
05-06-2021, 09:23 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة :
|
|
رد: عوامل نجاح الفتوحات الإسلامية ( بحث مختصر)
عوامل نجاح الفتوحات الإسلامية ( بحث مختصر)
فقال ملك الفرس يزدجرد: "إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، فقد كنا نوكل لكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم، ولا تطمعون أن تقوموا لفارس. فإن كان غرور لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم".
فقام المغيرة بن زرارة، فقال: "أما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد"، وذكر من سوء عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي? مثل مقالة النعمان.. ثم قال: "اختر إما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، أو السيف، وإلا فنج نفسك بالإسلام".
فقال يزدجرد: "لولا أن الرسل لا ت*** ل***تكم، لا شيء لكم عندي".. ثم استدعى بوِقرٍ من تراب، وقال لقومه: "احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن".
وقال الملك: "من أشرفكم؟"، فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو: "أنا أشرفهم أنا سيد هؤلاء فحمّلنيه".
قال: "أكذلك؟"، قالوا:" نعم". فحمله على عنقه فخرج به من الإيوان حتى أتى راحلته فحمله عليها. فقال له أصحابه: "حملت تراباً؟"، قال: "نعم الفأل قد أمكنكم الله من أرضهم".
فلم يزل معه حتى قدم به على سعد فاخبره الخبر، فقال سعد: "أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم".
واشتد على جلساء الملك ما صنع وما صنع المسلمون من قبول التراب، وقدم رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم وكيف رآهم. فقال الملك: "ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا علي، والله ما أنتم بأعقل منهم ولا أحسن جواباً". واخبره بكلام متكلمهم، وقال: "لقد صدقني القوم لقد وُعدوا أمراً ليدركنه أو ليموتن عليه، على أني وجدت أفضلهم أحمقهم لما ذكروا الجزية أعطيته تراباً يحمله على رأسه فخرج به، ولو شاء اتقى بغيره وأنا لا أعلم".
قال رستم: "أيها الملك أخذَ الترابَ أعقلُهم، وما أخذه إلا تطيراً، وأبصرها دون أصحابه".
وخرج رستم من عنده كئيباً غضبان، فبعث في أثر الوفد، وقال: "إن أدركتموهم تلافينا أرضنا، وإن أعجزوكم سلبكم الله أرضكم"، فرجع إليه فأعلمه بفواتهم. فقال: "ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك..".
وأغار سواد بن مالك التميمي - بعد مسير الوفد إلى يزدجرد - على النجاف والفراض، فاستقا ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور وأوقرها سمكاً، وصبح العسكر، فقسمه سعد بين الناس، وهذا يوم الحيتان، وكانت السرايا تسري لطلب اللحوم، فإن الطعام كان كثيراً عندهم، فكانوا يسمون الأيام بها: يوم الأباقر ويوم الحيتان. وبعث سعد سرية أخرى فأغاروا فأصابوا إبلاً لبني تغلب والنمر واستاقوها ومن فيها، فنحر سعد الإبل وقسمها في الناس فأخصبوا. وأغار عمرو بن الحارث على النهرين فاستاق مواشي كثيرة.
تحرك الفرس
ثم إن رستم خرج بجيشه الهائل - مائة ألف أو يزيدون - من ساباط، فلما مر على كوش (قرية بين المدائن وبابل) لقيه رجل من العرب فقال له رستم: "ما جاء بكم، وماذا تطلبون منا؟"، قال: "جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا"، قال رستم: "قد وضعنا إذا في أيديكم"، قال العربي: "أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجادل الإنس وإنما تجادل القدر".
فغضب منه رستم و***ه. فلما مرّ بجيشه على البرس (قرية بين الكوفة والحلة) غصبوا أبناء أهله وأموالهم، وشربوا الخمور، ووقعوا على النساء، فشكى أهل البرس إلى رستم، فقال لقومه: "والله لقد صدق العربي، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم أحسن سيرة منكم".
ولما علم سعد خبر رستم أرسل عمرو بن معد يكرب الزبيدي وطليحة بن خوليد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجال، فلم يسيروا إلا قليلاً حتى رأوا سرح العدو منتشراً على الطفوف، فرجعوا إلا طليحة، فإنه ظل سائراً حتى دخل جيش العدو وعلم ما فيه، فرجع إلى سعد وأخبره خبره.
