منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل (1-3)
خليل محمود اليماني
ومما يدلّل على ضرورة ربط منطلق مقاربة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف بما قررنا أمران:
الأول: أنّ مجاوزة ذلك تدفع للوقوع في إشكالات عديدة جدًّا.
الثاني: أنّ بحث المسألة تبعًا لهذا المنطلق يندفع في طريقه الصحيح ويصبح قادرًا على تفكيك المسألة وفهم أبعادها وتكوين موقف منهجي محرّر إزاءها.
وبيانهما على النحو الآتي:
لعلّ أبرز ما يُظهِر إشكالات تجاوُز حيثية التفسير في بناء ناظم ومنطلق فهم توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف =هو التأمُّل في الدرس الحاصل لتوظيف الإسرائيليات في هذا التفسير؛ ذلك أنّ هذا الدرس يصدر جُلّه في بحث التوظيف عن منطلق مباين لحيثية التفسير، وهو المنطلق النقلي وأنّ مادة المرويات تمثل مجالًا ينقل عنه المفسّر نقلًا محضًا، لا أنه يوظفه في إنتاج المعنى وتقريره[19].
ودليل انطلاقة هذا الدرس من ذلكم المنطلَق يظهر إجمالًا مِن تأمُّل أسيقة نقاشه لتوظيف المرويات في هذا التفسير ومسالك التأصيل التي أنتجها لهذا التوظيف.
فالناظر في النقاش الحاصل لهذا التوظيف في غالب الدراسات والمؤلفات يجده يرتكز إجمالًا على سياق:
- نقاش مضامين المرويات: حيث يدور الدّرس في نقاشه لتوظيف حضور المرويات الإسرائيلية في التفسير على نقاش المفسِّر في مضمون الروايات وما تحمله من تفاصيل ومعلومات وهل تتسق مع العقل أم لا؟ وهل يمكن تصديقها أم لا؟ وكذلك جدوى ذكر هذه التفاصيل المطولة للمرويات في ساحة التفسير وإيرادها[20].
ولا شك أن التوجّه لنقاش المفسّر في مضامين المرويات ذاتها وتفاصيلها الداخلية ومدى أهمية حضورها في التفسير -والذي نجد له حضورًا واسعًا جدًّا في درس المسألة لا يحتاج في تقريره لإطالة نفَس-، يدلُّ دلالة ظاهرة على أنّ منطلق النظر في توظيف المرويات في التفسير هو المنطلق النقلي، وأنّ المفسّر يبدو في توظيفه لهذه المرويات كما لو كان إخباريًّا يوردُ المرويات لمجرد الرواية والنقل وليس لتوظيفها في بناء المعنى وتقريره، وبالتالي يتم محاكمة توظيفه وتقويمه من خلال النظر في تفاصيل المرويات ومحددات قبولها العقلية والشرعية، واعتبار فائدة حضورها في التفسير من عدمه.
وأمّا المتتبّع لسياق التأصيل لتوظيف المرويات الإسرائيلية في التفسير فيرتكز إجمالًا على سياق:
ضبط كيفيات الإفادة من المرويات لما هو فوق المعنى كالأحكام: حيث ينصبُّ التأصيل على تكوين مقرّرات تُعْنَى بضبط كيفيات الاستدلال بالمرويات على الحُكم الشرعي وأنها من قبيل التأنيس لا التأسيس والاستشهاد لا الاعتقاد، وكذلك يتم قسمة المرويات قسمة مضمونية والتعامل مع كلّ قسم بحسب موقفه من الوارد في الشرع؛ فنرفضه حال ظهرَت مخالفتُه، ونقبله لو ظهرَت موافقته، ونتوقف فيه حال فقدنا الدليل المرجح قبولًا وردًّا[21].
