عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 02-06-2021, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي قضية الأدب الإسلامي

قضية الأدب الإسلامي


د. عبدالقدوس أبو صالح





قضيةُ الأدَب الإسلامي أصبحتْ من القضايا الأدبية المهمَّة، المطروحة في الساحة الأدبيَّة في عددٍ متزايد من أقطار العالَم العربي والإسلامي، بعدَ أن بدأ الأدبُ الإسلامي م- نذ عقدٍ يسيرٍ من السنين - يأخُذ نصيبه الوفيرَ مِن الحضور والانتشار، على الرغم مِن التعتيم الإعلامي الذي سُلِّط عليه وعلى مسيرته في بادِئ الأمْر.

وسوف أتناول في هذا البحثِ الأمورَ التالية:
1- وجود هذا الأدب في مختلف عصورِنا الأدبيَّة.
2- مفهوم هذا الأدَب وسِماته.
3- مسوغات الدَّعْوة إليه.

وجود الأدَب الإسلامي بيْن القديم والحديث:
الأدَب الإسلامي ليس بدعةً مستحدثة، ولا شيئًا طارئًا، بل هو حقيقة مشهودة منذُ انبلج فجرُ الإسلام، وقد استمرَّ عبرَ القرون وخلالَ العصور حتى يومِنا هذا.

والأدَب الإسلامي يملك مصدرًا لا يملكه أدبٌ آخر، وهو كتابُ الله - عزَّ وجلَّ - فقد شاء الله - سبحانه وتعالى - أن تكونَ معجزةُ الإسلام الكبرى معجزةً بيانية، ويقول الأستاذ محمد قطب[1]: "لم يجِد الإسلام تعبيرَه الفني الكامِل في غيرِ القرآن".

وهناك الحديثُ النبوي؛ فالرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أفصحُ العرَب، وأبلغ الناس، وأخْطَب الخُطباء، وقد أُوتي جوامعَ الكَلِم.

وإذا كان مجالُ المحاضرة يضيق عن تِبيان موقف الإسلام مِن الشِّعر، فلا بدَّ من أن نقرِّر أنَّ موقف الإسلام من الشِّعر لا يختلف عن موقفه مِن غير الشعر، فالإسلام يُحِلُّ للناس ما ينفعهم، ويحرِّم عليهم ما يضرُّهم؛ ï´؟ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ï´¾ [الأعراف: 157].

وما مِن شكٍّ في أنَّ إعجاز القرآن وصيغَه في طرائق التعبير الفنِّي يمثِّل دعوةً ضِمنيَّة للناس إلى أن يَتَّبعوا طرائقه في الدعوة إلى الإسلام، حتى يؤثروا في القلوب كما يؤثرون في العقول، وحتى يُؤدَّى الإسلامُ حيًّا مؤثرًا "لا نظرية ذهنية"، أو جدلاً كلاميًّا، وهذا يقوم وحْده دليلاً على أنَّ القرآن وقَف من الأدب موقفًا إيجابيًّا واضحًا.

ونجد في القرآن الكريم عِدَّة آيات تذكُر الشعر أو الشعراء، وقد تضمَّن أربع منها ما كانتْ تفزع إليه قريش في وصْف القرآن الذي بهرها وأعجزَها مِن أنه شِعر، وأنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - شاعر، وأمَّا الآية الخامسة فتذهَب إلى نفي الشِّعر عن الرسولِ الكريم، ثم تتوالَى في سورة الشعراء عدةُ آيات أُخَر، تستهدف الشعراءَ وتُقسِّمهم إلى صِنفين متمايزين.

وقد فَهِم بعضُ الناس مِن مجمل هذه الآيات كلها، ومِن تنزيه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الشِّعر أنَّها تبيِّن ضمنًا موقف الإسلام من الشعر، وأنَّه موقفٌ أقل ما فيه الغضُّ مِن شأن الشِّعر وتهجينُه ما دام الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد نُزِّه عنه.

وقد بيَّن ابنُ رشيق في "العمدة" وجهَ الخطأ في فَهم الآية التي تَنفي الشِّعر عن الرسولِ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - ï´؟ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ï´¾ [يس: 69]، وانتهى بعدَ البيان المفصَّل إلى أن قال[2]: "ولو أنَّ كونَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - غيرُ شاعِر غضَّ مِن الشِّعر، لكانتْ أميَّته غضًّا مِن الكتابة، وهذا أظهرُ مِن أن يخفَى على أحد".