وسار رستم بجيشه من الحيرة حتى نزل القادسية على العتيق - جسر القادسية - أمام عسكر المسلمين، يحول بينهم النهر، ومع الفرس ثلاثة وثلاثون فيلاً، ولما نزل أرسل إلى سعد: "أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه".
فأرسل إليه ربعيَّ بن عامر فجاءه وقد جلس على سرير من ذهب، وبُسُط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب، فأقبل ربعيُّ على فرسه، وسيفه في خِرْقة، ورمحه مشدود بعِصَب، فلما انتهى إلى البساط وطأه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما، وجعل الحبل فيهما، ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، فأشاروا عليه بوضع سلاحه؛ فقال: "إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني فإن أحببتم أن آتيكم كما أريد وإلا رجعت"، فأخبروا رستم، فقال: "ائذنوا له، هل هو إلا رجل".
ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويُقارب خطوه حتى أفسد ما مرّ عليه من البُسط، ثم دنا من رستم، وجلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، وقال: "إنّا لا نقعد على زينتكم". فقال له رستم: "ما جاء بكم؟"، قال: "الله جاء بنا، وهو بَعَثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومنْ ضيق الدُّنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأدْيَان إلى عدل الإسلام، فأرسل لنا رسوله بدينه إلى خَلْقِهِ، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نُفضي إلى الجنة، أو الظَّفر".
فقال رستم: "قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟"، فقال: "نعم، وإنَّ مما سَنَّ لنا رسول الله ألاّ نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة في اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا، وأنا كفيل عن أصحابي".
فقال رستم: "أسيِّدهم أنت؟"، قال: "لا ولكنّ المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض، يُجِيزُ أدناهم أعلاهم".
ثم انصرف، فخلا رستم بأصحابه، وقال: "رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟"، فأروه الاستخفاف بشأنه، فقال رستم: "ويلكم وإنما أنظر إلى الرأي والكلام والسيرة، والعربُ تستخف اللباس وتصون الأحساب".
فلما كان اليوم الثاني من نزوله، أرسل إلى سعد: "أن ابعث إلينا هذا الرجل". فأرسل إليه حذيفة بن مِحْصَن الغلفاني، فلم يختلف عن ربعي في العمل والإجابة، ولا غرابة، فهما مستقيان من إناء واحد، وهو دين الإسلام.
فقال له رستم: "ما قَعَد بالأول عنا؟"، قال: "أميرُنا يَعْدل بيننا في الشدة والرّخاء، وهذه نوبتي". فقال رستم: "والمواعدة إلى متى؟"، قال: "إلى ثلاث، من أمس".
وفي اليوم الثالث أرسل إلى سعد: "أن ابعث إلينا رجلاً". فأرسل إليه المغيرة بن شعبة فتوجه إليه، ولما كان بحضرته جلس معه على سريره، فأقبلت إليه الأعوان يجذبونه، فقال لهم: "قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني: أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السِّيرة ولا على هذه العقول".
فقالت السوقة: "صدق والله العربي"، وقالت الدَّهاقين (زعماء الفلاحين): "لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه، قاتل الله سابقينا حيث كانوا يُصَغِّرون أمر هذه الأمة".
ثمّ تكلم رستم بكلام صَغَّر فيه شأن العرب، وضخَّم أمر الفرس، وذكر ما كانوا عليه من سوء الحال وضيق العيش.
فقال المغيرة: "أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف، فنعرفه ولا ننكره، والدنيا دُول، والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شُكركم قليلاً على ما أوتيتم، وقد أسلمكم ضعف الشُّكر إلى تغير الحال، وإن الله بعث فينا رسولاً"، ثم ذكر مثل ما تقدم، وختم كلامه بالتخيير بين الإسلام أو الجزية أو المنابذة.
فرد رستم: "ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب فليس بيننا وبينكم صلح ولنفقأن عينك غداً"، فقال المغيرة: "وأنت ست*** غداً إن شاء الله".
ثم خلا رستم بأهل فارس وقال: "أين هؤلاء منكم؟ ألم يأتكم الأوَّلان فجسراكم واستخرجاكم، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا، وسلكوا طريقاً واحداً، ولزموا أمراً واحداً، هؤلاء والله الرجال - صادقين كانوا أم كاذبين - والله لئن بلغ من أدبهم وصونهم لسرّهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم، لئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شيء"، فَلَجُّوا وتجلدوا، فقال: "والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم وإن هذا منكم رياء"، فازدادوا الجاجا.
