عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 24-05-2021, 03:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,690
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقياس الكثرة ودلالاته الموضوعية في النقد الأدبي

وفي كتابه "الشاعر الجاهلي الشاب: طرفة بن العبد" نرى الدكتور الجندي قد حرص على الدقَّة في حكمه النقدي على الأغراض الشعرية للشاعر، معتمدًا في حكمه على الجدول الإحصائي التالي الذي يكشف عدد تلك الأغراض، وكثرة كلِّ غرض من الأغراض في شعر الشاعر، ثم أتبع ذلك بذكر دلائل تلك الإحصائية من المنظور النقدي:
الموضوع
عدد الأبيات
الفخر
الغزل
نظرته للحياة وسلوكه وأحواله
مبادئ عامة في الحياة وحِكَم
الهجاء والذم والتهديد
الوصف
المدح
الإثارة
الاعتذار 184
129
116
89
86
79
23
18
9[58]

وتكشف الإحصائية السابقة كيف استبدَّ الفخر والغزل والحديث عن سلوك الشاعر بما يقرب من ثلاثة أخماس شعره، مما يدلُّ على اعتزاز الشاعر بنفسه وبقومه، وحبه للحديث عن نفسه.

وفي مقابل ذلك فإن أقلَّ الأغراض الشعرية التي تناولها الشاعر هي الأغراض التالية: المدح، الإثارة، الاعتزاز، حيث لم تزد أبياتها على 50 بيتًا، وتوحي قِلَّة هذه الأغراض في شعره بمبلغ اعتزازه بنفسه[59].

كما يشتمل الكتاب على عدد من الإحصاءات التي جعلها الدكتور الجندي معيارًا موضوعيًّا للدراسة النقدية التي تتَّجه إلى التحديد والدقَّة في أحكامها[60] مستفيدًا في ذلك كلِّه من الدلالة الموضوعية للكثرة، وتأثيرها في إعطاء الحكم الدقيق البعيد عن التعميم.

المبحث الرابع: مقياس الكثرة وأثره في قضايا النقد الأدبي:
ويدخل مقياس الكثرة في عدد من قضايا النقد؛ حيث تقوم بعض القضايا النقدية على ملاحظة عنصر الكثرة ودلائله الموضوعية، ومن أبرز تلك القضايا:
1- قضية الموازنة:
يقرر القاضي الجرجاني أن العرب كانت "تفاضل بين الشعراء وتسلم السبق فيه، لِمَن كثرت سوائر أمثاله، وشوادر أبياته"[61].

وتبعًا لذلك فإننا نجد سبب تفضيل بعض الشعراء الجاهليين على بعض يرجع أحيانًا إلى الاعتداد بعنصر الكثرة، يقول ابن رشيق: "وأما النابغة، فقال مَن يحتجُّ له: كان أحسنهم ديباجة شعر وأكثرهم رونق كلام، وزعم أصحاب الأعشى أنه أذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحًا، وهجاء، وفخرًا، وصفة"[62].

وفي الموازنة بين أبي حية النميري والراعي كان أبو عمرو بن العلاء يقول: "أبو حية النميري أشعر في عظم شعره من الراعي[63]، فأبو عمرو يلحظ عنصر الكثرة في تفضيله شعر أبي حية على شعر الراعي لكثرة الشعر الحسن لدى الأول، وقلته عند الآخر.

وحين يُسأل أبو عبيدة: "مروان بن أبي حفصة عندك أشعر أم بشار بن برد؟"، فإننا نرى إجابة أبي عبيدة تركِّز على مقياس الكثرة أساسًا لتفضيل بشار على صاحبه؛ حيث يقول أبو عبيدة: "حكم بشار لنفسه بالاستظهار أنه قال: لي ثلاثة عشر ألف بيت جيد، ولا يكون عدد الجيد من شعر شعراء الجاهلية والإسلام هذا العدد، وما أحسبهم برزوا في مثلها"[64].

وفي روايةٍ أن بشارًا قال: إن لي اثني عشر ألف بيت، فقيل له: هذا ما لم يكن يدعيه أحد قط سواك، فقال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة، لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كلِّ واحدة منها بيت عين"[65].

2- قضية معمار القصيدة:
بيَّن (ابن قتيبة) معمار القصيدة العربية المتضمِّن للمقدمة، ووصف الرحلة والنسيب ثم المديح، ثم عدَّ الشاعر المجوِّد مَن راعَى هذه الأقسام "فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يُطِل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد"[66].