وهذا السياق التأصيلي لتوظيف المرويات في تفسير السلف، وإن كان مؤذنًا في ظاهره بأن المنطلق الذي يجري من خلاله توسّل التأصيل لتوظيف الإسرائيليات ليس المنطلق النقلي والروائي المحض للإسرائيليات في ساحة التفسير، وإنما المنطلق الاستدلالي بها على الأحكام =إلا أن ذلك غير صحيح؛ لأن المنطلق الاستدلالي على الأحكام ليس منطلقًا مستقلًّا على الحقيقة يتم اللجوء إليه في درس التوظيف في مقابلة المنطلق النقلي، وإنما هو فرعٌ عن دراسة توظيف الإسرائيليات من خلال المنطلق النقلي وأثرٌ من آثاره على الحقيقة، وإلّا فتصورُ أنّ المفسِّر يقوم بالاستدلال على الأحكام رأسًا بهذه المرويات والتنظير للمسألة تبعًا لذلك المنطلق من بدايتها =مدفوعٌ بداهة ولا يقول به أحد؛ لظهور غلطه، وإنما الذي دعا لأن يكون التأصيل للتوظيف على هذا النحو هو تصور أن المفسِّرَ ناقلٌ وراوٍ أولًا للمرويات، إِذْ هو ما يجعلنا ابتداءً نصبح أمام مضمون منقول عن مصدر أجنبي في التفسير، وبالتالي نقوم عند محاولتنا أَطْر الإفادة الحاصلة منه والتأصيل لها باستيحاء منازع ضبط الإفادة والاستدلال بالمصادر بما هو مقرّر في التنظير الأصولي، لا سيما وأن الإسرائيليات ليست من المصادر الشرعية التي يستعان بها في التأسيس؛ ومن هاهنا فإنّ المنطلق العام لدرس توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف وما دار في رحاب مفهومه هو المنطلق النقلي الروائي المحض لا غير[22].
وبغضّ النظر عن الكلام عن نشأة هذا المنطلق وطبيعة الحيثية التي صدر عنها وأسباب تَبنِّيه لها مما ليس غرضنا تحريره، إلا أن الناظر فيه لا يتردد في مخالفته لحيثية التفسير؛ فالمفسِّر المنتِج للمعنى والمشتغِل بالتبيين بصورة عامّة لا يقوم بنقل المعنى وإنما يشتغل ببنائه وتحريره، وبالتالي فأدوات التفسير التي يسوقها إبّان ذلك لا يتصور قيامه بالنقل عنها وإنما توظيفها في مسلك التبيين لا غير[23].
وإن تأسُّس هذا الدرس على ذلكم المنطلق المباين لحيثية التفسير أفضى به لإشكالات عديدة حاصلها إجمالًا أنه انحرف تمامًا في بحثه للتوظيف عن غايته لدى أربابه، واتجه إلى دراسته من زوايا ومناحٍ ليست هي محل النظر عند مُوَظِّفي هذه المرويات لا من قريب ولا من بعيد، وهو ما أدَّى بهذا الدرس إلى[24]:
عدم القدرة على إنتاج تأصيل منضبط للتوظيف؛ كونه ينظر للتوظيف من جوانب ليست هي المقصودة أصلًا وبالتالي فما يأتِي به من تقسيمات ويستخرجه من مقررات يكون بلا واقع أصلًا وبالتالي لا تبدو له فائدة في ضبط فهم التوظيف وبناءِ محددات فهمه عند من قاموا به، كالتقسيم الثلاثي للمرويات والقول بأنها للاستشهاد لا الاعتقاد...إلخ، مما لا يتصل بعمل المفسّر أصلًا كما بينّا، بل إنّ هذا التأصيل يزيد النظر للمسألة تعقدًا واضطرابًا ويعجز عن بناء موقف منهجي محرّر يستقيم معه فهمها وتبيُّن مسالكها المنهجية[25].
الخروج بمقررات ونتائج غاية في الإشكال؛ وذلك أن فهم التوظيف ذاته يعتوره خللٌ، وبالتالي يكون ترتيب النتائج والأحكام في ضوئه مشكلًا ويحمل أغلاطًا كبيرة؛ كالحُكم على التوظيف لموردٍ شهد توظيفًا كثيفًا وتتابع عليه مؤسِّسو الفن بأنه بلا جدوى، وبأنه كان في مناحٍ لا فائدة منها...إلخ، مما لا يستقيم وحركة نشأة الفنون.
