عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-04-2021, 04:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,510
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الخنساء شذوذ الأمومة

[راجع الكامل (ص: 220، 221)، طبع أوروبا، وتاريخ الطبري (ص: 1905 – 1908) من القسم الأول، والشعر والشعراء]، وقد ذكر البغدادي القصة كاملة، أن الخنساء نصحت أولادها الأربعة قبل القادسية، وأنهم استُشهدوا جميعًا، فقالت حين بلغها موتهم: "قَالَت: الْحَمد لله الَّذِي شرفني بِقَتْلِهِم، وَأَرْجُو من رَبِّي أَن يجمعني بهم فِي مُسْتَقرِّ رحمته، فَكَانَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يُعْطِيهَا أرزاق أَوْلَادهَا الْأَرْبَعَة لكل وَاحِد مِنْهُم مائَة دِرْهَم حَتَّى قُبِض"، وقد توفي البغدادي عام 1093ه، ولكن نفس القصة بتفاصيلها نجدها أيضًا في (الاستيعاب)، وابن عبدالبر توفي عام 463ه، وقد وردت القصة في كثير من الكتب القديمة، وفي الغالب منسوبة للزُّبَيْر بن بكار، وهو كما يقول عنه صاحب (سير أعلام النبلاء): "العلَّامة الحافظ النسَّابة، قاضي مكة وعالمها، مولده في سنة اثنتين وسبعين ومائة"، ورواية ابن بكار واضحٌ فيها التَّزيُّد بلا شك، فقد أورد أشعارًا لكل واحد من أولادها، وهم يستعدون للقتال، كما قرأناه في (الاستيعاب) ونخلص من ذلك أن المصادر القديمة تذكر الواقعة بتفاصيلها في كتب متعددة؛ منها: الوافي بالوفيَات للصفي، والاستيعاب ج: 4، وخزانة الأدب ج: 1، وشرح مقامات الحريري للشريش، والإصابة ج: 8، ومعاهدة التنصيص ج: 1، وتؤكد أن العباس كان رابع أربعة رجال لها، وأن عمر بن الخطاب ظل يُعْطِيهَا أرزاق أَوْلَادهَا الْأَرْبَعَة، نرجع أخيرًا للشذوذ الغريب في هذه الأم التي ذاب قلبها على أخ لها من الأب، ولم يتحرك لأولادها ولزوجها، حتى في لحظة زواج ابنتها، نجد موقف غاية في الغرابة، وهو مثبت في كتب كثيرة منها (تاريخ دمشق لابن عساكر)، يقول: "عن علقمة بن جرير السلمي، قال: جئت معاوية بن أبي سفيان، فقال: يا علقمة، هل كانت عندكم طريفة خبر أو أعجوبة؟ قال: قلت: قد كان، أفأحدِّثك؟ قال: ذاك أردت، فقلت له: أقبلت قبل مخرجي إليك أسوق شارفًا لي أريد أن أنحرها عند الحي، فأدركني الليل بين أبيات بني الشريد، فإذا عمرة بنت مرداس بن أبي عامر عروسًا، وأمها الخنساء ابنة عمرو بن الشريد، فقلت لهم: انحروا هذا الجزور، فاستعينوا بها على بعض ما أنتم به، وجلست معهم، فلما هُيِّئت أذن له، فدخلنا عليها، فإذا جارية وضيئة على الأدمة، وإذا أمها الخنساء جالسة متلففة بكساء أحمر قد هرمت، وإذا هي تلحظ الجارية لحظًا شديدًا، فقال القوم: بالله يا عمرو، ألا تحرشت بها؟ فإنها الآن تعرف بعض ما أنت فيه، فقامت الجارية تريد شيئًا فوطئت على قدمها وطأة أوجعتها، فقالت وهي مغيظة: حس إليك يا حمقاء، والله كأنما تطئين أمة ورهاء تغني، فقالت الخنساء: أنا والله كنت أكرم منك عرسًا وأطيب ورسًا وذلك زماني، إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، أشرب اللبن غضًّا قارصًا، ومحضًا خالصًا، لا أنهش اللحم، ولا أذيب الشحم، ولا أرعى البهم، كالمهرة الصنيع، لا مضاغة، ولا عند مضيع، عقيلة الجواري الحسان الحور، وذلك في شبيبتي قبل شيبي، وعليَّ درع من ثوب، فعجب معاوية من الحديث".












