الثاني: أحاديث تعقب الاستشهاد بها لوقوع ما يدل على تصرف الرواة في اللفظ المستشهد به، أو حمل اللفظ المشكل فيها على أنه من تغيير الرواة، ومن ذلك:
1- أورد الحافظ استشهاد المازري السابق بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "ماؤه أبيضُ من اللبن"، وتعقبه فقال: "ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة"[43]، ثم استدل على ذلك بورود الحديث عن عدد من الصحابة على اللغة المشهورة.
وحديث ابن عمرو رُوي –كما تقدم في تخريجه- على اللغة المشهورة، والحافظ إنما استدل على احتمال التصرف بوروده في الأحاديث الأخرى عن غير عبد الله بن عمرو على اللغة المشهورة، وتعقُبُه هذا محل تَعقُّب؛ لأن المخارج مختلفة، ولهذا قال العيني في رده على الحافظ في هذا الموضع: "لا مانع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل أفعل التفضيل من اللون فيكون حجة على النحاة"[44] وردُّه وجيهٌ، ولو تعقب الحافظُ الاستشهادَ بهذا الحديث بوروده في بعض الطرق عن عبد الله بن عمرو على الوجه المشهور لما أصبح لتعقب العيني وجاهةً، والله أعلم.
2- في حديث أبي جحيفةرضي الله عنه: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ، فصلى بنا الظهر والعصر، وبين يديه عنزة، والمرأة والحمار يمرون من ورائها"[45].
قال الحافظ: "قوله: "والمرأة والحمار يمرون من ورائها" كذا ورد بصيغة الجمع، فكأنه أراد الجنس، ويؤيده رواية: "والناس والدواب يمرون" كما تقدم، أو فيه حذف تقديره : "وغيرهما"، أو المراد: "الحمار براكبه"، وقد تقدم بلفظ: "يمر بين يديه المرأة والحمار" فالظاهر أن الذي وقع هنا من تصرف الرواة"[46].
فالحافظ في هذا النص يوجه اللفظ المشكل في عود ضمير الجمع على الاثنين مُستعيناً بروايات الحديث الأخرى، ثم يستظهر من خلال تلك الروايات بأن اللفظ المشكل إنما وقع من تصرف الرواة، فلا حاجة إلى توجيهه على غير ذلك.
3- حديث علي رضي الله عنه، أنه كان كثيراً ما يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر"[47].
نقل الحافظ استشهاد ابن التين بهذا الحديث على العطف على الضمير المرفوع المتصل بدون تأكيده بضمير منفصل، خلافاً لمن يستقبحه من النحاة، ثم تعقبه، فقال: "وأما هذا الحديث فلم تتفق الرواة على لفظه، وسيأتي في مناقب عمر من وجه آخر بلفظ: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر"، فعطف مع التأكيد، مع اتحاد المخرج، فدل على أنه من تصرف الرواة"[48].
4- حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قام عمر على المنبر، فقال: "أما بعد، نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل"[49].
ذكر الحافظ استشهاد ابن مالك بهذا الحديث على جواز حذف الفاء في جواب "أما بعد"[50]، ثم قال: "لا حجة فيه؛ لأن هذه رواية مسدد هنا، وسيأتي قريباً عن أحمد بن أبي رجاء، عن يحيى القطان، بلفظ: "خطب عمر على المنبر، فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر"، ليس فيه: "أما بعد"، وأخرجه الإسماعيلي هنا من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي، عن يحيى بن سعيد القطان شيخ مسدد، وفيه بلفظ: "أما بعد، فإن الخمر"، فظهر أن حذف الفاء وإثباتها من تصرف الرواة"[51].
5- حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أبصر أحداً، قال: "ما أحب أنه يُحَولُ لي ذهباً، يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث، إلا ديناراً أرصده لدَين"[52].
ذكر الحافظ استشهاد ابن مالك بهذا الحديث على صحة استعمال "حَوَّلَ" بمعنى "صَيَّرَ"، وإعمالها عملها في نصب مفعولين، وأنه استعمال خفي على أكثر النحاة، ثم تعقبه الحافظ، فقال: "وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، وهو متّحد المخرج، فهو من تصرف الرواة؛ فلا يكون حجة في اللغة"[53].
6- حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال لي جبريل: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة- أو لم يدخل النار-، قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن"[54].
ذكر الحافظ استشهاد ابنَ مالك بقوله في آخره: "وإن" على جواز حذف فعل الشرط والاكتفاء بحرفه، والتقدير: "وإن زنى، وإن سرق"[55]، ثم تعقبه بقوله: "وفيه نظر؛ لأنه يتبين بالرواية الأخرى أن هذا من تصرف بعض الرواة"[56].
7- حديث عائشة رضي الله عنه، قالت: دخلت عليَّ عجوزانِ من عُجُزِ يهود المدينة، فقالتا لي: إنَّ أهل القبور يعذبون في قبورهم، فكذبتهما ولم أُنْعِم أن أُصدِّقَهُما فخرجتا، ودخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: يا رسول الله، إِنَّ عَجُوزَيْنِ، وَذَكَرْت له فقال: "صدقتا.."[57] الحديث.
نقل الحافظ تخريج الكرماني لقوله: "إن عجوزين" على حذف خبر "إن" للعلم به، والتقدير: "دخلتا"، ثم تعقبه بقوله: "ظهر لي أن البخاري هو الذي اختصره؛ فقد أخرجه الإسماعيلي، عن عمران بن موسى، عن عثمان بن أبي شيبة -شيخ البخاري فيه- فساقه، ولفظه: "فقلت: له يا رسول الله، إن عجوزين من عجائز يهود المدينة دخلتا عليَّ فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقتا"، وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر عن جرير، شيخ عثمان فيه"[58].
فالحافظ توصل من خلال النظر في روايات الحديث إلى أن اللفظ المستشهد به هنا، أو المشكل هو اللفظ الذي وقع فيه تصرف الراوي أو المصنف بالاختصار ، وهذا له نظائر في الأحاديث التي استشهد بها النحاة[59]، ومنها استشهادهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما موسى، كأني أنظر إليه إذ ينحدرُ في الوادي" على حذف الفاء في جواب "أما"، قال القسطلاني في إرشاد الساري: "وهو حجة على من قال من النحاة: إنه لا يجوز حذفها"[60].
مع أن الحديث أخرجه البخاري بإسناد واحد في موضعين مختصراً وتاماً، وهذا هو اللفظ المختصر، أما التام، فلفظه: " وأما موسى فرجلٌ آدَمُ جَعْدٌ على جملٍ أحمرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ، كأني أنظر إليه إذ ينحدرُ في الوادي"[61].
ولعل هذه الأمثلة من صنيع الحافظ كافية[62] في بيان منهجه في التعامل مع الألفاظ المستدل بها، وقد تبعه عليه بعض الشراح كالسيوطي[63]، والسندي[64]، وقال في حاشيته على الصحيح: "لا بد للمستدل بالحديث من تتبع رواياته فيستدل بملاحظته جميع الروايات، فإن أمكن الترجيح أو التوفيق فذاك، وإلا فيطرح خصوصية الروايات، ويستدل بالقدر المشترك بينها؛ ضرورة أن تعدد الروايات إنما يكون من تغيير الرواة ونقلهم الحديث بالمعنى، وإلا فمعلوم أن تمام الروايات المختلفة ليست من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد، فالاستدلال بكل رواية على حدة عند اختلاف الروايات في حديث واحد مشكل"[65].
وهذا المسلك هو الصحيح الذي يجب اتباعه في الاستشهاد بالحديث على المسائل النحوية، وفي كل الاستدلالات المبنية على اللفظ، يجب أن تعرض ألفاظ الرواية الواحدة بعضها على بعض، ويقارن بينها، فإن ظهر أن اللفظ محفوظ فهو حجة يستشهد به ويستدل، أو يوجه ويؤَوَّل إن كان مُشكلاً، وإن ظهر أن اللفظ غير محفوظ، أو لم يمكن تمييز المحفوظ من غيره، فإنه لا يحتج به، ولا حاجة إلى تأويله إن كان مُشكلاً؛ لاحتمال أن يكون اللفظ المستشهد به، أو المشكل من تحريف الرواة وتغييرهم، والله تعالى أعلم.
