الشعر العربي في تشاد جسر للتواصل العربي الإفريقي
حسب الله مهدي فضله
ثانيًا: التواصل مع دُول إفريقيَّة خاصَّة:
بالإضافة إلى الرابطة الإفريقيَّة العامة، هناك دول إفريقيَّة لها روابطُ خاصَّةٌ بالشعب التِّشادي، بعضها ناتج عن صِلات الجوار ووشائج القُربَى والتداخل الاجتماعي والإثني بين هذه البلاد، وبعضها ناتج عن صِلات وجدانية أفرزتها حياة الكفاح والنِّضال الثوريِّ ضد الغزو الاستعماريِّ، من مبدأ: (إن المصائب يجمعْنَ المُصابينَا)، وقد وَجدت هذه الأواصر المتنوعة أصداءَها في الشِّعر التِّشادي، ودبَّج الشعراء التِّشاديون قصائدَ عديدةً في تصوير تلك المشاعر التي تَربِطهم بتلك البُلدان.
فعندما كان نظام الفصل العنصري جاثمًا على صدر أبناء جنوب إفريقيا، وقف الشاعر التِّشادي منه موقف الإدانة والتنديد، واعتبره رمزًا للتواطؤ البغيض الذي تقف وراءه القُوَى الاستعمارية كلُّها؛ من أجل إذلال القارَّة السمراء واستغلال خيراتها وثرواتها؛ ولذلك فقد شَهَر الشاعر عباس عبدالواحد هذا التواطؤَ الغربيَّ كدليل على النوايا الاستعمارية المُبيَّتة تُجاهَ هذه القارَّة.
فقال في قصيدته التي اقتطفنا جزءًا من أبياتها فيما سبق صفحة سابقة [18]:
شَعْبُ إِفْرِيقِيَّا الْمُنَاضِلُ يَبْقَى فِي كِفَاحٍ وَغَارَةٍ شَعْوَاءِِ
ضِدَّ مُسْتَوْطِنٍ طَغَى سَامَهُ الْخَسْ فَ بِعُنْفٍ وَقَسْوَةٍ وَجَفَاءِ
ضِدَّ تَمْيِيزِهِ الْمُشِينِ وَمَا حَا كَ لَهُ مِنْ مَخَاطِرٍ وَشَقَاءِ
كَمْ رَأَى لِلْمُسْتَوْطِنِينَ عُيُونًا سَكِرَتْ بِالْغُرُورِ وَالْخُيَلاءِ
كَيْفَ تَرْجُو دَوَاءَ دَائِكَ مِمَّنْ هُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ الْأَدْوَاءِ
فَمِنَ الْجُبْنِ أَنْ نُحَابِيهُ أَوْ نُصْ غِي لِتِلْكَ الْمَشَاعِرِ الْجَوْفَاءِ
بَلْ عَلَيْنَا الْمُضِيَّ فِي السَّيْرِ وَالْمَطْ لَبِ عَبْرَ الْمَعَالَمِ الْوَضَّاءِ
وَحْدَةُ الصَّفِّ وَحْدَةُ الْقَوْلِ وَالْخُطْ طَةِ حَالاً وَوَحْدَةُ الآرَاءِ
فَالنِّزَاعَاتُ وَالتَّنَاحُرُ لا تَخْ دُمُ إِلاَّ مَصَالِحَ الْأَعْدَاءِ
إلى أن يقول مخاطِبًا ابنَ إفريقيا:
فَلِإِفْرِيقِيَّا عَلَيْكَ دُيونٌ أَدِّ عَنْ حَقِّهَا بِكُلِّ وَفَاءِ
كَي يَصِيرَ الْجَنُوبُ حُرًّا طَلِيقًا بَعْدَ أَنْ كَانَ خَافَتَ الْأَصْدَاءِ
كَيْفَ تَرْجُو دَوَاءَ دَائِكَ مِمَّنْ هُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ الْأَدْوَاءِ
إِنْ يَكُنْ مَا يَقُولُهُ الْيَوْمَ حَقًّا عَنْ قَضَايَا إِفْرِيقِيَا السَّوْدَاءِ
فَلِمَاذَا وَمَا الْمُبَرِّرُ فِي دَعْ مِ نِظَامِ الْجَنُوبِ بِالْإِيوَاءِ؟!