عند المواجهة
خطب سعد بن أبي وقاص في الناس وتلا قول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]. وأمر القرّاء أن يشرعوا في سورة الأنفال، فقرئت ولما أتموا قراءتها هشت قلوب الناس وعيونهم، ونزلت السكينة وصلى الناس الظهر. وأمر سعد جيشه أن يزحفوا بعد التكبيرة الرابعة، وأن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، واستمرت المعركة أربعة أيام.
وقد كان سعد - رضي الله عنه - مريضاً بعرق النَسا، وبه دمامل لا يستطيع الركوب ولا الجلوس فكان مكبِّا على صدره وتحته وسادة ويشرف على الميدان من قصر قُدَيْس الذي كان في القادسية وقد أناب عنه في تبليغ أوامره خالد بن عرفطة، وقد أمر بأن ينادي في الجيش: "ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله، أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد".
وقبل بدء القتال حصل اختلاف على خالد بن عرفطة نائب سعد فقال سعد: "احملوني وأشرفوا بي على الناس"، فارتقوا به، فأكبّ مطَّلعاً عليهم والصف في أسفل حائط قصر قُدَيْس يأمر خالداً فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب عليه بعض وجوه الناس فهمَّ بهم سعد وشتمهم، وقال: "أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم"، فحبسهم، ومنهم أبو محجن الثقفي وقيدهم في القصر. وقال جرير بن عبد الله - مؤيداً طاعة الأمير -: "أما أني بايعت رسول الله على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبداً حبشياً". وقال سعد: "والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننتُ فيه سنة يؤخذ بها من بعدي".
وقد قام فيهم سعد بن أبي وقاص بعد هذه الحادثة خطيباً، فقال بعد أن حمد لله وأثنى عليه: "إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلف، قال الله جل ثناؤه وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]، إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج فأنتم تطعمون منها وتأكلون، وت***ون أهلها وتجبرنهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة، عِزَّ من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرِّب ذلك أحداً إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم تُوبقوا آخرتكم".
لما نزل رستم النجف بعث منها عيناً إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ندَّ منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون، فيفترقون إلى موقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟، فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحداً منهم يأكل شيئاً إلا أن يمصوا عيداناً لهم حين يُمسون وحين ينامون وقبيل أن يصبحوا.
رفع الروح المعنوية بين أفراد الجيش الإسلامي
جمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجهاء المسلمين وقادته في بداية اليوم الأول من المعركة وقال لهم: انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق لهم عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم، وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتُهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال، فساروا فيهم.
- فقال قيس بن هبيرة الأسدي: "أيها الناس احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم له يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه في عاداته، فإن الجنة أو الغنيمة أمامكم، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء، والأرض القفر، والظِّراب الخُشْن والفلوات التي لا تقطعها الأدلة".
- وقال غالب بن عبد الله الليثي: "أيها الناس احمدوا الله على ما أبلاكم وسلوه يزدكم، وادعوه يحيكم، يا معشر معدّ، ما علّتكم اليوم وأنتم في حصونكم (يعني الخيل) ومعكم من لا يعصيكم (يعني السيوف)؟. اذكروا حديث الناس في غد، فإنه بكم غداً يبدأ عنده، وبمن بعدكم يُثنَّى".
- وقال ابن الهذيل الأسدي: "يا معشر معدّ، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كالأسود الأجم، وتربَّدوا لهم تربُّد النمور وادرعوا العجاج، وثقوا بالله، وغضوا الأبصار، فإذا كلَّت السيوف فإنها مأمورة فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه".
- وقال بسر بن أبي رهم الجهني: "احمدوا الله وصدقوا قولكم بفعل، فقد حمدتم الله على ما هداكم له، ووحدتموه ولا إله غيره، وكبرتموه، وآمنتم بنبيه ورسله، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا يكوننَّ شيء بأهون عليكم من الدنيا، فإنها تأتي من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم لتميل بكم انصروا الله ينصركم".
- وقال عاصم بن عمرو: "يا معشر العرب إنكم أعيان العرب وقد صمدتم لأعيان من العجم، وإنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا اليوم أمراً تكونون شيئاً على العرب غداً".