ثم أعطى مثالاً واقعيًّا لعدم مراعاة تلك الأقسام، ومن هذا المثال الذي ضربه نجد أن مقياس الكثرة واضح التأثير في الحكم على معمار القصيدة بالنجاح أو الإخفاق، فقد أتى بعضُ الرجَّاز نصرَ بن سيار والي خراسان لبني أمية، فمدحه بقصيدة، تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله ما بيت كلمة عذبة، ولا معنًى لطيفًا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب"[67].

فكثرة النسيب على حساب المدح جعلت الممدوح ينتقد ذلك الشعر وينكر على صاحبه.

ومدح أبو العتاهية عمر بن العلاء، فأعطاه سبعين ألفًا، وخلع عليه حتى لم يستطع أن يقوم، فغار الشعراء لذلك فجمَعهم، ثم قال: عجبًا لكم معشر الشعراء، ما أشدَّ حسد بعضكم لبعض، إن أحدكم يأتينا ليمدحنا فينسب بخمسين بيتًا، فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتى أبو العتاهية فنسب بأبيات يسيرة، ثم قال:

إِنِّي أَمِنْتُ مِنَ الزَّمَانِ وَرَيْبِهِ
لَمَّا عَلِقْتُ مِنَ الأَمِيرِ حِبَالاَ[68]



3- قضية المذهب البديعي:
ويتجلَّى مقياس الكثرة بوصفه عنصرًا مؤثرًا بارزًا في المذهب البديعي الذي امتاز بالإكثار من المحسنات البديعية، ومن أبرز شعراء هذا المذهب أبو تمام الذي رأى هذه الأنواع التي وقع عليها اسم البديع؛ وهي: الاستعارة، والطباق، والتجنيس - منثورة متفرِّقة في أشعار المتقدمين، فقصدها وأكثر في شعره منها[69].

وينقل الآمدي رأي عبدالله بن المعتز في أن "بشارًا وأبا نواس ومسلم بن الوليد ومَن تقيَّلهم لم يَسبِقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعُرِف في زمانهم، ثم إن الطائي تفرَّع فيه، وأكثر منه، فأحسن في بعض ذلك، وأساء في بعض، وتلك عقبى الإفراط، وثمرة الإسراف.

وإنما كان الشاعر يقول من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة، وربما قُرِئ من شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت واحد بديع، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرًا"[70].

المبحث الخامس: مقياس الكثرة وأثره في مجالات الحكم النقدي:
يمثِّل الحكم النقدي الحلقة الأخيرة في سلسلة المسيرة النقدية للنصِّ الأدبي؛ حيث يمرُّ النص على يد الناقد بمرحلة التحليل والدراسة، ثم يكون الحكم النقدي خاتمة المطاف، والنتيجة النهائية لعملية النقد.

ويدخل مقياس الكثرة في إيجاد الحكم النقدي في جوانب متعددة يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تقديم الشاعر لكثرة أغراضه وأفانينه:
يؤثر عنصر الكثرة في تقديم الشاعر وبيان منزلته العالية، وذلك حين يشهد له الناقد بكثرة الأغراض الشعرية التي يتناولها في شعره.

وقد عدَّ جرير نفسه (مدينة الشعر) وعلل ذلك بقوله: إني لمدينة الشعر التي منها يخرج وإليها يعود؛ نسبت فأطريت، وهجوت فأرديت، ومدحت فسننت، وأرملت فأغررت، وزجرت فأبحرت، فأنا قلت ضروب الشعر كلها"[71]، ومما يدل على فضله وتميُّزه على خصمه الألدِّ الفرزدق أن الفرزدق لما ماتت امرأته (النوار) ناح عليها بشعر جرير:

لَوْلاَ الحَيَاءُ لَهَاجَنِي اسْتِعْبَارُ
وَلَزُرْتُ قَبْرَكِ وَالحَبِيبُ يُزَارُ[72]



وتبعًا لعامل كثرة الأغراض الشعرية وأثرها في علوِّ منزلة الشاعر - رأينا الأصمعي يقدم بشار بن برد على معاصريه، ويردُّ سبب ذلك التقديم إلى كثرة فنون الشاعر وسعة تصرُّفه[73].

2- كثرة الانتصار على الخصوم:
وتبدو قيمة الشاعر في انتصاره على أكبر عدد من الخصوم، وبخاصة إذا كان الواحد منهم له خطره وشأنه في الشعر، فهناك مَن يُعلِي من شأن أبي تمام والبحتري "لأنهما أخملاَ في زمانهما مائة شاعر كلهم شاعر مُجِيد"[74].