فَمِنَ الْجُبْنِ أَنْ نُحَابِيهُ أَوْ نُصْ غِي لِتِلْكَ الْمَشَاعِرِ الْجَوْفَاءِ
وبَيْنما كان الشاعر الثائر عيسى عبدالله يخوض غِمار المعارك في الغابات التِّشادية ضِدَّ النظام الذي يعتبره عميلاً للاستعمار، تناهت إلى مسامعه أنباء الثورة المشتعلة في المستعمرات البُرتغالية بإفريقيا في موزمبيق وبيساو، للتَّخلُص من نِيرِ الاستعمار، فلم تشغله معارُكه الميدانيَّة الماثلة أمامَه عن التفاعل مع رفاق دَربِه الذين لم يَلتقِ بهم في أرض الواقع، لكن كان هناك خيط وجدانيٌّ يَشُدُّه نحوَهم ويؤصل للأخوة الثورية التي تربِط بينهم، باعتبارهم أصحابَ قضيَّة واحدة، في قارَّة واحدة، ضد عدو واحد، فسارعَ إلى كتابة هذه القصيدة التي يُحيِّيهم بها فيقول [19]:
تَأَجَّجِي تَلَهَّبِي،
أَيَا نِيرَانَ ثُوَّارٍ سَعَوْا فِي الْأَرْضْ
فَتَوِّجِي وَقَبِّبي
جَمِيعَ الْغَابِ فِي بِيسَاوَ كَيْ يَنْهَضْ
لِكَيْ تَسْتَشْرِفَ الْأَبْصَارُ قَوْسَ النَّصْرِ يَوْمَ الْعَرْضْ
وَعَرِّجِي لِتَذْهَبِي
جَنُوبًا حَيْثُ أَنْقُولَا دُجَاهَا صَارَ أَيْضًا عَارِمًا بِالْوَمْضْ
فَدَحْرِجِي لِمَغْرِبِ
قُوَى الْمُسْتَعْمِرِ الْبَاغِي، وَحُولِي بَيْنَهُ وَالْغُمْضْ
لِئَلَّا يُعْطِيَ الْإِجْلَاءَ عَنْهَا غَيْرَ حُكْمِ الْفَرْضْ
وتَنداح دائرة التفاعُل الثوريِّ عند الشاعر عيسى عبدالله ، لتشملَ كُلَّ الحركات التحررية الثورية في جميع أجزاء القارَّة الإفريقيَّة شرقًا وغربًا، فهو يقف في صفِّ كل شعب إفريقي يسعى لاسترداد حقوقه المشروعة، مهما كانت طبيعة المعتدي الذي يحاول استلاب هذه الحقوق.
ولذلك نجده يُحيِّي الثورة الإريترية، في قصيدة له بعنوان (يا أسمرا) يقول فيها [20]:
يَا أَسْمُرَا
يَا قَرْيَةً جَمِيلَةً.. يَا أَجْمَلَ الْقُرَى
يَا مَهْبِطَ الرَّبِيعِ.. بَلْ يَا جَنَّةَ الذُّرَى
إِلَيْكِ - يَا جَمِيلَتِي - أُقَدِّمُ السَّلَامْ
مِنْ بُقْعَةٍ شَقِيقَةٍ أُسَطِّرُ السَّلَامْ
أَخُطُّ أَسْطُرًا
فِي صَفْحَةٍ قَدْ سُوِّدَتْ مِنْ أَبْلَغِ الْكَلَامْ
مُسْتَفْهِمًا بِجُمْلَةٍ تَلِيقُ فِي الْمَقَامْ
بِجُمْلَةٍ يَا أَسْمُرَا
كَأَنَّها صَارُوخُ "سَامْ ":
(مَن ظَنَّنَا بِضَاعَةً بِالْمَالِ تُشتَرَى؟!)