- وقال ربيع بن البلاد السعدي: "يا معشر العرب قاتلوا للدين والدنيا، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]. وإن عظم الشيطان عليكم الأمر فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل".
- وقال ربعي بن عامر: "إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم الزيادة، وفي الصبر راحة، فعوِّدوا أنفسكم الصبر تعتادوه، ولا تعوّدوها الجزع فتعتادوه، وقد قال كلهم بنحو هذا الكلام، وتواثق الناس وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما كان ينبغي لهم".
خطة القعقاع بن عمرو
أسرع القعقاع بمقدمه حتى قدم بهم على جيش القادسية صبيحة يوم أغواث (ثاني أيام المعركة)، وكان أثناء قدومه قد فكر بعمل يرفع به من معنوية المسلمين، فقسم جيشه إلى مائة قسم كل قسم مكوَّن من عشرة، وأمرهم بأن يقدموا اتباعاً كلما غاب منهم عشرة عن مدى إدراك البصر سرّحوا خلفهم عشرة. فقدم هو في العشرة الأوائل، وصاروا يقدمون تباعاً كلما سرّح القعقاع بصره في الأفق فأبصر طائفة منهم كبَّر فكبر المسلمون، ونشطوا في قتال أعدائهم، وهذه خطة حربية ناجحة لرفع معنوية المقاتلين، فإن وصول ألف لا يعني مدداً كبيراً لجيش يبلغ ثلاثين ألفاً، ولكن هذا الابتكار الذي هدى الله القعقاع إليه قد عوض نقص هذا المدد بما قوّى به عزيمة المسلمين، وقد بشرهم بقدوم الجنود بقوله: "يا أيها الناس إني قد جئتكم في قوم والله أن لو كانوا بمكانكم ثم أحسوكم حسدوكم حَظْوتها وحاولوا أن يطيروا بها دونكم، فاصنعوا كما أصنع". فتقدم ثم نادى: من يبارز؟، فقالوا فيه بقول أبي بكر: "لا يهزم جيش فيهم مثل هذا"، وسكنوا إليه، فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع: من أنت؟، فقال: أنا بهمن جاذويه. وهنا تذكّر القعقاع مصيبة المسلمين الكبرى يوم الجسر على يد هذا القائد فأخذته حميته الإسلامية فنادى وقال: يا لثارات أبي عبيد وسُليط وأصحاب الجسر، ولابد أن هذا القائد الفارسي بالرغم مما اشتهر به من الشجاعة قد انخلع قلبه من هذا النداء، فلقد قال أبو بكر - رضي الله عنه - عن القعقاع: "لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل". وما لبث القعقاع أن أوقعه أمام جنده قتيلاً فكان ل***ه بهذه الصورة أثر كبير في زعزعة الفرس ورفع معنوية المسلمين؛ لأنه كان قائداً لعشرين ألف مقاتل من الفرس.
ثم نادى القعقاع مرة أخرى من يبارز؟، فخرج إليه رجلان أحدهم البيرزان والآخر البندوان، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان ابن الحارث أخو بني تميم اللات، فبارز القعقاع بيرزان، ف***ه القعقاع وبارز ابن ظبيان بندوان وهو من أبطال الفرس ف***ه ابن ظبيان وهكذا قضى القعقاع في أول النهار على قائدين من قادة الفرس الخمسة ولاشك أن ذلك أوقع الفرس في الحيرة والاضطراب وساهم ذلك في تدمير معنويات أفراد الجيش الفارسي. والتحم الفرسان من الفريقين، وجعل القعقاع يقول: "يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنه يُحصد بها، فتواصى الناس بها، وأسرعوا إليهم بذلك فاجتلدوا بها حتى المساء"، وذكر الرواة أن القعقاع حمل يومئذ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها وجعل يقول:
أُزعجهم عمداً بها إزعاجا
أطعن طعناً صائباً ثجّاجــا
وكان آخر من قُتل بُزرُ جَمهَرْ الهمذاني وقال في ذلك القعقاع:
حبوتـــه جيَّاشــــــةً بالنفــس
في يوم أغواث فَلَيْلُ الفـــرس
هدّارة مثل شعـــاع الشمــس
أنخس في القوم أشد النخس
وللنساء دورهن
- الخنساء بنت عمرو تحرض بنيها على القتال
في مضارب نساء المسلمين بالعذيب جلست الخنساء بنت عمرو شاعرة بني سليم المخضرمة ومعها بنوها أربعة رجال تعظهم وتحرضهم على القتال قالت: "إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]. فإن أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وحللت نار على أرواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها؛ تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة". فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قولها، فلما أضاء الصبح باكروا مراكزهم.