كما بيَّن الأستاذ محمد قطب وجهَ الخطأ في فَهم الآيات التي جاءتْ في سورة الشعراء، فقال[3]: "إنَّ الآياتِ التي وجهت للشعراء العرَب في الجاهلية لم توجَّهْ ضدَّ الشعر في ذاته، ولا وُجِّهت ضدَّ الشعراء على إطلاقهم، وإنما ضدَّ نوْع معيَّن مِن الشعراء؛ ï´؟ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ï´¾ [الشعراء: 224 - 227].

صحيح أنَّ سِياق الآيات يومِئ بأنَّ الشعراء الملعونين هم الأصل، والمستثنين هم القِلَّة، ولكن ذلك مِن ناحية كان يصدُق على الشعراء الموجودين في الجزيرة العربية يومئذٍ - وقد يصدُق على كثيرٍ مِن الشعراء في كلِّ وقت - ولكنَّه من ناحية أخرى لا يلعن الشِّعرَ كشِعر، ولا يُطلق اللعنةَ على الشعراء عامَّة، وإنَّما يلعن سلوكًا نفسيًّا معينًا يتَّبعه أولئك الشعراء، فمَن خلص منه فلا تثريبَ عليه، والمطلوب هو الإيمان.

ولا على المؤمنين - حين يكونون شعراء - أن يقولوا الشِّعر في حدودِ تصورهم الإيماني ومفاهيمهم الإيمانية، وهم آمِنون مِن اللعنة، بل هم مُثابون على قولِهم بما ينال المؤمنون مِن الثواب".

وهذه أقوالُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومواقفه تُوضِّح موقفَ الإسلام مِن الشِّعر، ومِن ذلك استماعُه للشِّعر ومكافأته عليه، ومناشدةُ الأنصار أن يَذودوا عن الإسلامِ بألسنتهم كما ذادوا عنه بأسنَّتهم، وقولهُ لحسَّان - رضي الله عنه -: ((اهجُهم ورُوح القدس معك))، وإقامتُه لحسان منبرًا يقوم عليه منافحًا عنِ الإسلام والمسلمين، وقد قام الإمامُ الجمَّاعيلي بتأليف رِسالة سمَّاها: "رسالة أحاديث الشِّعر"، وقد نشَرها الأستاذ جميل سلطان بدمشق.

وقد ذهَب بعضُ النقَّاد المعاصرين[4] إلى أنَّ تهجين الإسلام للشِّعر والشعراء أدَّى إلى ضَعْف الشعر المخضرم، واستشهدوا لزعمهم بقولِ الأصمعي: شعر حسَّان في الجاهلية مِن أجود الشعر، فقطع ملكتَه في الإسلام لحالِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم".

ونحن نقرُّ بأنَّ الشعراء المخضرمين قلَّ إنتاجهم؛ لأنَّهم أُصيبوا أمام إعجاز القرآن بما يُمكن أن نسمِّيَه بالصدمة الفنيَّة، ولأنَّ القرآن - كما يقول الأستاذ محمَّد قطب[5]: "أغْناهم عن جمالِ الأداء بجمال التلقِّي والانفعال"، ولكن شِعر المخضرمين - وعلى رأسهم حسَّان بن ثابت - لم يضعُف، وإنما اختلط الأمْر على الأصمعي لما حُمِل على حسَّان ممَّا لم يُحْمل على غيره مِن الشعراء؛ كما يقول الأصمعي نفْسُه، ويقول ابن سلاَّم في "طبقات فحول الشعراء"[6]: "أشعرُهم - أي أشعر شعراء القُرى - حسَّان بن ثابت، وهو كثيرُ الشِّعر جيِّده، وقد حُمل عليه ما لم يحملْ على أحد، لما تعاضهت قريشٌ واستبَّت وضعوا عليه أشعارًا كثيرة لا تنقى".

