم طالبه كيف يحتفي بوالديه؟! وكيف يقدِّر معلِّمَه؟! وكيف يصل جيرانه؟! وكيف يكون إيجابيًّا في حياته؟!
يكفيني جراحًا وأنا أبحث عن القيم في شخصيات طلابنا منظرُ تلك الكتب التي أُنفق عليها ملايين الريالات وهي ركام في الشوارع، وأوراق متطايرة في الطرقات، وموقد لنيران التنُّور في بيت!
إن القيم إذا لم تكن جزءًا من شخصية المعلم أولاً، وهي همُّه وروحه وقلبه ثانيًا، فلا تنتظر الأمةُ غيرَ هذه المظاهر الخطيرة التي تتفشَّى بشكل ملحوظ في المجتمع، وتنذر بخطر يداهم الأسر والمجتمعات، والوطن والأمة في وقت قريب.
وأخيرًا:
إن الكلمة أمانة، وإنني مسؤول عما أقول بين يدي الله - تعالى - يوم القيامة: إنه إذا لم يُعِدِ المعلمُ ترتيبَ أولوياته من جديد، ويضع على رأس هذه الأولويات القيمَ والمُثُل الكبرى، وإلا فبقاء الطالب في بيته أولى وأفضلُ من ضياع وقته في جنبات المدرسة.