وكان لأبناء الخنساء الأربعة مواقف فدائية في ذلك اليوم؛ فقد اندفعوا إلى القتال بحماس وقال كل واحد منهم شعراً حماسياً يقوِّي به نفسه وإخوانه فقال أولهم:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة
مقالــــةً ذات بيـــان واضحـــة
فبادروا الحرب الضروس زحفاً
أو يكشفوكم عن حماكم كشفاً
وال*** فيكم نجدة وزُلفى
وقاتل حتى استشهد، وحمل الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا للأخْرَمِ
إن لم أرِدْ في الجيش جيش الأعجم
إما لفوز عاجل ومغنم
ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
ماض على الهول خضمِّ خضرم
أو لوفاة في السبيل الأكرم
فقاتل حتى استشهد وبلغ الخنساء خبر بنيها الأربعة فقالت: "الحمد لله الذي شرّفني ب***هم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
- نخعية تشجع بنيها على القتال
كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القتال ذلك اليوم، فلما بدأ الصباح ينبلج قالت لهم: "إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثربوا،
ولم تَنْب بكم البلاد تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس، والله إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره".
فانصرفوا عنها مسرعين يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهي تقول: "اللهم ادفع عن بنيّ"، فرجعوا إليها بعد ذلك وقد أحسنوا القتال ما جرح منهم رجل جرحاً.
سلاح الشعر
ومما قيل من الشعر ذلك اليوم:
- قال القعقاع بن عمرو:
حضَّض قومي مَضْرَحيُّ بن يعمر
وما خام عنها يوم سارت جموعُنا
فإن كنتُ قاتلتُ العدوَّ فَلَلْته
فيولاً أراها كالبُيوت مُغيرة
فلله قومي حين هزُّوا العواليا
لأهل قُديس يمنعون المواليا
فإني لألقى في الحروب الدّواهيا
أُسَمِّلُ أعياناً لها ومآقيا
- وقال آخر:
أنا ابن حرب ومعي مخراقي
إذ كره الموت أبو إسحاق
أضربهم بصارم رقراق
وجاشت النفس على التراقي
- ومما قاله قيس بن المكشوح المرادي يتحدث عن فروسيته مفتخراً لما كان منه ومن المجاهدين الآخرين في مناهضة قادة الفرس فيقول:
جلبتُ الخيلَ من صَنعاءَ تَردِي
إلى وادي القُرى فديار كلب
وجئنا القادسية بعد شهر
فناهضنا هنالك جَمْعَ كسرى
فلمّا أن رأيت الخيل جالت
فاضربُ رأسه فهوى صريعا
وقد أبلى الإله هناك خيراً
- وقال بشر بن ربيع الخثعمي في القادسية:
تذَّكر هداك الله وقع سيوفنا
عشية ودَّ القوم لو أن بعضهم
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة
ترى القوم فيها واجمين كأنَّهم
بباب قُديس والمكرُّ عَسِيرُ
يعار جَنَاحَيْ طائر فيطيرُ
دلْفنا لأخرى كالجبال تسير
جمال بأجمال لهُنَّ زَفِيرُ
- ما قاله النابغة الجعدي وهو يصور بشعره ما دار بينه و بين امرأته، وقد جزعت بسبب ذهابه في فتوح فارس، فقال:
باتَتْ تذكرني بالله قاعدة
يا بنت عمّي كتاب الله أخرجني
فإن رجعت فربُّ الناس أرجعني
ما كنت أعرجَ أو أعمى فيعذرني
والدمع ينهل من شأْنَيْها سَبَلا
كرهاً، وهل أمنعنَّ الله ما بذلا
وإن لحقت بربي فابتغي بدَلا
أو ضارعاً من ضنىً لم يستطع حِوَلا
الصبر قبل الحسم
وفي ليلة الهرير (اليوم الرابع) غيّر الفرس طريقتهم في القتال، فقد أدرك رستم أن جيشه لا يصل إلى مستوى فرسان المسلمين في المطاردة ولا يقاربهم، فعزم على أن يكون القتال زحفاً بجميع الجيش حتى يتفادى الانتكاسات السابقة التي تسببت في تحطيم معنويات جيشه، فلم يخرج أحد من الفرس للمبارزة والمطاردة بعدما انبعث لذلك أبطال المسلمين، وجعل رستم جيشه ثلاثة عشر صفاً في القلب والمجنَّبتين وبدأ القعقاع بن عمرو القتال وتبعه أهل النجدة والشجاعة قبل أن يكبر سعد، فسمح لهم بذلك واستغفر لهم، فلما كبر ثلاثاً زحف القادة وسائر الجيش، وكانوا ثلاثة صفوف، صفاً فيه الرماة وصفاً فيه الفرسان وصفاً فيه المشاة، وكان القتال في تلك الليلة عنيفاً، وقد اجتلدوا من أول الليل حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسمّيت ليلة الهرير، وقد أوصى المسلمون بعضهم بعضاً على بذل الجهد في القتال لما يتوقعونه من *** الصراع، ومما رُوي من الأقوال في ذلك:
- دريد بن كعب النخعي قال لقومه: "إن المسلمين تهيئوا للمزاحفة فاسبقوا المسلمين الليلة إلى الله والجهاد فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم في الشهادة وطيبوا بالموت نفساً، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما أردتم".
