تصورات مغلوطة وسبل علاجها (5/7)
د. مشعل عبدالعزيز الفلاحي
في الحلقة الرابعة من هذه التصورات، خلصنا إلى أن أثر المعرفة هو الكنز الذي نبحث عنه، وأننا إذا أردنا أن نقيِّم واقعَنا بصدقٍ، فلننظر إلى الآثار التي تحقَّقتْ على طلابنا، وأكَّدنا هناك أن التواؤم بين ما يأخذ طلابُنا من معارفَ وبين ما يطبِّقون هو الأصل، ويمكن أن يتحقق شريطة أن ندرك أن هذه ضرورة لا مناص عنها.
واليوم ندلف إلى التساؤل الخامس، وهو:
هل بقاء الطلاب على مقاعدهم، وسكونهم طيلة الحصة دليل تميُّز في إدارة الصف؟
تظل المفاهيم التربوية التي وصلتْ إلينا في بعض الأحيان مشلولة؛ ذلك أنها وصلتْ إلينا إما من تجرِبة خاطئة، أو بُنيتْ على مفهوم خاطئ أصلاً، أو قدمتْ من صاحب تجربة مشلولة؛ لظرف معين، أو زمنٍ ما، ومن هذه المفاهيم المغلوطة هذا المفهوم؛ فإن كثيرًا من الزملاء يعتقد أن مفهوم إدارة الصف الناجحة هي التي من آثارها سكونُ الطالب، وعدمُ حركته، وصمتُه الدائم في الصف، ويظل يرى أن هذه قدرةٌ إبداعية، وقوة شخصية، مكَّنتْه من إدارة الصف، وحققتْ له المقصود، ونسي هذا المعلمُ أن هذا مؤشِّر خطير على فشله في إدارة صفه، وضعفه في تكوين مجموعة إيجابية قادرة على التفاعل مع ما يطرحه من مفاهيم.
إن تفشِّي هذا المفهوم بين الزملاء في الميدان التربوي هو الذي ولَّد هذا العقمَ في الإيجابية التي ننشدها في حياة أبنائنا الطلاب، إن طلابنا اليوم غير قادرين على التفاعل مع المعلم، وليت المشكلة انحسرتْ في قاعة الصف، وإنما امتدَّتْ إلى البيت، وتوسَّعتْ إلى أن كوَّنتْ طالبًا خجِلاً عن طلب حاجته، ضعيفًا في مبادرته، ثقيلاً في القيام بمشروعاته الخاصة، أو المساهمة بفاعلية في أسرته، وأي خسارة خسرناها بتفشي هذا المفهوم، وبحصول هذه الآثار السلبية؟!
لقد بات من السهولة بمكان أن نكبت طلابنا، وأن نحجر على آرائهم، وأن نكمم أفواههم، وأن نحجر على حركتهم، وليس في واحدة من هذه دليلٌ على حسن إدارة الصف؛ وإنما هي أدلة متضافرة على فشل هذه الإدارة، وفشوِّ هذه الظواهر السلبية المقيتة.
إن المعلم الناجح اليوم هو ذلك المعلم الذي يهب الحرية ويمنحها للمتعطشين لها، ويتمكن مع ذلك كلِّه من إيصال رسالته في أجواء مليئة بالحب والراحة، فيستقبلها طلابه وكأنها أيام أفراحهم، ومستقبل آمالهم.
إن حركة الطالب داخل الصف، وتمكُّنَه من قضاء حاجته في جوٍّ فسيح - يهيِّئ البيئةَ الصالحة للتعلُّم، ويشجِّع الطالبَ على المشاركة، ويفتح له أجواء من الراحة والطمأنينة التي يتربَّى عليها في مستقبل الأيام، وليس واللهِ عيبًا أن يتحرك الطالب، أو يقضي حاجته، أو يجد فسحة للسؤال والاعتراض؛ وإنما العيب كل العيب أن يرى الطالب أن حركته مقيدة بنظرات معلِّمه، وأن قضاء حاجته تدل على محاولته إحداث الفوضى والإخلال بنظام الصف، وهذه الأجواء في الغالب تربِّي على التمرد، وتخلق أجواء المشكلات، وتُعِين بقوة على خلق بيئة الكذب، والنزاع والشقاق، واختلاق الأعذار الواهية الكاذبة.
إنني أرى من الضرورة بمكان أن نحاول جاهدين طمسَ تلك المعاني السابقةِ في تجرِبتنا التعليمية بشيء من التفاعل مع الطالب، ومنحه أجواء الحرية، وتمكينه من السؤال والنقاش فيما لم يصل إليه واضحًا؛ بل أكبر من هذا أن نجعل من تفاعل الطالب، وقدرته على الحوار، وكثرة أسئلته - دليلاً على تميُّزه، وبرهانًا على إيجابيته، وبهذا نخلق بيئةً إيجابية تحمل على التعلُّم، وتحثُّ على المشاركة، وتغري بالسؤال، وهذه الأمنية التي نبحث عنها بشوق.
وأخيرًا:
بات مهمًّا على مستوى الأسرة والمدرسة والمجتمع، إذا أردنا أن نكوِّن مجتمعًا مساهمًا في التنمية - أن نفتح باب الحوار والمشاركة مع كل فرد، وأن نهيئ أجواء جاذبة للتفاعل الذي نريد، وحين يكون ذلك يمكن أن نكون مساهمين بحق في بناء هذا الوطن، وتمكينه من الريادة التي ننشدها للإسلام وأهله.