عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 02-05-2021, 12:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي دائرة التصرفات بين الضبط والانفلات

دائرة التصرفات بين الضبط والانفلات (1/3)




حواء بنت جابو آل جدة






تمرّ بنا مواقفُ اجتهادية كثيرة جدًّا مختلفةُ الأصعدة من الشخصية إلى العالمية، تقتضي منا تصرفاتٍ إزاءَها، أو موقفًا منها... سواء كانت صادرة منّا أو من غيرنا... ولما كانت ثمّة تصرفات كثيرة تؤدي إلى نتائج مضرة -لأنها بنيت على اجتهادات لا تُعنى بضبطها باعتبار البواعث لها، والمآلات التي تنتهي إليها- نتج عن ذلك ما نرى من انفلات في كثير من التصرفات..



ومن ذلك ما يُثار مجدّدًا في مسألة المرأة وحقوقها، وحصر ذلك وحشره في مسائل كقيادة سيارة أو سفر دون محرم أو ممارسة رياضة.. ونحو ذلك.


ولعل هذا الوتر -حقوق المرأة- حسّاس جدًّا لدينا -معشر النساء- فقد يقع الاغترار وعدم تفريق بعضنا بين ما هو حق لنا ينبغي أن نحصل عليه ونناله، وبين ما هو حق صوريٌّ –إن صحّ التعبير– يراد لنا أو يؤدي لزومًا إلى نتائج غير محمودة أبدًا بالمجتمع.


ولوضع قواعد ضابطة لا تغتر بالتمثّل الصوري للممارسات والتصرفات إلا في دائرة محدودة جدًّا بعيدة عن التشهّي وغلواء الأهواء؛ أردتُ استجلاء تلك القواعد مما تقرَّر في شرعنا الحنيف، أو مما أسَّسه نظّار المجتهدين... حتى نستطيع ضبط تصرفاتنا إزاء المطالبة بهذه الحقوق، ونتمكن من الحكم على تصرفات غيرنا ودعواتهم المتزايدة لحقوقنا، بطريقة أكثر دقة وصحّة، مما يؤدي -بإذن الله تعالى- إلى ضبط تلك التصرفات، ومنع مظاهر الانفلات التي تُرى.


وعند الحديث عن ضبط دائرة التصرفات الاجتهادية فإنه سيتركز حول مسألتين وهما: منشأ التصرف وباعثه، ومآل التصرف وغايته. وبينهما أمور لابد أن تراعى...


إن رعاية الباعث تمثّل نزعة ذاتية يراقب الفرد من خلالها نفسَه ليجنّب تصرفاتِه اختلالَ منشأ الأفعال والممارسات، وليستطيع أن يقترب من التقدير الصائب لتصرفات غيره عن طريق التوقع المؤيد بالقرائن.. هذه الرعاية التي ينتج عنها ضبط التصرفات الاجتهادية مهم تأصيلُها وبيان مفهومها..


والمقصود بالباعث هنا هو النية، وهي الدافع النفسي الذي يحرك إرادة المنشِئ للتصرف[1].


أما الأصل في رعاية الباعث فنصوص كثيرة جدًّا، من أقواها دلالة ما رواه البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا أَيُّهَا الناس إنما الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّة، َوإِنَّمَا لِامْرِئٍ ما نَوَى؛ فَمَنْ كانت هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ وَرَسُولِه، فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ وَرَسُولِه. وَمَنْ هَاجَرَ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليه"[2].


هذا الحديث ذكره البخاري -رحمه الله- في أول كتاب الحيل، وهذا من سعة فقهه ودقة استنباطه -رحمه الله-.


قال بن المنيّر -رحمه الله تعالى- : "اتسع البخاري في الاستنباط، والمشهور عند النظّار حمل الحديث على العبادات، فحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكا في القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد. والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع وإبطال التحيل من أقوى الأدلة، ووجه التعميم أن المحذوف المقدر: (الاعتبار)؛ فمعنى الاعتبار في العبادات: إجزاؤها وبيان مراتبها. وفي المعاملات وكذلك الأيمان؛ الرد إلى القصد"[3].


فلو عرض للفرد موقف فإنه يجعل رعاية الباعث مفتاح الخيار للتصرفات التي يمكنه اتخاذها إزاء الموقف، وهذا ما يجعل الإنسان يعفو عند المقدرة، ويتوقف عن العتاب أو العقاب عند التيقن من سلامة باعث المخطئ.. ونحو ذلك.


ويتفرع عليه عدم الاغترار بالقالات أو الأعمال التي منشؤها مظنة النيات غير الشريفة، خاصة من متبنّي الاتجاهات المشبوهة، الداعين إلى المراتع الموبوءة... وهكذا من اجتمع عليه ضعف الوازع الخُلقي، مع أمن العقاب والمؤاخذة، فإنه مظنة نشوء النيات السيئة... ولأجله حكم بتوريث المطلقة في المرض المخوف؛ لأنه مظنة أن يكون الباعث عليه إرادة حرمان الزوجة من الميراث...


ومثله ما نقرأ ونسمع من بعض التصريحات والأنباء التي فيها دعوة لاختلاط المرأة مع الرجال وفق ضوابط الشريعة!، أو الإشادة بالأندية الرياضية النسوية المحلية الخاصة وفق الضوابط الشرعية!، ومن ثَمّ الدعوة إلى مشاركة المرأة في المحافل الرياضية العالمية وتمثيل البلاد فيها وفق الضوابط الشرعية!؛ فإنها كلها دعوات فيها مظنّة باعث السوء على ما تقرر سابقًا.


ولو قال قائل: كيف تحكمون على أصحاب تلك الدعوات بأن باعثهم سوء، والمتقرر أن أمر النيات إلى الله -جلّ وعلا-؟!


فنقول: حقيقةٌ أن الأصل هو كون النيات والبواطن يفوض أمرها إلى الله سبحانه؛ فهو وحده المطلع على خفيّاتها ودخائلها، وما يهجس في قلوب أصحابها من خير أو شر، غير أنَّ هناك أصلا أعظم منه، وهو حفظ المقاصد الكبرى التي يتوقف عليها إصلاح الأفراد والمجتمعات؛ فإن ممارسة الحقوق والحريات أصبحت مرتهنة بمدى تحقيقها للمصلحة المرادة من إطلاق المشروعية لتلك الحقوق والحريات[4].


لهذا كان البناء على ما تمليه المقاصد والبواعث أمرًا متعيّنًا سواء في ضبط تصرفاتنا، أو تقييم تصرفات غيرنا..

ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الدريني: نظرية التعسف في استعمال الحق (196).
[2] كِتَاب الْحِيَلِ،بَاب في تَرْكِ الْحِيَلِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى في الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا، رقم الحديث ( 6953).
[3] فتح الباري (14/342).
[4] اعتبار المآلات للسنوسي (219) بمعناه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.16 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.17%)]