- وقال الأشعث بن قيس: "يا معشر العرب إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت ولا أسخى أنفساً عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من ال*** فإنه أماني الكرام ومنايا الشهداء".
- حميضة ين النعمان البارقي وكان بإزاء قبيلة (جُعْفى) ليلة الهرير كتيبة من كتائب العجم عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل مع الحديد فارتدعوا، فقال لهم حميضة: "مالكم؟"، قالوا: "لا يجوز فيهم السلاح"، قال: "كما أنتم حتى أريكم، انظروا"، فحمل على رجل منهم فاستدار خلفه فدق ظهره بالرمح، ثم التفت إلى أصحابه فقال: "ما أراهم إلا يموتون دونكم"، فحملوا عليهم وأزالوهم إلى صفهم.
- وكان بإزاء قبيلة كندة، ترك الطبري (أحد قادة الفرس) فقال الأشعث بن قيس الكندي: ياقوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة فأزالهم و*** قائدهم، ترك وكان القتال في تلك الليلة شديداً متواصلاً.
- وقام زعماء القبائل يحثون قبائلهم على الثبات والصبر، ومما يبين *** القتال في تلك الليلة، ما أخرجه الطبري عن أنس بن الحليس قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغاً وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء حتى إذا كان نصف الليل الباقي سمع القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن ***نا معشراً وزائدا
نحسب فوق اللّبد الأساودا
أربعة وخمسة وواحدا
حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا
الله ربي واحترست عامدا
فاستدل سعد بذلك على الفتح، وهكذا بات سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدعو الله تعالى تلك الليلة ويستنزل نصره، ومما ينبغي الإشارة إليه أن سعداً كان مستجاب الدعوة.
نهاية المعركة
انتهت المعركة بتوفيق الله تعالى، ثم بجهود أبطال المسلمين وحكمة قائدهم سعد بن أبي وقاص، وكانت معركة عنيفة قاسية ثبت فيها الأعداء للمسلمين ثلاثة أيام حتى هزمهم الله في اليوم الرابع، بينما كان المسلمون يهزمون أعداءهم غالباً في يوم واحد، وكان من أسباب هذا الثبات أن الفرس كانوا يعتبرون هذه المعركة معركة مصير، فإما أن تبقى دولتهم مع الانتصار، وإما أن تزول دولتهم مع الهزيمة والاندحار ولا تقوم لهم قائمة، كما أن من أسباب ثباتهم وجود أكبر قادتهم رستم، على رأس القيادة، وهو قائد له تاريخ حافل بالانتصارات على أعدائه إضافة إلى تفوق الفرس في العدد والعُدد، حيث كان عدد الفرس عشرين ومائة ألف من المقاتلين من غير الأتباع، مع من كان يبعثهم يزدجرد مدداً كل يوم بينما كان عدد المسلمين بضعة وثلاثين ألفاً، ومع هذا كله انتصر المسلمون عليهم بعد أن قدموا ثمانية آلاف وخمسمائة من الشهداء، وهذا العدد من الشهداء هو أكبر عدد قدمه المسلمون في معاركهم في الفتوح الإسلامية الأولى، وكونهم قدموا هذا العدد من الشهداء دليل على *** المعركة وعلى استبسال المسلمين وتعرضهم للشهادة رضي الله عنهم أجمعين.
