أسماء القرآن (8)
د. محمود بن أحمد الدوسري
الشِّفاء
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
معنى «الشفاء» في اللغة:
جاءت لفظة: «الشفاء» في اللُّغة بمعانٍ متعددة ومتنوعة نذكر منها ما له صلة بموضوعنا: فقد عرَّفها ابن فارس بقوله: «الشين والفاء والحرف المعتل يدلُ على الإشراف على الشيء. يقال: أشفى على الشيء إذا أشرفَ عليه، وسُمِّي الشِّفاء شفاءً لِغَلَبَته للمرض وإشفائه عليه» [1].
والشِّفاء: دواء معروفٌ، وهو ما يُبرئُ من السَّقَمِ، والجمعُ: أشْفِيَةٌ، وأَشافٍ جَمْعُ الجَمْع. واسْتَشْفَى فلانٌ: طلبَ الشِّفاء. وأَشْفَيْتَ فلاناً إذا وَهَبْتَ له شِفاءً من الدواء. وشفاهُ وأشْفاهُ: طلب له الشِّفاءَ[2].
معنى «الشفاء» اسماً للقرآن:
لقد سمَّى اللهُ عزّ وجل القرآنَ العظيمَ شفاءً في ثلاثة مواضع من كتابه، وهي:
1- قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57]. «أي: دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشدُّ من أمراض الأبدان كالشَّك والنفاق والحسد والحقد، وأمثال ذلك»[3].
ولا شك أن «هذا القرآن، شفاء لما في الصدور، من أمراض الشَّهوات الصَّادَّة عن الانقياد للشَّرع، وأمراض الشُّبهات، القادحة في العلم اليقيني» [4].
2- قوله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]. «والشفاء حقيقته زوال الداء، ويستعمل مجازاً في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة تشبيهاً ببرء السقم؛ كقول عنترة:
ولقد شَفَى نفسي وأبرأ سُقمَها *** قِيلُ الفوارسِ: ويْكَ عنترَ أقْدِمِ
والمعنى: أن القرآنَ كُلَّه شفاء ورحمة للمؤمنين... وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يُستشفى بها من الأدواء والآلام وَرَدَ تعيينها في الأخبار الصَّحيحة فشملتها الآية بطريقة استعمال المُشْتَرَكِ في معنييه» [5].
3- قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44]. ولْنَدَعْ للفخر الرازي رحمه الله الحديث عن شفاء القرآن، فقال: «واعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية، وشفاء أيضاً من الأمراض الجسمانية، أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر، وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة، والأخلاق المذمومة، أما الاعتقادات الباطلة: فأشدها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات، والمعاد، والقضاء والقدر. والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها، ... وأما الأخلاق المذمومة: فالقرآن مشتمل على تفصيلها، وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة، ... وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية: فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض...» [6].
وينبغي علينا أن نُوَسِّعَ دائرةَ شِفاء القرآن من أمراض القلوب والنفوس والجوارح إلى الأمراض العصرية المزمنة كأمراض السِّياسة والاقتصاد والحياة والحضارة وغيرها من أمراض العصر المعقدة، بهذا المفهوم الشَّامل يجب علينا أن ننظر للشِّفاء القرآني، ولا نقصره على آلام الرأس والبطن والجسد.
فمن عظمة القرآن الكريم، وعلوِّ شأنه، وعظمة تأثيره: أنَّ فيه الشفاءَ الكامل لأمراض الاعتقادات الباطلة، والأخلاق المذمومة، والأمراض الجسدية، وشفاؤه يمتد كذلك إلى الأمراض المُعاصِرَةِ المُزمنة لو أخذ الناس بتعاليمه وأدويته النَّافعة فعملوا بها.
[1] معجم مقاييس اللغة (1/ 619)، مادة: «شفى».
[2] انظر: لسان العرب (14/ 436)، مادة: «شفي».
[3] روح المعاني (11/ 176).
[4] تفسير السعدي (2/ 326).
[5] التحرير والتنوير (14/ 150).
[6] التفسير الكبير (21/ 29).