فَأَصْبَحَ السُّؤَالُ إِذْ سَرَى
أُنْشُودَةَ الْوَرَى
عَرِيضَةَ اتِّهَامْ
فِي وَجْهِ مَنْ يَرَى
تِلَالَكِ الْأَبِيَّةَ الشَّمَّاءَ لُقْمَةً تُرَامْ
فِي حُلْمِهِ الْحَرَامْ
ونقفِز مع الشاعر التِّشادي عيسى عبدالله قفزة طويلة من شرق القارَّة الإفريقيَّة إلى غربها، وتحديدًا إلى جمهوريَّة بوركينا فاسو، لكن قيثارته الشِّعريَّة - هذه المَرَّةَ - باتت تشدو بلحن حزين، وتوقع أنغامًا شجِيَّةً، مشاطِرَةً الشعبَ البوركينيَّ أحزانَه على فِراق قائده الملهم (توما سانكرا)، الذي فجعت الشعوب الإفريقيَّة برحيله المفاجئ، بعد أن كانت ترى في شخصه رمزًا للإرادة السياسيَّة المتحررة من قيود التبعية الذليلة للاستعمار، فتدفق الشعر من قيثارة الشاعر حزينًا ساخنًا كتدفق دموع العاصمة البوركينية (واقادقو) [21]:
دَمْعُ وَاقَادُقُو لَمْ يَزَلْ دَافِقًا مِثْلَ سَيْلٍ جَرَى
فَهِيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَرَى
ذِكْرَيَاتٍ غَدَتْ مِنْ أَسَاطِيرِ مَأْسَاتِهَا أَسْطُرًا
فِي الصَّبَاحِ الْمُوَشَّى خُيُوطًا سَمَاوِيَّةَ اللُّمَعِ فِي مِثْلِ لَوْنِ الذَّهَبْ
أَسْطُرًا:
عِنْدَ مَرِّ الْمَسَاءِ الْأَثِيرِيِّ، أَوْ عِنْدَمَا يَسْتَحِيلُ الْكَرَى
حِينَ تَشْكُو غِيابَ الْمَثِيلِ الْمُجَارِي - عَلَى الْأَرْضِ - تِلْكَ الشُّهُبْ
عَيْنُ وَاقَا أَوَانَئِذٍ لَا تَرَى مَارِدًا مِنْ أَسَاطِيرِهَا يَلْتَهِبْ
بَلْ تَرَى وَجْه قِدِّيسٍ إِذْ وُجُوهُ النَّبِيِّينَ لَا تُنتَحَلْ
فَتُنَادِي شَرَايِينَهَا فِي انْعِكَاسٍ لِنَبْضِ الْقُلُوبِ الَّتِي رَدَّدَتْ، لَمْ تَهَبْ:
سُنْكَرَا! سُنْكَرَا!
يَا ابْنَ إِفِرِيقِيَا! سُنْكَرَا!
يَا مُنَادًى إِلَى قِمَّةِ الْخَالِدِينَ الَّتِي تَلْتَقِي فِي زُحَلْ
يَا سَلِيلَ الْمغنينَ لِلشَّمْسِ، يَا سُنْكَرَا!
غَيْرَ أَنَّ الْمُنَادَى ارْتَحَلْ
فَاسْتَقَرَّتْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِ، حَوْلَ (وَاقَا) سَنِيُّ الْمَحَلْ
وَالْجَفَافُ اعْتَرَى
جُلَّ مَا كَانَ مُخْضَوْضِرًا
ونعود مِن تِطوافنا في أرجاء القارَّة الإفريقيَّة إلى دول الجِوار، حيث تتلاحم المشاعر، وتتشابك الأواصر، وتتلاشى الحواجز، فيغدو التواصل متعةً رُوحيَّةً، وسياحةً بدنية يندفع فيها الشاعر بكل كِيانه وجوارحه فيشدو مخاطِبًا عاصمةَ دولة (النيجر)[22]:
نِيَامِي، نَحْوَكِ انْطَلَقَ الْفُؤَادُ يُسَابِقُنِي، مَطِيَّتُهُ الوِدَادُ
يُوَدِّعُني بِخَفْقٍ ثُمَّ يَسْرِي بِأَجْنِحَةٍ لَهَا تُطْوَى الْبِلادُ
بِهِ شَوْقٌ إِلَيْكِ وَقَدْ رَآنِي بَطِيئًا إِذْ تُجَاذِبُني الوِهادُ
فَحَلَّقَ نَحْوَ أُفْقِكِ هاتِفًا بِي كَفَى زَحْفًا، فَقَدْ أَضْنَى الْبُعَادُ
إلى أن يقول:
وَمَا فِي غَيْرِ وَحْدَتِنَا سَبِيلٌ بِهِ المَجْدُ المُؤَثَّلُ يُسْتَعَادُ
إِذَا مَا (نَيْجَرٌ) نُكِبَتْ بجُرْحٍ فَمِنْ دَمِهَا تَجُودُ لَهَا (تِشَادُ)
فهذه مقتطفات سريعة من رِياض الشِّعر العربيِّ في تِشاد، تُبرز تلاحمَ هذا الشِّعر مع القضايا الإفريقيَّة، وانشغال الشاعر التِّشادي بهموم قارته، والتَّغَنِّي بآلامها وآمالها، والإشادة ببطولاتها وأمجادها، والتطلع إلى نهضتها وببناء مستقبلها.