وكتب سعد إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما يخبره بالفتح مع سعد بن عُميْلة الفزاري وجاء في كتابه: "أما بعد فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كانوا قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعُدة لم ير الراؤون مثل زهائها فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا نعلمهم، والله بهم عالم، كانوا يُدَوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دَويَّ النحل، وهم آساد الناس لا يشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم".
خطبة الفاروق بعد فتح القادسية
لما أتى عمر رضي الله عنه خبر الفتح قام في الناس فقرأ عليهم الفتح، وقال: "إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك منا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم ولست معلمكم إلا بالعمل. إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عُرض عليَّ الأمانة، فإن أبيتها ورددتها عليكم واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتها إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلاً وحزنت طويلاً، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب".
يعف عند المغنم
وعندما بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر رضي الله عنه بقباء كسرى، وسيفه ومنطقته، وسراويله، وقميصه، وتاجه، وخفيه، نظر عمر في وجوه القوم فكان أجسمهم وأمدهم قامة سراقة بن جعثم المدلجي، فقال: يا "سراقة قم فالبس"، فقام فلبس وطمع فيه. فقال له عمر: "أدبر"، فأدبر، ثم قال: "أقبل"، فأقبل، ثم قال: "بخ بخ، أعرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى، وسراويله، وسيفه، ومنطقته، وتاجه، وخفاه، رب يوم يا سراقة بن مالك لو كان عليك فيه من متاع كسرى كان شرفاً لك ولقومك، انزع"، فنزع سراقة. فقال عمر: "اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ثم أعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي".
ثم بكى حتى رحمه من عنده. ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: "أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي".
وعن أبي بكر بن عياش قال: "جيء بتاج كسرى إلى عمر رضي الله عنه فقال: "إن قوماً أدوا هذا لأمناء"، فقال عليّ رضي الله عنه: إن القوم رأوك عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا".
وجاء في تاريخ الطبري أنه لما هبط المسلمون المدائن عاصمة الفرس وجمعوا الغنائم، أقبل رجل بحُقٍ معه، فدفعه إلى المسؤول عن حصر الغنائم. فقال الذين معه: "ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولايقاربه". فسألوه إن كان قد أخذ منه شيئاً، فقال: "أما والله لولا الله ما أتيتكم به". ورفض أن يفصح عن اسمه، حتى لا يُعرف فيُحمد؛ لأنه يريد حمد الله وثوابه، وليس حَمْد الناس. وأرسلوا وراءه رجلاً خِلْسةً ليعرفه، فعرفه من أصحابه، فإذا هو عامر بن عبد قيس رضي الله عنه.
وقد مهدت هذه المعركة العظيمة الطريق إلى فتح بلاد آسيا حتى وصلت الفتوحات مشارف الصين.
الخلاصة
كم كان هؤلاء القوم أعزة بدينهم وكم كانوا عظماء في دنياهم.. تميزوا بقوة التمسك بشرع الله وقوة الثقة بالنفس والترفع عن صغائر الأمور وسفاسفها، والشجاع والحنكة.
ويلاحظ من خلال قراءة قصة هذه المعركة مدى الحرص الشديد على ربط النصر بالاستقامة في الدين، ثم حسن التدبير في مواجهة العدو.
كذلك حسن اختيار الرسل والوفود عند مخاطبة العدو لتحقيق هدفين رئيسيين:
- إحقاق الحق وإبلاغ رسالة الإسلام في أفضل صوره وإقناع العدو به لعله يتذكر أو يخشى.
- إظهار مدى قوة المسلمين وعزتهم وفخرهم بدينهم واستعدادهم للموت في سبيله، وتغيير الصورة السلبية التي لصقت بالعرب في نظر الأمم الأخرى.
وهذا ما يحتاج إليه المسلمون في عصرنا هذا عبر الاقتداء بهؤلاء القوم عند التعامل مع الأمم غير المسلمة..
وبما أننا لسنا في زمن الفتوحات الإسلامية؛ فإننا بحاجة إلى فتوحات أخرى تناسب عصرنا لتصحيح أوضاع المسلمين وتمكننا من نشر ديننا، مع الاستفادة بما كان عليه الصحابة والمسلمون في العصور الإسلامية المجيدة.
منقول
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|