المتواري
في تسمية مقدمة ابن حجر
(هدى الساري)
د. محمد بن حميد العوفي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه رسالة لطيفة في تحقيق نسبة تسمية (هدى الساري) لمقدمة (فتح الباري) إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852ه)، وقد جاء الكلام في مبحثين وخاتمة.
المبحث الأول: التمييز بين (المقدمة) وترجمة البخاري المفردة.
المطلب الأول: (المقدمة) عند ابن حجر، وعند تلاميذه في الإحالة والأداء.
قال برهان الدين البقاعي (ت885هـ) -في صفة "المقدمة"-: "في مجلد ضخم، يشتمل على جميع مقاصد الشرح سوى الاستنباط"[1]، وزاد السخاوي (ت902ه): "كملت في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة"[2].
وقد سماها ابن حجر "المقدمة" في صدر الكتاب[3]، وفي خاتمته[4]، وكذا أحال إليها في بعض كتبه[5]، وأحيانًا يحيل إليها بقوله: "مقدمة شرح البخاري"[6]، وسماها -مَرّة- على ظهر نسخة نُسِخَت في سنة (ت846هـ)؛ فكتب بخطه: "مقدمة فتح الباري شرح البخاري. تأليف الفقير: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني"[7].
ثم سماها كذلك من بعده تلاميذه؛ فسمَّاها جماعة منهم في سياق الإحالة والأداء تبعًا لشيخهم المصنف بالتعريف أو بالإضافة؛ فقالوا:
1- (المقدمة): وجاءت عند تقي الدين ابن فهد (ت871هـ)[8]، والبقاعي[9]، والسخاوي[10].
2- (مقدمة شرح البخاري): وجاءت عند البقاعي[11]، والسخاوي[12]، والسيوطي (ت911هـ)[13].
3-(مقدمة فتح الباري): وجاءت عند السخاوي[14].
المطلب الثاني: "هدى الساري لسيرة البخاري".
قال السخاوي -في سياق إيراد مصنفات شيخه ابن حجر-: "(هدى الساري)، ويقال له: (هداية الساري لسيرة البخاري)، في كراستين، صنفها قديمًا في سنة خمس وثمانمائة، وسمعها عليه حينئذ الشمس ابن القطان وغيره من شيوخه وأماثل الفضلاء بالمدرسة البرهانية المحلية، بقراءة العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحيم المنهاجي"[15]، ثم قال -في معرض ذكر من أفرد ترجمة للبخاري صاحب الصحيح-: "كشيخنا في نحو كراستين، وجدتها بخطه، سماها (هدى) أو (هداية الساري لسيرة البخاري)، حَدَّث بها قديمًا في سنة خمس وثمانمائة"[16]، وفي كلامه في سياق المترجمين للبخاري إجمال يرجع تفسيره إلى موضع بيانه في إيراد مصنفاته -المتقدم قبله-؛ فهو قد ذكر اسم الكتاب، وما يقال في اسمه، وحجمه، وسنة تصنيفه، ومن سمعه عليه حينها، وموضع السماع، وقارئه. ثم هو في موضع الإجمال: يُقَدِّرُ حجمه تقديرًا، ثم يذكر اسمَيْ الكتاب للتقريب. وتَضَمَّن كلام السخاوي أمورًا منها:
1- أن السخاوي قد وقف على الكتاب بخط ابن حجر.
2- أن ابن حجر قد سمَّى كتابه.
3- جزم السخاوي بتسمية الكتاب (هدى الساري).
4- نقل ما يقال له من اسم آخر (هداية الساري).
5- نَصَّ على تقدم تصنيفه (سنة 805هـ)؛ أي: قبل الفراغ من (المقدمة) بثمانية أعوام.
والمعروف اليوم من نسخ الكتاب نسخة بخط أحمد بن محمد الزفتاوي (ت895هـ) -من تلاميذ ابن حجر- نسخها قبل وفاته بنحو شهرين (سنة 895هـ)[17]، وهي نسخة متأخرة لمن هم في طبقة تلاميذ المصنف؛ فما بين وفاة المصنف وتأريخ النسخة أكثر من أربعة عقود.
وقد سمَّى الكتاب بما يقال له (هداية الساري لسيرة البخاري)، وكان قد انتشر بعد وفاة ابن حجر تسمية مقدمته (هدى الساري لمقدمة فتح الباري).
المبحث الثاني: تسمية مقدمة ابن حجر (هدى الساري).
المطلب الأول: (هدى الساري لمقدمة فتح الباري) عند تلاميذ ابن حجر في كتبهم.
وفيه ثلاثة فروع؛ وهي:
الفرع الأول: ذِكْرها عند التقي ابن فهد المكي.