وإن هذه المشاعرَ الجيَّاشة التي تتدفق من قلوب هؤلاء الشعراء بلسانهم العربي المبين - وهم جزء أصيل لا يتجزأ من أبناء هذه القارَّة المِعطاء - لِتقدِّمَ لنا أقوى دليل على أن اللغة العربيَّة تمثل عنصرًا من عناصر التواصل الإفريقي، وأداة من أدوات الإبداع الفني الذي ينبغي أن تعتز به هذه القارَّة، وأن تواجه به كلَّ المحاولات المغرضة التي تحاول أن تَدُّق إسفين الفرقة والتمزُّق بين أبناء هذه القارَّة، وتُوهِم بعضَهم بأن اللغة العربيَّة وما تحمله من ثقافة وفكر إسلامِيَّيْنِ، ما هي إلا لغة أجنبية أو غازية ، يحاول أصحابها القضاء على الثقافات المحلية وإقصاء أصحابها، كما تفعل الثقافات الأخرى التي تمارس مثل هذا النوع من الهيمنة والإقصاء للآخرين، ولكنْ هيهاتَ!
مَا الضَّادُ جِنسٌ وَلَا أَرْضٌ يُحَدُّ لَهَا وَإِنَّما هِيَ لفظٌ واسِعٌ عَمَمُ
مَن قَالَهَا عُدَّ مِنْ أَغْصَانِ دَوْحَتِها نَمَّاهُ زِنْجٌ أَمِ الْيُونَانُ وَالْعَجَمُ
أَمْ ضَمَّهُ البحرُ أَمْ فِي الْبَرِّ مَسْكَنُهُ أَمْ كَانَ بِالْقُطْبِ يَفْرِي الدُّبَّ يلتَهِمُ
سَلْمَانُ[23] صَارَ بِها قُحًّا، لَهُ نَسَبٌ لِلْبَيْتِ، تَنْهَلُ مِنْ أَقْوالِهِ الْأُمَمُ
وابنُ المُقَفَّعِ أَمْسَى مِن أئمَّتِها مَا قِيلَ:"تَبْرَأُ مِنْكَ الْعُرْبُ" إِذْ هَجَمُوا
الفصل الثَّاني
التواصل مع القضايا العربيَّة في الشِّعر التِّشاديِّ
تحتلُّ الدول العربيَّة مكانةً كبيرة في وجدان الشعب التِّشادي؛ نظرًا للعلاقات الوثيقة التي تربط هذا الشعب بأشقِّائِه من أبناء الدول العربيَّة، ويأتي على رأس هذه العَلاقات والوَشائج عَلاقةُ الدِّين الإسلامي الذي تدين به غالبية الشعب التِّشادي، إضافةً إلى رابطة الدَّم التي تربط قِطاعًا عريضًا من المواطنين بأبناء الدول العربيَّة؛ نظرًا لوجود عدد كبير من القبائل العربيَّة الأصيلة ضمن التركيبة الاجتماعية للشعب التِّشادي، إلى غير ذلك من العلاقات التاريخيَّة والثقافيَّة والحضاريَّة.
ومن هنا فقد اهتمَّ الشعراء التِّشاديون بهذا الجانب، وعبَّروا عن مشاعرهم ورغبتهم في توثيق عُرى التواصل والمحبة بين بلادهم والبلاد العربيَّة الأخرى، في شتى المناسبات والمواقف، ووجدتْ جُلُّ القضايا العربيَّة أصداءَها في وجدان هؤلاء الشعراء، وتفاعلوا معها بكل أحاسيسهم، فانهمرت في قوالبَ شعريَّةٍ قد تقل روعةً وعاطفةً عن كثير من القصائد التي يسطرها إخوانهم في تلك البلاد العربيَّة المعنِيَّة بهذه القضايا.