والأصمعي بعد ذلك مِن اللُّغويِّين ورُواة الشعر القديم، ومقاييس النقْد عندَه تدور حول جزالة الألفاظ والتراكيب، وشِعر حسان وغيره مِن الشعراء المخضرمين رقَّت ألفاظهم وتراكيبهم بتأثيرِ القرآن، وفي مقابلِ ذلك أخذتْ أشعارهم قيمًا وأبعادًا جديدة، وسَمتِ الشعر الإسلامي في العصرين النبوي والراشدي بسِمات رفيعة؛ إذ ارتفع مضمونُ الشِّعر إلى مستوى فِكري وإنساني مستمدٍّ مِن الإسلام الذي حدَّد ارتباط الأدَب بالدِّين، كما ربَط الأدب بالأخلاق، وصار الشاعر المسلِم يعبِّر عن ضمير الجماعة المسلِمة، ولم يَعُدِ الشعر آلة فنية، بل صار شعرًا ملتزمًا، وأداة مِن أدوات الدعوة، وسلاحًا للجهاد في سبيلِ الله.

وهناك مِن النقَّاد مَن بالغ في الحديث عن الرِّدة الفنية لدَى الثالوث الأُموي جرير والفرزدق والأخطل، ولكن الدكتور شوقي ضيف أثبت في كتابه "التطور والتجديد في الشعر الأُموي" أنَّ هذه الردَّة لم تكن ردَّةً مطلقة لدى الثالوث الأموي، حتى كان الأخطل النصراني يُضمِّن مدائحَه للخلفاء معاني إسلامية تمثِّل المثل العليا في المجتمع الأموي.

وأُضيف إلى ذلك أنَّ تلك الردَّة وازنها شعرُ الفُتوح الذي انطلق على ألْسِنة عشرات الشُّعراء؛ ليكونَ على الرغم مما ضاع منه ملحمةً إسلاميةً رائعة، كما وازن تلك الردَّة من طرَف آخر شعر الفرْق الإسلاميَّة التي كانتْ في جدلها وخصوماتها تدور حوْل موضوعات إسلاميَّة معيَّنة، رغم اضطراب التصوُّر وانحرافه في مواقِف بعض هذه الفِرق.

وهناك مَن بالغ أيضًا في الحديث عن تيَّار المجون في الشِّعر العباسي، وعدَّه دليلاً على ضعْف الشِّعر الإسلامي أو انزوائه، وقد ردَّ النقَّادُ على هذه المبالغة بأنَّ الشعر العباسي كان في مجمله شعرًا إسلاميًّا، وأمَّا شِعر المجون فهو لا يخرُج عن شذوذ فَرْدي سقَط فيه بعضُ الشعراء الذين أُتيح لهم حظٌّ من الذيوع والشُّهرة.

وقد وازن تيارَ المجون تياراتٌ أخرى هي أقربُ إلى عقيدة الإيمان، وألْصَق بجمهور المسلمين، فهنالك شِعر الدِّفاع عن أهل السُّنة، ويمثِّله عليُّ بن الجَهْم والإمام الشافعيُّ وعبدُالله بن المبارك وغيرُهم كثيرون، وهناك تيَّار الزُّهد الذي يقِف فيه أبو العتاهية أُمَّةً وحده، وهو الذي لم يستطعْ معاصروه ولا غيرُ معاصريه أن يجمعوا شعرَه الغزير، ويقِف وراء أبي العتاهية جمٌّ غفير مِن شعراء الزهد، منهم محمود الورَّاق، ومحمد بن كناسة، ورابعة العدوية، وهناك تيَّار الحماسة الإسلامية الذي أسْهم فيه فحولُ الشعراء العباسيِّين، وعلى رأسهم أبو تمَّام والبُحتري، والمتنبي وأبو فراس الحمداني، والشريف الرَّضي وأسامة بن منقذ، وكثيرون غيرُهم.

وقد ظلَّتْ قصائد المديح في العصْر العبَّاسي الطويل تصوِّر المُثُل الإسلامية التي لم تنلْ مِن نَصاعتها أشعار المُجَّان والشعوبيِّين.

ومِن التعميم الظالِم على الشِّعر الأندلسي ما يَتناقله بعضُ الدَّارسين في كُتبهم من أنه عصرٌ ساد فيه المجون واللهو، وهم يستشهدون على ذلك بما قِيل من أنَّ ولاَّدة كتبته على طراز ثوبها، وهم مِن بعد ذلك لا يتساءلون: كيف استطاع المسلمون على حالِهم هذه أن يبقوا في الأندلس نحوًا مِن ثمانية قرون، يتربَّص بهم عدوٌّ صليبي حاقِد على ما بينهم مِن التناحُر المدمِّر؟!