كثرة الأخطاء؛ فالفهم الخاطئ للتوظيف يدفع البحث لترتيب العديد من الأحكام الخاطئة والمرفوضة؛ ومن ذلك الأحكام النقدية على مَن قاموا بالتوظيف تأسيسًا على تفاصيل المرويات وما تحمله من إشكالات في مضامينها...إلخ، مما يعدُّ غلطًا؛ كون جهة النقد لا تتصل أصلًا بالتوظيف في شيء، وبالتالي يكون النقد كلّه من قبيل الغلط.
إنّ هذه الإشكالات وغيرها كثيرٌ مما يتصل بالدرس الحاصل لتوظيف الإسرائيليات في تفسير السلف يرجع سببها في الحقيقة لقيام الدرس وارتهانه في البحث لمنطلق معارض لحيثية التفسير ومضاد لها يندفع البحث معه دفعًا للانحراف عن فهم التوظيف وبحثه من جوانب غير مقصودة أصلًا لمن قاموا به كما مرَّ، وهو الأمر الذي يدلل على ضرورة أن يكون ابتناء منطلق درس التوظيف في هذا التفسير وما يتصل بذات مشغله ومفهومه مقيد بحيثية التفسير ومرتبط بها، لما يضمنه من تركيز البحث وتوفره على فهم التوظيف في ضوء مقاصد التفسير وليس خارجها مما يجعل الطريق أمامه ممهدًا بذلك لفهم التوظيف ودرسه والخروج بمقررات صحيحة ومنضبطة.
وإذا كان أولى ما يفيد في تقويم صوابية المنطلقات التي تُدرس من خلالها المسائل هو مدى قدرتها على وضع البحث بصورة عملية في هذه المسائل على المسار الصحيح الذي يجعله يخرج بنتائج لها القدرة على ضبط النظر إليها وفهم أبعادها، فإننا لن نكتفي في تصويب المنطلق الاستدلالي الذي قرّرنا في درس توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف بمجرد تأسُّسه على حيثية التفسير وتركُّبه تبعًا لها، وإنما سنجتهد في بيان صحته والتدليل على أنه الأولى بالدرس عَبر بيان دَوره في ضبط المسلك الكلي لبحث التوظيف والدفع به لفهم أبعاد هذا التوظيف على نحوٍ منهجي محرّر، وهو مجال البحث في مقالاتنا الآتية، والله الموفِّق.
[1] مراجعات في الإسرائيليات، مركز تفسير، 1436هـ-2015م، ص: 10.
[2] أقام مؤخرًا موقع مركز تفسير للدراسات القرآنية (tafsir.net) ملفًّا بحثيًّا متكاملًا تناول هذه القضية من زوايا مختلفة، وقد أكرمنا الله بالمشاركة فيه بعددٍ من المواد البحثية كان من بينها ثلاثة مقالات مطوّلة تحت عنوان: «قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير»، وقد اعتنينا فيها بمناقشة التأصيل التيمي لمسألة الإسرائيليات في تفسير السلف باعتباره أكثر التأصيلات شهرة وأوسعها حضورًا في الدراسات التي تعرضت لهذه المسألة، حيث قمنا بالنظر في أنساق بحثه لهذه المسألة وتحرير منطلقات التأصيل التي صدر عنها، وهو ما أظهر معنا أن المنطلق الحاكم لدرسه وتأصيله هو المنطلق النقلي، والذي يعتبر المفسِّر في إيراده لهذه المرويات وتوظيفه لها في التفسير مجرد ناقل لا غير.
وقد اجتهدنا في تحليل هذا المنطلق في الدرس التيمي وأقمنا الأدلة على ما يعتوره من أخطاء وما يترتب عليه من إشكالات في فهم المسألة والتعامل معها والتأصيل لها. تراجع المقالات على موقع تفسير.