فالشاعر عبدالله يونس المجبري ينتهز فرصة زيارة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود عاهل المملكة العربيَّة السعودية إلى جمهوريَّة تِشاد عام 1972 م، فيعبر عن فرحة الشعب التِّشادي بهذه الزيارة، باعتبارها مَظْهرًا للتواصل بينهم وبين أبناء الدول العربيَّة خاصةً، وأنه أكبر زعيم عربي يزور البلاد في تلك الفترة، فكتب الشاعر المجبري قصيدة بهذه المناسبة عنوانها: (تحية المستهام في مدح الفيصل المقدام) يقول فيها [من البسيط][24]:
تَظَاهَرَ "الشَّادُ" في أَثوابِه القُشُبِ مُرَحِّبًا بِلِقَاءِ الْعَاهِلِ الْعَرَبِي
يُعِدُّ مِنْ أَبْرَزِ الْأَيَّامِ قَاطِبَةً لِزَائِرٍ جَاءَ بِالتَّرْحِيبِ مُرْتَقَبِ
فَيَا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِالْعَزِيزِ فَتًى يَمْتَازُ فِي مُلْكِهِ مِنْ أَنْجَبِ النُّجُبِ
كَأَنَّهُمْ حِينَمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ يَسْتَقْبِلُونَ مَلِيكًا ظَافِرًا وَأَبِي
وَأَنَّهُمْ حِينَمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ يَسْتَقْبِلُونَ رَبِيعًا نَاعِمًا خَصِبِ
وعندما انتصر الجيش المِصريُّ على قوات الاحتلال الإسرائيليِّ في حرب قناة السويس، وحطَّم خط بارليف الشهير في العاشر من رمضان 1393 الموافق 6 أكتوبر 1973 م - اهتزَّ الشاعر التِّشادي عباس محمد عبدالواحد بهذا النصر الخالد، وسطَّر قصيدة حماسيَّة يُحيي فيها الشعب المصريَّ وجنوده البواسل على هذا الإنجاز الكبير الذي أعاد للأُمَّة العربيَّة والإسلامية هيبتَها وعِزَّتَها، فقال من قصيدة له بعنوان (معركة العبور)[25]:
يَا أَرْضَ مِصْرَ عَلَى رُبَاكِ سَلامُ عَادَتْ بِمَجْدِ رُبُوعِكِ الْأَيَّامُ
مَجْدٌ عَلَى الْأَمْجَادِ يَعْلُو قَدْرُهَا وَلَدَيْكِ مِنْهُ قِلَادَةٌ وَوِسَامُ
دَاسَتْهُ أَقْدَامُ الغُزَاةِ هَنِيئَةً هُزِمَ الْغُزَاةُ وَزَالَتِ الْأَقْدَامُ
عَبَرَ الْقَنَاةَ جُيوشُكِ الْعُظْمَى وَقَدْ زُرِعَتْ عَلَى طُولِ الْقَنَا أَلْغَامُ
فِي كُلِّ شِبْرٍ ذُو سِلَاحٍ هَائِلٍ يَجْثُو وَهَذَا مِدْفَعٌ هَدَّامُ
وَهُنَاكَ خَطٌّ لِلْهُجُومِ مُرَسَّخِ حِصْنٌ بِجَيْشِ الْمُجْرِمِينَ مُقَامُ
هُوَ خَطُّ بَارْلِيفَ الَّذِي اعْتَصَمَتْ بِهِ زُمَرُ الْعَدُوِّ وَقَدْ مَضَتْ أَعْوَامُ
وَغَدَتْ تُصرِّحُ أَنَّ كُلَّ جَرَاءَةٍ عَبْرَ الْقَنَاةِ لِجَيْشِ مِصْرَ حَرَامُ!
هُزِمَ الْعَدُوُّ وَلَمْ يَكَنْ لِسِلَاحِهِ أَثَرٌ وَلَا لِهُجُومِهِ إِرْغَامُ
فَتَحَقَّقَتْ أَعْمَالُ مَا نَرْجُوهُ مِنْ قُوَّادِنَا وَتَحَقَّقَتْ أَحْلَامُ
نَصْرٌ عَظِيمٌ لِلْعُرُوبَةِ بَعْدَمَا ظَنَّ الْيَهُودُ بَأَنَّهُ أَوْهَامُ
حَقَّقْتَ يَا جُنْدِيَّ مِصْرَ عَلَى الْوَرَى عَمَلاً تَقَاعَسَ دُونَهُ الضِّرْغَامُ
أَظْهَرْتَ عَنْ سِرِّ السِّيَاسَةِ آيَةً نِعْمَ الْجَرَاءَةُ مِنْكَ وَالْإِقْدَامُ
فَتَحَرَّرَتْ "سَيْنَاءُ" عَنْ يَدِ غَاصِبٍ وَغَدَتْ تُرَفْرِفُ فَوْقَهَا الْأَعْلَامُ
وعِندما تعرَّضت الجماهيريَّة اللِّيبية للحصار المفروض عليها من الدول الغربية، سارع كثير من الشعراء التِّشاديين إلى استنكار هذا الموقف، والتنديد بهذه الضغوطات التي يتعرض لها أحد الشعوب العربيَّة.
ويمتد تواصل الشعراء التِّشاديين مع العالم العربي إلى بلاد الشام، وتحديدًا الجمهوريَّة العربيَّة السُّورية، حيث نجد الشاعر الدكتور محمد عمر الفال الذي تَلقَّى جزءًا من تعليمه في رحاب هذا البلد العريق يحفظ الود والعِرفان لهذا الشعب.