وفي سبيلِ تصحيح ذلك التعميم الخاطئ أُلِّفت ثلاث رسائل جامعية عن الاتجاه الإسلامي في الشِّعر الأندلسي حتى سقوط غرناطة، ونُوقِشت هذه الرسائل في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالإضافةِ إلى رسائل أخرى تناولتْ شِعر الجهاد في الأندلُس.

وعندما آذنتْ شمس الحضارة الإسلامية بالمغيب، وذوَى فيها عطاءُ الفِكر والأدب وضعُفت نبعة الشِّعر في معانيه، وسيطرت الصنعةُ المتكلفة على مبانيه، ظلَّ هناك غرضٌ واحد تخفق فيه الحياة، وينجو مِن الهبوط والإسفاف، ذلك هو شِعر الحماسة الإسلاميَّة الذي ظلَّ في الحروب الصليبيَّة وما تبعها معبِّرًا عن أصالة الشِّعر الإسلامي في هذه الأمَّة.

ثم جاء العصر الحديث ليتألَّق الشِّعر الإسلامي ويزدِهر مِن جديد على يد البارودي، الذي دارت حماسياتُه على صورةِ المجاهد المسلِم، وتبعه أميرُ الشعراء أحمد شوقي في إسلامياته الخالِدة، وفي رثائه للخِلافة، وجاء بعدَه أحمد محرَّم بملحمته الإسلامية، وكان ذلك إيذانًا بطوفانِ الشِّعر الإسلامي متمثلاً في شِعر العودة إلى الإسلام، وفي الردِّ على هجمة المدرسة التغريبيَّة، وفي الشعر الاجتماعي في قضية السفور والحجاب، وفي شِعر المناسبات الإسلاميَّة، والدعوة إلى الجامعة الإسلاميَّة، ثم كانتْ ملحمة الشعر الإسلامي في مقاومة الاستعمار، ثم ملحمته التي ما تزال تُكتب بالدم والنار والشِّعر عن مأساة فلسطين.

ومَن شاء الرجوع إلى مصادر قريبة تُدلِّل على ما قررتُ آنفًا، فدونه موسوعة شِعر الدعوة الإسلامية مِن عهد النبوَّة إلى العصر العباسي، ثم كتابًا بعنوان: "مِن شعر الجهاد في العصر الحديث"، وهو يضمُّ نحوًا مِن مائة قصيدة مختارة، وكلُّ ذلك مِن منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة.

ودونه أيضًا كتاب آخَر فيه من الشعر الإسلامي الحديث الذي يضمُّ مختارات لأربعين شاعرًا من شُعَراء رابطة الأدب الإسلامي العالميَّة.

وإذا كان كلُّ ما قدَّمناه يَدُورُ حول الشعر، فإنَّ الشعر شطر الأدب وليس الأدب كله، بل ربما كانت ملامح الأدب الإسلامي تتَّضِح في النثر أكثر منها في الشعر.

أوَليسَ القُرآن - وهو كتاب الله - مُعجِزةً بيانيَّةً تحدَّت الإنس والجن؟ وهو بذلك يُمثِّل المثل الأعلى الذي يستَضِيء الأدب الإسلامي بمشكاته، حتى كان من قول الأستاذ محمد قطب كما قدَّمنا[7]: "لم يجد الإسلام تعبيره الفني الكامل في غير القرآن".

وهناك الحديث النبوي الذي هو الجدير بأنْ يُقال فيه: إنَّه دُون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، فالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوتي جوامع الكلم، وهو كما وصَف نفسه: ((أفصح العرب)).

ثم يأتي فن الخِطابة الذي كان صِنْوَ الشعر في كونه سِلاحًا من أسلحة الدِّفاع عن الدِّين الجديد والدعوة إلى الله.

وهناك أدب المواعظ الذي يُخطِئ كثيرٌ من النقَّاد حين يُخرِجونه عن دائرة الأدب بحجَّة المباشرة، وقد فاتهم أنَّ في القُرآن وَعْظًا مباشرًا، ولكنَّه وعْظ يهزُّ الأفئدة، وهؤلاء النقَّاد لم يُفرِّقوا بين الوعْظ المطبوع والوعْظ المصنوع، وإذا كانت الموعظة تصدُر عن تجربةٍ صادقة، وتنقل بأسلوب فني جميل، وتؤثر في قلوب السامعين حتى تتزلزل لها قلوب الجبابرة، وحتى تُبكي بعض الخلفاء والمتسلِّطين، ويتوب بسَماعها كثيرٌ من المذنبين المفرطين - فكيف نخرجها كلها عن دائرة الأدب وكأنها مواعظ كنسيَّة جامدة هامدة؟

وها هو ذا قُتَيبة بن مسلم يقول في واعظ جيشه محمد بن واسع الأزدي[8]: إنَّه أحبُّ إليه من مائة سيف.