[3] تفسير السلف هو تفسير الصحابة والتابعين وأتباعهم. وهذا التفسير له خصوصية ظاهرة في مدونة التفسير ليس فقط لخصوصية رجاله والفترة الزمنية التي عاشوا فيها، وإنما لخصوصية المفهوم الذي قام عليه تفسيرهم، حيث ارتبط بصُلب التفسير لا بتوابعه؛ ما جعله مدار التفسير في مدونة التفسير كلّها كما سيظهر. للتوسع في الكلام على تفسير السلف، يراجع: موسوعة التفسير المأثور، (1/ 121)، وما بعدها.
[4] يمكننا بصورة عامّة أن نتكلم في مدونة التفسير عن نمطين من التوظيف للإسرائيليات لا يرجع التوظيف فيهما لنقل مرويات السلف بل يتصل بالرجوع لكتب بني إسرائيل والأخذ منها بصورة مباشرة؛ وهما: الأول: التوظيف الحاصل من الإمام البقاعي في تفسيره نظم الدرر، وهو توظيف شهير أثار بعض الإشكالات في عصر البقاعي ما دعاه لتأليف كتاب خاص لبيان موقفه والدفاع عنه كما سيأتي. الثاني: التوظيف الحاصل من بعض المفسرين المتأخرين؛ كمحمد عبده وابن عاشور.
[5] للتوسّع في الكلام على هاتين الدائرتين تراجع مقالتنا: «معيار تقويم كتب التفسير؛ تحرير وتأصيل»، وهي منشورة على موقع تفسير على الرابط الآتي: tafsir.net/article/5139.
[6] هذه النقطة من المسائل الشائكة التي تحتاج لبحث، ذلك أنّ الناظر في كثير من مصنفات التفسير يجد أن مادتها لا تتّصل بحيثية التفسير، بل إنّ بعض كتُب التفسير يكاد منطلقها في مفهوم التفسير يكون مباينًا ومغايرًا لحيثية التفسير، وهو ما يجعل بذلك من الحُكم بأنها كتب تفسير أمرًا مشكلًا؛ فبغضّ النظر عن ضرورة البحث في أسباب ذلك، إلا أننا حال اعتبرنا هذه التصانيف ضمن التفسير نصبح أمام فنّ بلا ملامح واضحة وحدود ظاهرة وحيثية معتبرة ومفهوم محدد...إلخ، بل إننا نصبح أمام وضعية غاية في الغرابة، حيث يكون في الفنّ الواحد تصوّرات متباينة لذات الفنّ ومفاهيم متناقضة لتصوّره، وهو ما يجعلنا مضطربين -ضرورة- منهجيًّا أمام هذا الإشكال حتى يتسق النظر في الفنّ ويمكن الكلام على مفهوم محدد له والبحث في قضاياه =للفصل والحُكم بين هذه التصورات وتحرير أيها صواب وأيها خطأ؛ لأن الفنّ بذلك متنازع في مفهومه لا في بعض الجزئيات وأطراف المسائل الداخلة فيه، فكيف يمكن الحديث عنه والتأريخ له ودرس مسائله...إلخ. ولا شك أن الاحتكام لحيثية التفسير هو أحد المحاور الرئيسة لدرس هذه النقطة وتحرير توجهات الكتابة في التفسير وأيها يدخل في إطاره وأيها يعدُّ خروجًا عن حدّ الفنّ وفي انتسابه للتفسير إشكال؛ سواء بتصنيفنا له نحن ضمن التفسير حال لم يصرح صاحبه بذلك أو بتصنيف صاحبه له في التفسير؛ كونه انفلَت من حيثيته وابتعد عنها ما يجعل من الممكن مَوْضعه تصنيفه ضمن دائرة فنون أخرى أو يكون هو بمثابة تأسيس لفنّ جديد، وذلك مرتهن بطبيعة الحال بالنظر في مادة التآليف ومقدار قُربها وبُعدها عن حيثية التفسير؛ إِذْ بعض التآليف يتضح ارتباط مادتها بحيثية التفسير وإنْ وقع فيها استطرادات خارجة مما هو متفهم في حركة الفنون وتآليفها، إلا أن بعضها يكاد يكون مفهومه مباينًا تمامًا للحيثية وهذا هو الأكثر إشكالًا في النظر.