أما الشاعر عبدالواحد حسن السنوسي، فيُشيد بالتواصل مع الدول العربيَّة، مؤكِّدًا على روابط الدِّين واللُّغة والثقافة والحضارة التي تجمع الشعب التِّشادي بأشقائه في الأمة العربيَّة الإسلامية، فيقول[26]:
إِنَّما تَجْمَعُنَا أَقْدَارُنَا مِثْلَمَا يَجْمَعُنَا مَاضٍ غَبَرْ
كُلُّنَا فِي الضَّادِ شَرْقٌ وَاحِدٌ دَرْبُنَا "صَنْعَا" وَإِنْ طَالَ السَّفَرْ
أمَّا القضيَّة العربيَّة الأولى التي لاقت اهتمامًا منقطع النظير لدى الشعراء التِّشاديِّين، فهي القضية الفلسطينية التي تفاعل معها هؤلاء الشعراء، ويعتبر تناول الشعراء التِّشاديين لموضوع القضية الفلسطينيَّة امتدادًا لموقفهم من التواصل، انطلاقًا من إيمانهم بأن فلسطين هي قضية العرب والمسلمين الأولى، وأن التهاون في شأنها جريمةٌ في حق الإسلام والمسلمين، كما أنها تمثل في نظرهم رمزًا لازدواجية المعايير التي تتعامل بها الدول الغربية مع كثير من قضايا الشعوب المستضعفة في العالم.
فقد شارك الشعراء التِّشاديون في الدِّفاع عن فلسطين والمسجد الأقصى، وسطَّروا قصائدَ كثيرةً، حَيَّوْا فيها المجاهدين من أجل تحرير المسجد الأقصى، وندَّدوا بالجرائم التي يرتكبها الصهاينة في حق الشعب الفلسطيني، كما أدانوا مواقف التخاذل والاستسلام التي ظهرت من الزعماء العرب والمسلمين الذين لم يبذلوا جهودهم الكاملة من أجل القضية الفلسطينية، ولم يعملوا على توحيد صفوفهم، وإعداد العُدَّة الكافية لاسترجاع هذا الحق السليب.
ومن أوائل الشعراء التِّشاديين الذين كتبوا عن القضية الفلسطينية: الشاعر عبدالله يونس المجبري الذي كتب قصيدة بعنوان (نداء فلسطين إلى أبنائها المشردين) عام 1967 م يقول فيها[27]:
تَدْعُو بَنِي الْوَطَنِ الْكِرَامِ نِدَاءَهَا شَوْقًا يَهِزُّ حَنِينُهَا أَرْجَاءَهَا
كَحَنِينِ ثَاكِلَةِ الْجَنِينِ مُرِيعَةً تَبْكِي الرُّبُوعُ لِفَقْدِهَا أَبْنَاءَهَا
ذَرَفَتْ فِلَسْطِينُ الدُّمَوعَ غَزِيرَةً تَصِفُ الْوُجُودَ لِهَوْلِ مَا قَدْ سَاءَهَا
كُنَّا نُحَاذِرُ أَنْ تَظَلَّ صَرِيعَةً وَالْقُدْسُ نَادِبَةٌ يَهِيجُ رِثَاءَهَا
فَإِذَا بَنُو الْعُرْبِ الْكِرَامِ مُجِيبَةٌ لَبَّيْكِ فِينَا لَا يُخِيبُ رَجَاءَهَا
ويتأسَّف الشاعر عيسى عبدالله على الحال التي وصلت إليها القضية الفلسطينية، وغياب البطل المُحرِّر الذي يعيد أمجادَ صلاح الدِّين الأيوبيِّ ويسترجع القدس الشريف، فيقول[28]:
أمَّا صَلَاحُ الدِّينِ فَالسُّوَّاحُ قَدْ بَاعُوهُ مِن سَادَاتِ الْحِمَى
تَعْوِيَذَةً ضِدَّ الْحَسَدِ
إِذْ كَانَ مُلَقًى فِي أَرِيحا شِلْوَ تِمْثَالٍ هَوَى
مُسْتَرْجِعًا عَهْدَ البُطُولَاتِ الَّذِي وَلَّى وَرَاحَ
حَتَّى شَرَاهُ الْآلُ بِالدُّولَارِ بَخْسًا (وَفْقَ آلِيَّاتِ سُوقِ الْإنْفِتَاحِ!)..
مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا كَسَدْ
ويقف الشاعر عبدالواحد حسن السُّنوسي مُؤنِّبًا الضميرَ العالميَّ على تجاهل المأساة الفلسطينية، وموقف القُوَى العُظمى التي وهبت ما لا تملك لمن لا يستحق، كما يصور المآسي الأليمة التي عاناها الشعب الفلسطيني مِن قتل وتشريد وغير ذلك، فيقول في قصيدته التي جعلها بعنوان (قصة الضمير)[29]:
أَتَانِي الضَّمِيرُ يَجُرُّ أَذْيَالاً طَويلةً فِي ذَاتِ لَيْلَةٍ
وَرَاحَ يَقُصُّ عَلَيَّ قِصَّةً جَلِيلَةً.. جَلِيلَةً.. جَلِيلَةً..