البكَّاءة تودِّع الحياة:



يقول صاحب الأغاني: "قال حسان بن ثابت: جئت نابغة بني ذبيان، فوجدت الخنساء بنت عمرو حين قامت من عنده، فأنشدته، فقال: إنك لشاعر، وإن أخت بني سليم لبكَّاءة"، هذه البكاءة لماذا لم تبكِ أولادها؟ إننا أمام شخصية قوية مسيطرة واثقة بذاتها، انظر لها حين يقول لها النابغة مشيرًا إلى حسان بن ثابت؛ كما روى ابن قتيبة في (الشعر والشعراء)، إذ قال للخنساء: "أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منكِ، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين"، ولكنها ترفض زوجًا عظيمًا كدريد بن الصمة، وتتزوج من رجل مِتلاف، يُذهِب ماله، فتذهب لأخيها صخر فيشاطرها ماله، ويعطيها خيره، ويتكرر الأمر عدة مرات، لقد خُدعت في زوجها، فكرِهت عيشتها، وزهدت في تعلُّقها بأبنائها، وظلت بائسة يائسة في حياتها، لولا تدخل صخر بكرمٍ لا مثيل له، ثم يُقتَل صخر، فتبكيه كما لم تبكِ أحدًا قبله ولا بعده، لقد حزنت بلا شك لموت معاوية، لكن لوعتها في صخر لا تُقدَّر، ويموت زوجها، وترثيه ابنتها عمرة بنت مرداس:



والفيض فينا شهاب يُستضاء به *** إنا كذلك فينا يوجد الشُّهُبُ








كذلك رثى ابنها عباس أخاه سراقة:






أعينُ ألا أبكي أبا الهيثمِ

وأذري الدموع ولا تسأمي


وأثني عليه بآلائه

بقول امرئٍ موجع مؤلمِ










يبدو أن الخنساء حين ودَّعت أخويها، ودعت معهما الحياة، لقد تساوت قيمتا الموت والحياة لديها، ولذلك لم يعد للشعر قيمته بعدما مات صخر، ولم يعد للشعر سبيلًا، وقد فقدت أجمل ما لاقته في حياتها، وانظر لها وهي تأتي لعائشة عليها السلام، وهي "حليقة الرأس تدُبُّ على عصًا"، لقد ظلت ترثي أخاها حتى عَمِيَتْ، وقصتها مع عائشة رضي الله عنها تشهد بذلك، فقد دخلت على عائشة، وعليها صدار من شعر، قالت لها عائشة رضي الله عنها: "يا خنساء، إن هذا لقبيح، قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لبست هذا، قالت: إن له قصة، قالت: فأخبريني، قالت: زوَّجني أبي رجلًا، وكان سيدًا مِعطاء، فذهب ماله، فقال لي: إلى من يا خنساء؟ قلت: إلى أخي صخر، فأتيناه، فقسم ماله شطرين، فأعطانا خيرهما، فجعل زوجي أيضًا يعطي ويحمل، حتى نفد ماله، فقال: إلى من؟ فقلت: إلى أخي صخر، فأتيناه، فقسم ماله شطرين، فأعطانا خيرهما، فقالت امرأته: أما ترضى أن تعطيَها النصف حتى تعطيَها أفضل النصيبين؟ فأنشأ يقول:






والله لا أمنحها شرارها

وهي حَصَان قد كفتني عارها


ولو هلكتُ مزَّقت خِمارها

وجعلت من شعر صِدارَها










فذلك الذي دعاني إلى أن لبست هذا حين هلك"، وقد سبق وقالت بوضوح في رثاء معاوية: فآليت آسى على هالكٍ = وأسأل باكية ما لها؟








وفي صخر تقول:






إنَّ نفْسِي بعد صخرٍ

بالرَّدَى معترفه


وبها من صَخْرٍ شيءٌ

ليس يُحكَى بالصِّفَه










وفيه أيضًا تقول:






حلفت بالبيت وزوَّاره

إذ يُعمِلون العيس نحو الجِمار


لا أجزع الدهر على هالكٍ

بعدك ما حنَّت هوادي العِشار










هذه مشاعر امرأة باعت حياتها بأبنائها وأزواجها وشِعرِها وشَعرها؛ ولذا ظلت عمرها الطويل تبكي بلا انقطاع؛ ولذا فهذا الشذوذ أصله أن تقوم الأخوة مقامًا أعلى من البُنُوَّة.







[1] الحبركي: الغليظ الطويل الظهر القصير الرجلين، والأنثى منه حبركاة، وقد ورد هذا البيت في (اللسان) هكذا: ولست بمرضع ثديي حبركى = قصير الشِّبْرِ من جُشَمَ بن بكرِ؛ [راجع الأغاني وتعليقات المحقق].










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.45 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.72%)]