[7] التيسير في قواعد التفسير، ص: 157، 158.
[8] معايير القبول والردّ لتفسير النصّ القرآني، دار الغوثاني للطباعة والنشر، ط:1، 1428هـ-2008م. وقد ذكر الدكتور عبد القادر -بعد ذلك- اتفاق قواعد التفسير مع الأصول في مباحث الدلالة والبيان وكيفية استنباط الأحكام من النصّ، وقضايا التعارض والترجيح في بعض جزئياتها ومسائل النسخ. ولا يخفى أنّ بعض وجوه الاتفاق التي ذكرها متوقف على مفهوم التفسير سعةً وضيقًا.
[9] يراجع: شرح مقدمة الطبري للدكتور مساعد الطيار.
[10] تفسير الطبري، ط: هجر، (1/ 7).
[11] وهي منشورة على موقع تفسير على الرابط الآتي: tafsir.net/article/5139.
[12] يلاحَظ هاهنا أمور: الأول: توظيف الإسرائيليات خارج تفسير السلف لا يمكننا أن ندرسه مباشرة تبعًا لحيثية التفسير إلا بعد التثبت من أن الدائرة التي وقع فيها التوظيف هي الدائرة الممثلة لحيثية التفسير وإلا فإن المنطلق سيجري ضبطه بحسب ما قررنا قبل قليل. الثاني: هناك تفاسير تركّز اشتغالها بذات الدائرة التي اشتغل بها السلف وهي تبيين المدلولات كالطبري وابن عطية، فهذه التفاسير تشتغل بذلك الغرض وإن كان عبر استحضار مقولات السلف، وهذا يجعلها تناقش المرويات وتنظرها وتقوم بتوظيفها كذلك لتحرير الأقوال، وظاهر أن دراسة توظيف الإسرائيليات في هذه التفاسير كما هو في تفسير السلف؛ لاتحاد المحل. الثالث: هناك توظيف متأخر جدًّا للإسرائيليات وقع من البقاعي (ت:885) في تفسيره (نظم الدرر)، حيث قام بالنقل عن كتب أهل الكتاب في مواضع عديدة جدًّا، وهذا التوظيف أثار جدلًا كبيرًا في زمن البقاعي نفسه حتى اضطر للردّ على ناقديه وتوضيح موقفه من تحريف كتب أهل الكتاب وعدمه ومسالك نقله عنها وغير ذلك، فقام بتأليف كتابه: (الأقوال القويمة في حكم النقل عن الكتب القديمة). وهذا التوظيف مما يحتاج لدراسات خاصّة تجلّيه، لا سيما وأن الناظر فيه يجده -وإن كان الأمر بحاجة لبحث- يدور على مشاغل لا تتصل بحيثية التفسير وتبيين المعاني وكشف المدلولات، وإنما تتصل بأغراض أخرى؛ كالعِبرة والاتعاظ والاستئناس للمضامين الشرعية بالوارد في كتب أهل الكتاب وغير ذلك مما يتصل بالدائرة الثانية. يراجع كتابه: (الأقوال القويمة في حكم النقل عن الكتب القديمة).
[13] تفسير الطبري، ت: شاكر، (1/ 453).
[14] نذكر الطبري هاهنا ونستدل بموقفه وإن لم يكن من مفسري السلف؛ كون تفسيره دار على مقولات السلف كما بينّا واتصل بذات مشغل التفسير عندهم وهو كشف المدلول وليس التوسّع فيما وراء ذلك، وبالتالي فإن طرائق تعامله مع المرويات هي ذات الطرائق المسلوكة لدى السلف.