* * *
رَاحَ يَحْكِي قِصَّةَ الْيَهُودِ فِي أَرْضِ التُّرَاعْ
مَوْطِنُ الْأَقْصَى الَّذِي عَانَى التَّهَوُّدَ وَالضَّيَاعْ
رَاحَ يَحْكِي قِصَّةَ الْيَهُودِ جَاؤُوا تَحْتَ أَلْفِ بُرْقُعٍ وَملْيُونِ قِنَاعْ
رَاحَ يَحْكِي ذَاكِرًا فِكْرَةَ صِهْيَوْنَ الَّتِي كَانَتْ سَفِينَةَ مُبْتَغَاهُمْ وَالشِّرَاعْ
رَاحَ يَحْكِي كَيْفَ بَاعَ الْبَعْضُ أَنْفُسَهُمْ فَمَاعَ الْأَمْرُ وَاخْتَلَطَ الصِّرَاعْ
رَاحَ يَحْكِي قِصَّةَ التَّشْرِيدِ وَالتَّزْوِيرِ وَالْعَسْفِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ وَصْفَهُ الْيَراعْ
رَاحَ يَحْكِي كَمْ مِنَ الْأَطْفَالِ شَارِدِينَ فِي الْخِيامِ فِي شَتَّى الْبِقَاعْ
رَاحَ يَحْكِي كَمْ حُفَاةٍ كَمْ عُرَاةٍ تَحْتَ أَكْوَاخِ الصَّفِيحِ كَمْ جِيَاعْ
رَاحَ يَحْكِي كَمْ مِنَ الْآمَالِ أَضْحَتْ فِي خَلَايَاهَا قَتِيلَةً، قَتِيلَةً، قَتِيلَةْ
رَاحَ يَحْكِي كَمْ طَرِيدٍ فَارَقَ الْأَرْضَ بِلَا أَدْنَى وَدَاعْ
رَاحَ يُحْصِي كَمْ شَبَابٍ ضَاعَ فِي دُجَى الْأَطْمَاعْ
رَاحَ يَحْكِي كَمْ أَمَانٍ مُسْتَحِيلَةْ
وَأَنْفُسٍ ذَلِيلَةً.. ذَلِيلَةً.. ذَلِيلَةْ..
وبالإضافة إلى القَضيَّة الفَلْسطينيَّة فقد مَثَّلت القضيَّة العراقيَّة جَرحًا جديدًا نازفًا في وجدان الأُمة العربيَّة والإسلامية، كما تفاعلت معها العديد من الشعوب الإفريقيَّة، التي وقفت من العدوان على الشعب العراقي موقف الاستنكار والتنديد، بغض النظر عن مواقفها تُجاه النظام الحاكم الذي كان يحكم العراق قَبل الغزو، والذي تختلف النظرة إليه بين رفض وتأييد.
وقد بدأت معالم الأزمة العراقية في الظهور مع نهاية حرب الخليج الثانية، التي شنَّتها مجموعة من الدول على العراق لإجباره على الرحيل عن الكويت، والاعتراف بسيادتها وكيانها المستقل.
وبغض النظر عن المواقف المختلفة التي وقفتها الشعوب الإسلامية عامة، والإفريقيَّة خاصة، تجاه هذه الأزمة، ما بين مُؤَيِّدٍ للعراق، ومُؤَيِّدٍ للكُوَيت، إلا أن الاتجاه العام لهذه المشكلة قد تحول -بعد التحرير- إلى معاقبة جماعية للشعب العراقيِّ وإذلاله، مِن خلال فرض الحصار الاقتصاديِّ الذي أدى إلى تجويع العراقيين وزيادة معاناتهم، مما أدى إلى إثارة الرأي العام العربيِّ والإفريقيِّ والإسلاميِّ للوقوف ضِدَّ هذه العقوبة الجماعية، والدعوة إلى رفع الحصار وتخفيف معاناة الشعب العراقيِّ.
لكِنَّ هذه المعاناةَ استمرت في تزايد وتصاعد حتى تحولت إلى اجتياح شامل واحتلال كامل للأراضي العراقية، مِن قِبَلِ قوات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، بسقوط العاصمة العراقية بغداد في قبضة الاحتلال في التاسع من أبريل 2003م، وما صاحب ذلك مِن مشاهدَ مُرَوِّعةٍ للدمار والتخريب الذي تَعرَّضت له العاصمة العراقية وغيرها من مدن العراق.