قال ابن فهد -بعد ذكر صفة المقدمة-: "سماها (هدى الساري لمقدمة فتح الباري)"[18]. وقد تفرَّد -رحمه الله- دون غيره من الأقران في كتبهم بنسبة التسمية جازمًا إلى شيخه، ويرد على هذا الجزم أمور؛ منها:
أولًا: ثبوت اسم (هدى الساري) لترجمة الإمام البخاري التي صنفها ابن حجر -كما تقدم-.
ثانيًا: لم تَرد هذه التسمية للمقدمة في كتاب ابن حجر، ولا عند تلاميذه في سياقات الأداء والإحالة، ومن ذكرها -كالسخاوي والسيوطي- ففي سياق الترجمة للشيخ -وسيأتي بيانه-، وقد تعاقبت نُسَخُ بلديِّ ابن حجر المقروءة عليه نحو أربعة عقود ليس فيها (هدى الساري)[19].
ثالثًا: ليس لابن فهد مزيد اختصاص بكتب شيخه ابن حجر، والذي سمعه من لفظه -فيما ذكر- شيئًا يسيرًا، وقال عما سمعه من لفظ شيخه من (المقدمة):"شيئًا من ترجمة البخاري من (المقدمة)"[20]، وهو كما قال تلميذهما السخاوي: "لقيه بمكة فأخذ عنه وانتفع به"[21].
رابعًا: أن ابن فهد أخذ عن ابن حجر بمكة في سنة (815هـ)، ومما سمع عليه حينها (النخبة)[22]، ثم أخذ عنه في سنة (824هـ)، ومما أخذه فيها كما قال السخاوي -فيما أخذه جماعة من فضلاء مكة وأعيانها-: "بعضًا من ترجمة البخاري التي ذكرها في مقدمة شرحه"[23]؛ وعليه فلا يخلو خبر التسمية عنده من إحدى حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الخبر قديمًا أيام سماعه شيئًا من (المقدمة) سنة (824هـ)، ويشكل عليه ما جاء بخط ابن حجر على ظهر نسخة قديمة؛ ونصه: "مقدمة شرح البخاري. جمع الفقير إلى الله تعالى المعترف بالتقصير أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي عفا الله تعالى عنه وأعانه"[24]، وهي نسخة بخط ناصر الدين البارنباري القاهري (ت832هـ) والذي أصيب بالفالج نحو سنة (827هـ)[25]؛ فهي نسخة بلديِّه، وفي زمن قريب من سماع ابن فهد.
الحالة الثانية:أن يكون خبر التسمية قد بلغ ابن فهد بعد حين، ويشكل عليه أنه ترجم شيخه في حياته، وختم ترجمته ابتداءً بقوله: "فالله تبارك وتعالى يبقيه في خير وعافية ونِعَم عن الأكدار صافية"[26]، ثم ألحق بَعدُ خبر وفاته، وذكر مراثيه، وكان آخر ما ذكر من أخباره في حياته تجديد السلطان له ولاية القضاء وإعادة الأوقاف التي خرجت عنه، وذلك سنة (842هـ)، ثم ختم أخبار شيخه بقوله: "ثم صُرِف"[27]، وصرفه هذا كان في شهر المحرم من سنة (844هـ)[28]، وقد تعددت ولاياته القضاء بعد ذلك حتى عَزَل نفسه عن وظيفته؛ غير أن ابن فهد لم يزد بعد خبر صرفه المذكور شيئًا من أخباره في حياته، ويشكل عليه ما جاء بخط ابن حجر على ظهر نسخةٍ بخط تلميذه محمد بن علي بن عُبَيد الصوفي (ت856هـ)؛ ونصه: "مقدمة فتح الباري شرح البخاري -تأليف الفقير أحمد بن علي بن حجر العسقلاني"[29]، وكان فراغه من كتابتها في أواخر شعبان من سنة (846هـ)؛ فهي نسخة متأخرة عما ذكره ابن فهد.
الفرع الثاني: ذِكْرها عند السخاوي.
ذكر السخاوي الكتاب كثيرًا في كتبه في سياقات الإحالة والأداء وفي ذكر من نَسَخَ الكتاب، ويسميه في جميعها (المقدمة) -مُعَرَّفة أو مضافة-؛ عدا قوله في ترجمة شيخه: "مقدمته المسماة (هدى الساري)"[30]، والجواب عنه في الآتي:
أولًا: توسُّع كتب التراجم؛ فيذكر المترجم ما وقع له في الترجمة وإن كان مرجوحًا عنده، ومنه:
جزم السخاوي بتسمية ترجمة البخاري (هدى الساري)، وهو قد وقف عليها بخط شيخه ابن حجر، ثم أتبعها بذكر ما يقال؛ فقال: "(هدى الساري)، ويقال له: (هداية الساري لسيرة البخاري)"[31].