وفي أدب المواعظ يقول الدكتور شوقي ضيف[9]: "وكان بعض الوعَّاظ يلمُّ بمجالس الخلفاء، وأحيانًا كانوا يستقدمونهم، فيعظونهم حتى يبكوهم؛ بما يوقعون في أنفسهم من خشية عِقاب الله، وبما يُصوِّرون لهم من زفير جهنم، وهم في تضاعيف ذلك يزجرونهم عن ظُلم الرعية واقتراف المعاصي والسيِّئات.

ويقول أيضًا[10]: "إنهم ارتقوا بصِناعة النثر في المعاني التي كانوا يُردِّدونها رقيًّا بعيدًا؛ إذ شعَّبوا وفرَّعوا في تلك المعاني طويلاً، واستنبَطُوا فيها كثيرًا من الدقائق التي تمسُّ القلوب والعقول، وأضافوا إلى ذلك عنايةً واسعة بأساليبهم، وهي عنايةٌ تقوم على الدقَّة في اختيار اللفظ والإحساس المرهف بجمال السبك والصياغة".

ومع ما تذخَرُ به كتُب الأدب من نصوصٍ نثرية تدخُل في الأدب الإسلامي، فإنَّ كثيرًا من هذه النصوص منثورة كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي[11]: "في كتب الحديث والسيرة والتاريخ، وكتب الطبقات والتراجم والرحلات، وفي الكتب التي أُلِّفت في الإصلاح والدِّين، والأخلاق والاجتماع، وفي بحوث علميَّة ودينيَّة، وفي كتب الوعظ والتصوُّف، وفي الكتب التي سجَّل فيها المؤلِّفون خواطرهم وتجارب حياتهم وملاحظاتهم وانطباعاتهم، وروَوْا فيها قصَّة حياتهم.

هذه ثروة أدبيَّة زاخرة تَكاد تكون ضائعةً، وقد جنى الإهمال على اللغة والأدب، وعلى الكتاب والإنشاء، وعلى التأليف والتصنيف، وعلى التفكير، فحرمه مادَّة غزيرة من التعبير، وباعثًا قويًّا على التفكير".

وفي العصر الحديث نجد عَطاء الأدب الإسلامي غزيرًا في مختلف الفنون النثريَّة؛ ففي فن المقالة نجد الرافعي وأرسلان والزيات والعقاد وسيد قطب ومحمود شاكر وعلي الطنطاوي... وفي القصة والمسرحية نجد باكثير والسحار ونجيب الكيلاني وعماد الدين خليل... وكثيرين غيرهم.

وفي هذا السبيل كلَّفت رابطة الأدب الإسلامي أحد نقَّادها وهو الدكتور عبدالباسط بدر بإعداد دليل مكتبي (ببيلوغرافيا) عن الأدب الإسلامي المعاصر المنشور باللغة العربيَّة، وقد صدر هذا الدليل متضمنًا أكثر من 1000 عنوان، وفيها من دواوين الشعر الإسلامي أكثر من 200 ديوان، وتجاوزت المجموعة القصصيَّة والروايات الإسلاميَّة 65 كتابًا، ومثلها في فن المسرحيَّة الإسلاميَّة.

وإذا كان كلُّ ما قدَّمناه يقتصر على الأدب الإسلامي المكتوب باللغة العربيَّة، فهناك فيض غزير جدًّا في آداب الشعوب الإسلاميَّة، ويكفي أنْ نشير إلى أنَّ في الأدب الإسلامي المكتوب باللغة الأوردية ملاحمَ يبلغ بعضها عشرين ألف بيت من الشعر، ويكفي أنْ نذكر محمد إقبال شاعر الإسلام، ومحمد عاكف مؤلف النشيد القومي التركي، ونجيب فاضل أمير الشعراء الأتراك.