ولم يكنِ الشعراء التِّشاديون بعيدينَ عن هذه الأحداث، بل كانوا متابعينَ للأزمة العراقية منذ بداية نشأتها حتى بلغت ذرْوَتَها بوقوع الاحتلال، ونَظَمُوا كثيرًا مِنَ الأشعار في التنديد بما يتعرَّض له الشعب العراقي مِن عذاب ومعاناة، مناشدِينَ العالَمَ العربيَّ والإسلاميَّ والمجتمعَ الدَّوليَّ لرفع المحنة عن هذا الشعب، وتمكينه من تقرير مصيره وإدارة شؤون بلاده، والاستفادة من خيرات أرضه.
فالشاعر عيسى عبدالله في قصيدته (لحق الرضيعة) التي كتبها عام 2000 م، يصور المعاناة الأليمةَ للشَّعب العراقيِّ مِن جَرَّاء الحصار الاقتصادي، كما يناشد الأشقَّاءَ الكُوَيتيِّين في "السالمية " لعدم تحميل الشعب العراقي البائس وِزرَ الجريمة التي ارتكبها حاكمُه بحق الشعب الكويتي، فهي قصيدة مُناشَدَةٍ واسترحامٍ لتفريج الكَرْب عن الفئات الضعيفة من أبناء الشعب العراقي، حتى لا تكون ضحية لصراعات الحُكَّام ونزواتهم؛ فيقول[30]:
عَلَى بُعْدِ مِيلٍ مِنَ الْبَصْرَةِ الْيَوْمَ كَمْ مِنْ صَرِيعَةْ
وَمِنْ يَاسِرٍ مُبْتَلًى يَشْتَكِي صَارِعِيهِ إِلَى اللَّهِ كَمْ مِنْ سُمَيَّةْ
تُعَانِي صُنُوفَ الْعَذَابِ الْمُرِيعَةْ
وَلَمْ تَشْتَرِكْ فِي اجْتِيَاحٍ وَلَا فِي وَقِيعَةْ
كَمَا أَنَّهَا لَمْ تُبَايِعْ أُمَيَّةْ
وَلَمْ تَدْعُ يَوَمًا إِلَى غَيْرِهِمْ؛ لَمْ تَكُنْ فَاطِمِيَّةْ
وَلَمْ تَتَّخِذْ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ مُرْشِدًا، لَمْ تَصِرْ ذَاتَ يَوْمٍ صَنِيعَةْ
وَلَكِنَّهَا اسْتَهْدَفَتْهَا الصُّقُورُ الَّتِي أَطْلَقَتْهَا الْحَمِيَّةْ
وَمِنْ هَؤُلَاءِ السُميَّاتِ، مِنْ بَيْنِهِنَّ، انْبَرَتْ فِي انْفِعَالِ سُمَيَّةْ
بِفَحْوَى مَقَالٍ وَنَجْوَى سُؤُالٍ مُحَالٍ إِلَى إِخْوَةِ السَّالِمِيَّةْ
(أَشِقَّاءَنَا مُنْذُ مَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ النِّفْطُ أَوْ أَنْ نُضِيعَهْ
وَقَبْلَ اخْتِرَاعِ الْوَرَى طَائِرَاتٍ عَلَى حَامِلَاتٍ مَنِيعَةْ
وَإِخْوَانَنَا بَعْدَمَا تَرَى خرْدَةً فِي مَهَاوٍ وَضِيعَةْ
بَنِي أُمِّنَا مَا رَوَى الدَّهْرُ: "يَا دَارَ مَيَّةْ" !
هَبُوا الْحَاكِمَ الْفَرْدَ ضَلَّتْ بِهِ الْحَاكِمِيَّةْ
فَهَلْ لِانْتِقَامٍ مِنَ الْحَاكِمِ الْفَرْدِ تُلْغَى العُرَى الْآدَمِيَّةْ؟
وَهَلْ هَوْجَةُ الرِّيحِ فِي قَسْوَةٍ مَرَّةً حُجَّةٌ لِاغْتِيَالِ الطَّبِيعَةْ
وَتَبْخِيسِ كُلِّ الْمَعَانِي الرَّفِيعَةْ؟
أمَّا الشاعر عبدالواحد حسن السُّنوسي، فقد كتب قصيدة حماسية مطولة في حق القضية العراقية، استعرض فيها تاريخَ العراق وأمجادَه العريقة الزاهيَّة منذ عصر النُّبُوَّة والخلفاء الراشدِين، وخاصةً عهدَ أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب، الذي نقل عاصمة الخلافة إلى أرض العراق بمدينة الكوفة.
يتبع