وسائل الإعلام
الرائي (التلفزيون)
د. فهمي قطب الدين النجار
ولكن ما نوع هذه التأثيرات على المُشاهِد؟
لقد أكَّد العلماء والاختصاصيون في الإعلام أن للرائي مجموعة من التأثيرات، وليس تأثيرًا واحدًا، وكلها خطرة جدًّا على الكائن البشَري وعلى المُجتمَع، وهي تأثيرات فكرية وفسيولوجية واجتماعية واقتصادية وسياسيَّة[1].
أما تأثيره الفكري، فهو يُحدِّد ويَحصُر المعرفة الإنسانية، ويُغيِّر الطريقة التي يحصل بها الإنسان على معلوماته من العالم، وبدلاً من توفيرها لمعلومات طبيعيَّة متعدِّدة المصادر والأبعاد من مطالعة ودرس للكتاب، ومُشاهدة للطبيعة، وتَجرِبة واقعية، ومُحاوَرة مع أهل العلم والمعرفة، وغيرها من الوسائل، نجد الرائي يَحصُر العلم بناحية ضيقة داخل قنواته القاسيَة، وحسب ما يرغَب به معد البرنامج من عرض أنواع مُعيَّنة من المعلومات، وبسببه نعتقد أننا نعلم كثيرًا، ولكنَّنا بالعكس من ذلك لا نُحصِّل إلا معلومات أقل من أي وسيلة أخرى.
والرائي أيضًا يُحوِّل العقل الواعي عند الإنسان إلى عقل يُقادُ وكأنه مُنوَّمٌ مغناطيسيًّا، فيَصُبُّ فيه الرائي ما يريد من معلومات، فهو إذًا آلة لغسيل الدماغ وملئه بالمعلومات التي ترغَب بها الهيئة أو السلطة المسيطِرة عليه.
• ويَعقِد (جيري ماندر)، وهو أحد الاختصاصيِّين الإعلاميِّين ومؤلف كتاب "أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون"، مقارنةً بين تلقي العلم من الكتاب وتلقي العلم من الرائي "التلفزيون"، فيقول: "وقراءة الكتب توفِّر نوعًا من التلقين الاسترجاعي أيضًا، إن الكلمات التي تقرؤها لا تُصَبُّ داخلك بعكس الصور والخيالات - الصادرة من الرائي - والسرعة يتحكَّم فيها القارئ وليس الكتاب، وعندما تقرأ فإنك تَقدِر على استرجاع ما قرأته، والتوقُّف للتفكير، وأخذ المهم، كل هذا يُوسِّع الوعي والانتباه للمادة المقروءة، ويبقى أمر اختيار المعلومات التي تبغي إبقاءها في عقلك الواعي راجعًا لك وحدك.
ويُصادِف في كثير من الأحيان أن نقرأ فقرةً من كتاب، ثم نُدرك أنا لم نَستوعِب شيئًا منها، وهذا يتطلَّب الرجوع ثانيةً إلى قراءة هذه الفقرة بتركيز أكبَر، إن الكلمات لا تَعني شيئًا للقارئ ما لم يتمَّ هذا بمَجهود واعٍ، ومشاركة مُباشِرة، وسرعة شخصيَّة في القراءة.
أما الصور التلفزيونيَّة، فلا تتطلَّب شيئًا مِن هذا القَبيل، ولا تتطلَّب سوى إبقاء عينَيك مفتوحتين وهي تدخل - أي الصور - لتُسجَّل في ذاكرتك - سواء فكرت فيها أم لا، إنها تُصَبُّ داخلك كما يُصَب سائل في وعاء، والوعاء هو أنت، والتلفزيون هو الذي يقوم بالصبِّ، وفي النهاية لا يكون المُشاهد سوى وعاء استِقبال، ولا يكون التلفزيون ذلك الوسط الثقافي والاجتماعي الذي كنا نودُّه، بل آلة تَزرع الصورَ في عالم اللاوعي من العقل، ونحن نُصبِح مُرتبطين بالصور المتغيِّرة، التي لا نفعَل شيئًا حيالَها؛ لأنَّنا لا نستطيع ذلك ألبتَّة"[2].
• وإذا لم يستطِع الرائي غسلَ دماغ المُشاهِدين، فهو يتركُهم في حالة ضياع وارتِباك، وأقل قدرة على تمييز الواقعي من الخيالي، ويُشتِّت إحساسَهم بالوقت والمكان والتاريخ والطبيعة.
• وما يُقال هنا ليس خياليًّا أبدًا، وإنما هو أمر واقعيٌّ، شعَر به الكثير من مُشاهدي التلفزيون، في الولايات المتَّحدة الأمريكية، ونُدلِّل على ذلك بالرسائل التي وصلت لمؤلف كتاب "أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون" جيري ماندر، وهو إعلامي متخصِّص قضى خمسة عشر عامًا مدير دعاية وعلاقات عامة؛ لنستعرِض بعض العبارات التي وردت في هذه الرسائل حول التلفزيون وتأثيره:
(عند مُشاهَدة التلفزيون أشعر وكأنني مُنوَّم مغناطيسيًّا).
(إنه يَمتصُّ طاقتي).
(أشعر وكأنه يقوم بغسْل دماغي).
(أَشعُر كأنني نَبْتة وأنا جالس تُجاه التلفزيون).
(إن التلفزيون يُبعِدني عن واقعي كثيرًا).
(التلفزيون يُسبِّب الإدمان).
(إن أطفالي يبدون كالزومبيِّين عند مشاهدة التلفزيون (ويقصد بالزومبيِّين الذين في أجسامهم قوة خارقة تتحرَّك من خلالهم).
(إنه يُدمِّر عقلي).
(إن أولادي يَنتقِلون كأنهم في حُلْم بسبب التلفزيون).
(إنه يجعل الناس سُخَفاء).
(إنه يُحوِّل دماغي إلى شَتات).
(أشعر وكأنني مفتون بسِحره).
(إن التلفزيون يَستعمِر دماغي).
(كيف أستطيع إبعاد أطفالي عنه وإعادتهم للحياة)[3].
• أما التأثيرات الفسيولوجيَّة، فتتلخَّص بما أثبتَه العلماء بما لا يدع مجالاً للشك أن الضوء الداخلَ للجسم خلال العيون يؤثِّر في الخلايا، وليس هناك أدنى شكٍّ بأن التنوُّع في طَيف الضوء - كما هو حاصل في الضوء الصادر مِن التلفزيون - يؤثِّر في الخلايا، وليس هناك أدنى شكٍّ بأن الجُلوس أما التلفزيون والتحديق المُستمر بضوئه يؤثِّر في الخلايا بنفس الطريقة، وهناك دراسة للأطياف الضيِّقة للضوء التلفزيوني ونشوء السرَطان في الجِسم [4].
يتبع