[15] وقع اختلاف بين المرويات في اسم ذلك الشيطان؛ فقيل: هو آصف، وقيل: آصر، وقيل: حبقيق.
[16] تفسير الطبري، ط: هجر، (20/ 87-93).
[17] تفسير الفتنة والجسد بالوارد عن السلف كما ذكر الطبري مناسب جدًّا لسياق الآيات، وذلك يظهر من دعاء سليمان بعدها والذي طلب فيه أن يوهَب ملكًا عريضًا، وحديث القرآن عن تسخير الشياطين له مما قد يدلّ على ارتباط فتنته بالملك. وتظهر مناسبته ما إذا قارنته بما يورده بعض المفسرين من أن الفتنة هي ما جاء في حديث البخاري: «عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال سليمانُ: لأطوفَنّ الليلة على تسعين امرأةً، كلّهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل إن شاء الله. فطاف عليهن جميعًا فلم تحمل منهن إلا امرأةٌ واحدة جاءت بشقّ رجل، وايمُ الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون»، فقد جعلوا فتنته هي عدم استحضاره المشيئة، والجسد هو شقّ الطفل، ولا يخفى ما في هذا التفسير من ضعف، وهو ما انتقده ابن عاشور بقوله: «وليس في كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّ ذلك تأويل هذه الآية، ولا وَضَع البخاري ولا الترمذي الحديث في التفسير من كتابيهما... وإطلاق الجسد على ذلك المولود إمّا لأنه وُلد ميتًا، كما هو ظاهر قوله: «شق رجل»، وإمّا لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد. وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتضِ أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيًّا ولا أنه جلس على كرسي سليمان. وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلُّف». التحرير والتنوير (23/ 260)، كما يظهر ضعف هذا التفسير كذلك من أن الفتنة يتعذر تركبها مع النسيان الذي وقع من سليمان.
[18] من الأمور التي قد تثار هاهنا هي علة نقل هذه التفاصيل الطويلة من قِبل المفسرين الأوائل وعدم الاكتفاء بالجزء الدال على المعنى، وهذا نظر مشكِل؛ لأننا ما دمنا أمام فنّ له موارد معيَّنة توظف فيه، فلا مجال للقول بأن هذا المورد لا حاجة للتوسّع في نقله بتمامه وكان الأحرى بأربابه اختصاره وذكر شاهدهم ودليلهم منه مباشرة...إلخ، كما أن المفسر ينتج التفسير عبر التوظيف، وليس شرطًا أن ينصّ على مستنداته وقرائنه، بل إنه ينتج، وعلى من يأتي بعده أن يتأمل إنتاجه وتطبيقه من خلال الموارد الموظفة ويحاول استخراج قرائنه، وغير ذلك خلل في التصوّر كما ذكر شاكر مبينًا أنه ليس «مِن عَمَلِ أيِّ كاتبٍ مبينٍ عن نفسه، أن يبدأ أوَّل كلِّ شيءٍ فيفيضَ في شرح منهجه في القراءة والكتابة، وإنْ لا يفعلْ كان مقصِّرًا تقصيرًا لا يُقْبل منه بل يردُّ عليه، ثم يكتبُ بعد ذلك ما يكتبُ ليقول للناس: هذا هو منهجي، وها أنا ذا طبَّقته. هذا سخفٌ مريضٌ غير معقولٍ، بل عكسُهُ هو الصحيح المعقول، وهو أن يكتب الكاتب مطبِّقًا منهجه، وعلى القارئ والناقد أنْ يستشِفّ المنهج ويتبيَّنه، محاولًا استقصاءَ وجوهه الظاهرة والخفيّة، ممّا يجدُه مطبّقًا فيما كتب الكاتب». رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص: 20، 21. ومن هاهنا فإنّ نقل المفسّرين الأوائل لهذه المرويات التي وظفوها كما هي كان ضرورة؛ ففضلًا عن كونها دلائل مقولاتهم لمن يتأمل فيها بعدهم، فهي موارد ممارسة الفنّ التي يجب أن تبقى لمن جاء بعدهم، وأمّا مَن تلاهم فهو من يمكنه الاختصار اعتمادًا على ذِكرهم وإيرادهم لهذه المرويات؛ ولهذا تجد بعض المفسرين ممَّن تلا عصر السلف وقاموا بتوظيف هذه المرويات في ذات مشغل تبيين المدلول كان يختصر المرويات كما هو الحال عند ابن عطية، حيث قال: «لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفكّ الآية إلا به»، وكذلك قال في تعليقه على قصة طالوت: «وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية، وذلك كلّه ليِّن الأسانيد؛ فلذلك انتقيت منه ما تنفك به الآية وتعلم به مناقل النازلة واختصرت سائر ذلك»، وكذا علق على الروايات الواردة في قصة أصحاب السبت، حيث قال: «وفي قصص هذه الآية رواية وتطويل اختصرته واقتصرت منه على ما لا تُفهم ألفاظ الآية إلا به».