[1] أخرجه البخاري ح6579، ومسلم ح2292-واللفظ له- من طريق نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مُليكة، عن عبد الله بن عمرو، ولفظ البخاري: "ماؤه أبيض من اللبن"، وأخرجه أحمد 2/ 162 [11/ 64 ح6514 ] من طريق أبي سبرة الهذلي، عن عبد الله به بلفظ: "أشد بياضاً من الفضة"، على اللغة المشهورة.
[2] 3/ 124، وأثر عمر رضي الله عنه أخرجه مالك في موطئه 1/ 37 ح6 وإسناده منقطع.
[3] 2/ 79، وانظر مطالع الأنوار، لابن قرقول 2/ 493.
[4] أخرجه مسلم ح123-1437 عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن مروان بن معاوية، عن عمر بن حمزة، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي سعيد بهذا اللفظ، بينما هو في مصنف بن أبي شيبة 9/ 451 ح17849 بهذا الإسناد بلفظ: "إن من شر الناس.." على اللغة المشهورة.
وأخرجه مسلم ح124-1437، وأبو داود ح4870، من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، وأحمد 3/ 69 [18/ 196 ح1654 ] عن إسماعيل بن محمد المعقب، كلاهماأبو أسامة، وإسماعيل عن مروان بن معاوية به بنحوه، بلفظ: "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي...".
[5] سورة مريم، آية: 75.
[6] سورة مريم، آية: 76.
[7] 4/ 614، ونقله عنه النووي في شرح مسلم 10/ 8، ولفظه: "وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللغتين جميعاً وهي حجة في جوازهما جميعاً وأنهما لغتان".
[8] جمع الباحث عبد الجليل بن محمد المرشدي "المسائل النحوية في شرح صحيح مسلم" ورتبها في دراسة مُستقلة أظهرت منزلة النووي في الجانب النحوي، ومنهجه في الاستشهاد بالحديث، وأثر الحديث النبوي على الدرس النحوي، وهي مطبوعة.
[9] انظر 14/ 22، و16/ 76.
[10] أخرجه مسلم ح113-2024، والترمذي ح1879، وأحمد 3/ 131 [19/ 345 ح12338] من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به، ولفظ الترمذي: "ذاك أشد" بالدال بدون شك، ولفظ أحمد: "أشد أو أنتن" وفي لفظ: "أشد أو أخبث" كلاهما بالدال.
[11] 13/ 197، وانظر التوضيح لشرح الجامع الصحيح، لابن الملقن 27/ 202.
[12] أخرجه مسلم ح216-135 -واللفظ له-، وأحمد 2/ 539 [16/ 560 ح10957 ]، وأبو عوانة في مسنده 1/ 80، وابن أبي عاصم في السنة 1/ 292 ح644.
[13] 2/ 157.
[14] أخرجه مسلم ح2874 -واللفظ له- وأبو يعلى في مسنده 6/ 72 ح3326، وابن حبان في صحيحه 14/ 423 ح6498 من طريق هداب بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس، ولفظ أبي يعلى: "كيف سمعوا، وأنى يجيبوا"، ولفظ ابن حبان: "كيف يسمعون، وأنى يجيبون" بإثبات النون، وكذلك وقع في نسخة لصحيح مسلم بإثبات النون، انظر هامش الطبعة التركية العامرة 8/ 164، وانظر تخريجه في الأحاديث التي استشهد بها النحاة وليست في شرح التسهيل لابن مالك ح40.
[15] أي: حذف النون من الأفعال الخمسة دون ناصب أو جازم.
[16] 17/ 207.
[17] أخرجه البخاري ح6018 وح6136، ومسلم ح75-47-واللفظ له-، وأحمد 2/ 463 [16/ 45 ح9967] من طريق أبي حصين، عن أبي صالح به، ولفظ البخاري، وأحمد: "فلا يؤذ جاره" بدون الياء.
[18] 2/ 20، وانظر الديباج للسيوطي 1/ 62.
[19] أخرجه مسلم ح3007، والبخاري في الأدب المفرد/ 73 ح187 من طريق حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب بن مجاهد، عن عبادة، ولفظ البخاري: "أو أخذت".