ثانيًا: مراعاة السخاوي جزم شيخه التقي ابن فهد في نسبة التسمية إلى ابن حجر؛ وذلك في قول ابن فهد: "سماها (هدى الساري لمقدمة فتح الباري)"[32]، وبخاصة أنه قد قرأ ترجمة شيخهما ابن حجر عند ابن فهد؛ فقد قال: "قرأت في آخر (ذيله على طبقات الحفاظ) للذهبي لصاحب الترجمة ترجمة مختصرة"[33]، بل طالع ابن فهد كثيرًا من تصانيف تلميذه السخاوي في المجاورة الثانية حتى في مرض موته، والذي بين فراغ السخاوي من ترجمة شيخه ابن حجر ووفاة شيخه ابن فهد نحو أسبوعين، والكتاب في ترجمة شيخهما، وبين يديه بمكة؛ فهو أحرى بالمطالعة، وقال السخاوي: "طالع في المجاورة الثانية كثيرًا من تصانيفي حتى في مرض موته. ولم يلبث أن مات وأنا هناك"[34].
ثالثًا: مراعاة انتشار التسمية التي شَهَرَها ابن فهد بعد وفاة ابن حجر، وقد مضى نحو ثمانية عشر عامًا حتى فراغ السخاوي من الترجمة.
الفرع الثالث: ذِكْرها عند السيوطي:
ذكر السيوطي الكتاب وسماه (مقدمة شرح البخاري)، وفي ترجمة شيخه ابن حجر سماه؛ فقال: "مقدمته تسمى (هدى الساري)"[35]، والجواب عنه في الجملة كالجواب عن السخاوي، وهو مع ذلك يقول في نسبة تسميتها: "تسمى".
المطلب الثاني: (هدى الساري لمقدمة فتح الباري) على نُسَخِ تلاميذ ابن حجر.
وفيه فرعان؛ وهما:
الفرع الأول: ما جاء على نسخة اليلداني وابنه.
جاء على ظهر نسخةٍ شرع فيها خطيب الثابتية اليلداني الدمشقي (ت857هـ) ما نصه: "(هَدى الساري لمقدمة فتح الباري) تأليف شيخنا الإمام العالم العلامة شهاب المِلَّة والدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنته آمين.
رواية: الفقير: محمد بن محمد بن علي الخطيب اليلداني، كاتبه عن مؤلفه"[36]، ثم أتم النسخة ابنه شمس الدين الدمشقي (ت897هـ) وفي قيد ختامها ما نصه: "نجز كتاب (هُدى الساري لمقدمة فتح الباري)... على يد العبد الفقير إلى الله تعالى المعترف بالتقصير الجاني: محمد بن محمد بن محمد ابن الخطيب اليلداني، في يوم الأحد المبارك حادي عشرين شهر ذي القعدة الحرام سنة تسع وخمسين وثمانمائة"، والجواب عنه في الآتي:
أولًا: أن التسمية كُتبت على ظهر النسخة بعد وفاة المصنف، ومما جاء فيها ما نصه: "تغمده الله برحمته"، ثم أرَّخ الابن القطعة التي أتمها سنة (859هـ)، فهي ليست النسخة التي كتبها عن المصنف فيما كتبه عنه سنة (849هـ)[37]، والتي أعانه في كتابتها ابنه[38]؛ فهي زيادة متأخرة يشكل عليها أن نسخ تلاميذ ابن حجر -الملازمين له- المنسوخة والمقروءة عليه بعد سماع اليلداني وابنه قد خلت من هذه الزيادة (هدى الساري)، ومن ذلك الآتي:
1- جاء في قيد ختام نسخة البقاعي -وكان ملازمًا لشيخه ابن حجر منذ رحلته إليه سنة (834هـ)[39]- المنسوخة له سنة (851هـ)، ثم المقروءة على المصنف سنة وفاته (852هـ) ما نصه: "آخر المقدمة"[40].
2- وكذا في نسخة الخيضري (ت894هـ) بخطه، وهو الموصوف بقول السخاوي: "لازم شيخنا أتم ملازمة، وأخذ عنه جملة من تصانيفه"[41]، والتي جاء عقبها قيد سماعها بخط ابن حجر مؤرِّخًا آخر مجالس سماعها ومعارضتها بالأصل في سنة (850هـ)؛ وفيه ما نصه: "سمع عليَّ جميع هذه (المقدمة) من جمعي..."[42].
ثانيًا: خالف الابن أباه في ضبط (الهاء) في (هدى) -ضبط قلم- فضبطها الوالد بفتح الهاء، وضبطها الابن بضمها، وهو قد سمع مع أبيه على ابن حجر، وكان يساعده في الكتابة عنه؛ فكأنما أخذاه عن مكتوب لا عن المصنف وبخاصة بعد انتشار ترجمة شيخهما ابن حجر في (لحظ الألحاظ) لتقي الدين ابن فهد المكي.
يتبع