[19] يمكننا تصنيف الدرس الحاصل لتوظيف الإسرائيليات -بوجه عامّ- إلى اتجاهين رئيسين:
الاتجاه الأول: نقد هذا التوظيف، والمطالبة أحيانًا بتجريد كتب التفسير منه، وهذا التوجه هو الأكثر حضورًا وفيه غالب الدراسات وجُلّها.
الاتجاه الثاني: عدم نقد هذا التوظيف والدفاع عنه بشكل عامّ، وهو اتجاه لمّا يتراكم فيه الجهد البحثي، وإنْ أخذ في الظهور. يراجع عيون البحث في هذا الاتجاه في كتاب: «مراجعات في الإسرائيليات» الصادر عن مركز تفسير.
والاتجاه الثاني الآخذ في الحضور لم يَتَبَنَّ المنطلَق النقلي في الدرس كما في الأول؛ كونه يحاول أن يتبصر بمناهج مَن أورد هذه المرويات، وإن كان لم ينفلِتْ منه كذلك على التمام، بل تلبس بكثير من مقرراته ما أورث بحثه تشوشًا على مستوى المنطلقات والنتائج. يراجع مقالتنا: «القول بانحصار توظيف المرويّات الإسرائيلية في القصص وعدم دخولها في العقائد والأحكام؛ قراءة نقديّة»، وهي منشورة على موقع تفسير تحت الرابط: tafsir.net/article/5169.
[20] يراجع مثلًا: دراسة الشيخ الذهبي، ومحمد أبو شهبة، ورمزي نعناعة، وآمال ربيع وغيرهم.
[21] يراجع تأصيل ابن تيمية لتوظيف المرويات الإسرائيلية في التفسير الذي طرحه في مقدمته الشهيرة في أصول التفسير.
[22] يراجع مقالاتنا عن التأصيل التيمي للمرويات الإسرائيلية في التفسير.
[23] للمنطلق النقلي إشكالات عديدة جدًّا بخلاف معارضته لحيثية التفسير؛ راجع نقاشنا ونقدنا له بتوسع في مقالاتنا حول التأصيل التيمي.
[24] الأمور التي سنذكرها فيما يأتي بعضها ناقشناه قبلُ بتوسع في مقالاتنا حول التأصيل التيمي التي أشرنا إليها، وبعضها سيأتي نقاشه في المقالة التالية.
[25] يراجع: قراءتنا النقدية لتأصيلات ابن تيمية التي أشرنا إليها، وكذلك مقالتنا: «القول بانحصار توظيف المرويّات الإسرائيلية في القصص وعدم دخولها في العقائد والأحكام؛ قراءة نقديّة»، وقد تتبَّعْنا فيها أحد أشهر النتائج التي تم القول بها لتحييد أثر المنطلق النقلي وبينّا ما بها من إشكالات. وهي مقالات منشورة على موقع تفسير.