وقد نشرت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عدَّة كتب عن الأدب الإسلامي لدى الشعوب الإسلامية؛ مثل: "الأدب الإسلامي التركي"؛ ألَّفه عضو رابطة الأدب الإسلامي الدكتور محمد عبداللطيف هريدي، و"الأدب الإسلامي الأوردي"؛ لمؤلفه الدكتور سمير عبدالحميد إبراهيم، و"الأدب الإسلامي الأفغاني"؛ للدكتور محمد أمان صافي، ثم تتابعت الكتب عن "الأدب السواحلي الإسلامي"؛ للدكتور محمد إبراهيم أبو عجل، و"الأدب الأوزبكي الإسلامي"؛ للدكتور شاه رستم موساروف، و"أدب الهوسا الإسلامي"؛ للدكتور مصطفى حجازي السيد.

وأخَذ بعض الأدباء يترجمون روائع من القصص الإسلامي العالمي؛ فقد ترجم الدكتور حسين عبداللطيف قصة "الدرويش والموت"؛ لأحمد إسماعيلوفيتش عن الأدب اليوغوسلافي الإسلامي، كما ترجم الدكتور محمد حرب عن اللغة التركية قصة "السنوات الرهيبة"؛ لجنكيز ضاغجي، وهي تدور حول مُعاناة المسلمين في القرم، وترجم رواية "الهجرة من أفغانستان"؛ للكاتبة الأفغانية مرال معروف، وترجم مسرحية "أيها الشهداء، إنا قادمون"، وهي عن معاناة المسلمين الأتراك في بلغاريا، وترجم أخيرًا قصة "صقور القوقاز" عن بطولات الشعب الشيشاني المسلم، كما أصدرت رابطة الأدب الإسلامي العالمية عددًا من الروايات الإسلامية منها:
"مملكة النحل"، و"الآمال صارت آلامًا" من الأدب التركي، و"نحو كوكب الحرية" من الأدب الفارسي.

وفي سبيل أنْ نعزز ما قرَّرناه من وُجود الأدب الإسلامي في مختلف عصورنا الأدبيَّة نَسُوق بعضَ النماذج الشعريَّة؛ لأنَّ الشعر أسهل تناولاً وأكثر قبولاً في القلوب.

ولنستَمِع إلى حسَّان بن ثابت - رضي الله عنه - يتوعَّد مشركي قريش ويتنبَّأ بفتح مكة فيقول:
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا
تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ

يُبَارِينَ الأَسِنَّةَ مُصْغِيَاتٍ
عَلَى أَكْتَافِهَا الأَسَلُ الظِّمَاءُ

فَإِمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا
وَكَانَ الفَتْحُ وَانْكَشَفَ الغِطَاءُ

وَإِلاَّ فَاصْبِرُوا لِضِرَابِ يَوْمٍ
يُعِزُّ اللهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ



ويُجلِّي لنا الحتات بن ذريح نموذج الشاب المسلم المجاهد إذ يقول مخاطبًا أباه:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي ذَرِيحًا
فَإِنَّ اللهَ بَعْدَكَ قَدْ دَعَانِي

فَإِنْ تَسْأَلْ فَإِنِّي مُسْتَقِيدٌ
وَإِنَّ الخَيْلَ قَدْ عَرَفَتْ مَكَانِي



وها هو ذا النابغة الجعدي وقد قرأ قوله - تعالى -: ï´؟ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ï´¾ [التوبة: 24].

فيقول مخاطبًا زوجته:
قَامَتْ تُذَكِّرِنُي بِاللهِ جَاهِدَةً
وَالدَّمْعُ يَنْهَلُّ مِنْ شَانَيهِمَا سَبَلاَ

يَا بِنْتَ عَمِّي كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي
عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلاَ

مَا كُنْتُ أَعْرَجَ أَوْ أَعْمى فَيَعْذِرَنِي
أَوْ ضَارِعًا مِنْ ضَنًى لَمْ يَسْتَطِعْ حِوَلاَ

فَإِنْ رَجَعْتُ فَرَبُّ النَّاسِ يُرْجِعُنِي
وَإِنْ لَحِقْتُ بِرَبِّي أَبْتَغِي بَدَلاَ



ويُناجِي أبو العتاهية ربه تائبًا متضرعًا فيقول:
إِلَهِي لاَ تُعَذِّبْنِي فَإِنِّي
مُقِرٌّ بِالَّذِي قَدْ كَانَ مِنِّي

وَمَا لِي حِيلَةٌ إِلاَّ رَجَائِي
وَعَفْوُكَ - إِنْ عَفَوْتَ - وَحُسْنُ ظَنِّي


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.25 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]