بل إن صاحب (الوساطة) قد ذكر أن البحتري وحده قد أسقط خمسمائة شاعر في عصره[75]، وواضح أن الرقم الكبير ليس مقصودًا بحدِّ ذاته، فقد يكون أولئك الشعراء أقلَّ من ذلك، وتبقى بعد ذلك دلالة الكثرة المستفادة من العدد وهي شهادةٌ لصاحبها بالقوة والتفوُّق.

وقبلهما فاخَر جرير ثمانين شاعرًا، وفخر عليهم بوالده الذي كان في درجة متدنِّية من خمول الشأن، وقلة النباهة[76]، ولكنه سجَّل لنفسه كسبًا أدبيًّا بذكر عدد أولئك الشعراء الذين انتصر عليهم، فحين جاءه رجل يسأله: مَن أشعر الناس؟ قال له: قم حتى أعرفك الجواب، فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه (عطية) وقد أخذ عنزًا له فاعتقلها وجعل يمصُّ ضرعها، فصاح به: اخرج يا أبت، فخرج شيخ دميم رثُّ الهيئة، وقد سال لبن العنز على لحيته، فقال: ألا ترى هذا؟ قال: نعم، قال: أو تعرفه؟ قال: لا، قال: هذا أبي، أفتدري لِمَ كان يشرب من ضرع العنز؟ قال: لا، قال: مخافةَ أن يُسمَع صوت الحلب فيُطلَب منه لبن، ثم قال: أشعر الناس مَن فاخَر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرًا وقارَعَهم به فغلَبَهم جميعًا[77].

3- تحقيق المواقف والآراء:
من إيجابيات مقياس الكثرة الإفادةُ منه في تحقيق المواقف والآراء المتَّصلة بالأدب شعرِه ونثرِه، والكشف عن جوانبها المختلفة، فمن ذلك توظيف هذا المقياس في نفس الشعر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتخريج قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب))[78].

بأن المرء لا يُعَدُّ شاعرًا إلا إذا قال قصائد، أو قصيدة واحدة في معنًى من المعاني، وهو ما لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم[79].

ومن الآراء التي أفاد مقياس الكثرة في الردِّ عليها، وبيان عدم صحتها - دعوى هجر (لبيد بن ربيعة العامري) للشعر بعد الإسلام، وإجماع الرواة على أن (لبيدًا) لم يقل في الإسلام غير بيت واحد وهو قوله:
الحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي
حَتَّى لَبِسْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالاَ



ففي دراسة الدكتور يحيى الجبوري لشعر (لبيد) فنَّد تلك الدعوى، وأثبت أن البيت السابق ليس للبيد، ولكنه لقرادة بن نفاثة السلولي[80]، ثم استعمل مقياس الكثرة لتحقيق مقدار شعر لبيد بعد إسلامه، وكان منهجه في ذلك توثيق القصائد للتأكُّد من صحتها، ثم الفحص عن كلِّ قصيدة أو قطعة ومعرفة دلالات إسلاميتها.

وقد خرج من ذلك بأن للبيد تسع عشرة قصيدة وقطعة إسلامية، غير القصائد الجاهلية التي عاد إليها في الإسلام وزاد فيها أبياتًا إسلامية[81].

الخاتمة:
تبيَّن من دراسة مقياس الكثرة أهميتُه في الحياة الأدبية، واهتمام نقادنا العرب به وتعويلهم عليه في عدد من الأحكام.

ومن ذلك أن عنصر الكثرة هو العامل الأول في تحديد عددٍ من المصطلحات النقدية: كالفحولة، والقصائد الطوال، فضلاً عن أثره في التفريق بين ألوان مختلفة من الشعر: كالقصيدة، والمقطعة، والملحمة.

وقد أفادت عدَّة مناهج من هذا المقياس، وأقامت على أساسه تعاملها النقدي في النظر إلى النص الأدبي أو الشعراء، ومن أوضح الأمثلة على ذلك منهج المقاصة الذي اعتمده القاضي الجرجاني في وساطته بين المتنبي وخصومه، واستطاع أن يُنصِف هذا الشاعر مستفيدًا من دلالات الكثرة في الحكم النقدي، كما أن المنهج الإحصائي يقوم أساسًا على ملاحظة الكثرة في أيَّة قضية من القضايا، وهو ما رأيناه في نموذج شعر الحرب في العصر الجاهلي وشعر طرفة بن العبد؛ حيث تجلَّت عطاءات هذا المقياس في تحديد الحكم النقدي تحديدًا علميًّا دقيقًا.

وكذلك أظهر البحث دخول عنصر الكثرة في عدَّة قضايا نقدية: كقضية الموازنة، وقضية معمار القصيدة، وقضية المذهب البديعي.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.09%)]