
10-03-2021, 01:58 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,935
الدولة :
|
|
رد: مسائل في القضاء والقدر (محاضرة)
وأمّا الكِتابُ السابقُ على الإنسانِ وهو في بَطنِ أمِّه؛ فهو غَيْبٌ.
ثم إنَّ الهُدى والضلالَ، والسعادةَ والشقاوةَ كُتِبَتْ على العِبادِ قبلَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ لِمَا عَلِم اللهُ مِنهم، وما ربُّك بِظلاّمٍ للعَبِيدِ.
قال الإمامُ الطحاويُّ: وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَالأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ من شقيَ بقضاءِ الله. اهـ.
وأضرِبُ لذلك مِثَالَيْن يَتّضِحُ بهما الأمرُ:
الأولُّ: لو كان عند رجلٍ أربعةُ أبناءٍ، فأمَرَهُم بأشياءَ، ونَهَاهُم عن أشياءَ، وهو يَعلَمُ قبلَ أنْ يَتكلَّمَ مَن سيُطيعُه، ومَن سَيَعْصِيه ويُخالِفُ أمْرَه!
فإذا أثابَ الأبُ الْمُطِيعَ، وعاقَبَ الْعاصيَ؛ فلا يكون ظالِمًا، وإن كان عَلِمَ قبلَ ذلك مَن سيُطيعُه، ومَن سَيَعْصِيه.
والثاني: لو أنَّ مُدرِّسًا درّس طلاّبا سَنَةً دراسيةً، وَعَرَفَ الطلاّبَ وخَبَرَ أحوالَهم، ثم كتَبَ في ورقةٍ عِندَه: هؤلاء يَنْجَحُون، وهؤلاء يُخْفِقُون. ثم جاءت النتيجةُ كما توقّعَ الْمُدرِّسُ، فلا يكون حُكمُه السابقُ الْمَبْنِيُّ على مَعرفتِه بالطلاّبِ سببَ رسُوبِ مَن رَسَبَ، ولا نَجاحِ مَن نَجَح.
وللهِ عزَّ وجَلّ الْمَثَلُ الأعلى.
فتقديرُه سابِقٌ على خَلْقِه للْخَلْقِ، وعِلْمُه بِما يَصِيرُون إليه أزَلِيّ.
ثم إن العِبَادَ لا يُؤاخَذُون ولا يُعاقَبُونَ إلاّ على ما فَعَلُوه.
ومِن كَرَمِ الله عزّ وجَلّ: أن تجاوَزَ لَهم عَمّا تَحَدّثَتْ بِه الأنفُس، وما جالَ في الْخَواطِر.
مسألة: مِن عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ اللهَ لو عَذَّبَ أهلَ السماواتِ والأرضِ بَرَّهُم وفَاجِرَهم عَذَّبَهم وهو غيرُ ظَالِمٍ لهم.
رَوى الأئمةُ: أحمدُ وعبدُ بنُ حُميدٍ وأبو داود وابنُ ماجه وابنُ حبانَ والبيهقيُّ أنّ ابنَ الدَيلَمِيِ قال: أتيتُ أُبيَّ بنَ كَعْبٍ، فَقُلْتُ له: وَقَعَ في نَفْسِي شَيءٌ مِن القَدَرِ، فَحَدِّثْنِي بِشَيءٍ لَعَلَّه أنْ يَذْهَبَ مِن قَلْبِي، فَقَال: إنَّ اللهَ لَو عَذَّبَ أهْلَ سَمَاواتِه وأهْلَ أرْضِه عَذَّبهم غَيرَ ظَالِمٍ لَهم، ولَو رَحِمَهم كَانَت رَحْمَتُه خَيرًا لهم مِنْ أعْمَالِهم. قال: ثُمَّ أتَيتُ عبدَ الله بنَ مسعودٍ فَقَال مِثْلَ قَولِه، ثم أتَيتُ حُذيفةَ بنَ اليمانِ فَقال مِثْلَ قَولِه، ثم أتَيتُ زَيدَ بنَ ثابتٍ فَحَدَّثَنِي عنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذلك.
لأنَّ اللهَ هو مالِكُ الْمُلكِ يتصرّفُ في مُلِكِه كيفَ شاء، لا رادَّ لِقضائه، ولا مُعقِّبَ لِحُكمِه؛ لذا نَقولُ في كُلِّ حِينٍ: له الْمُلْك. بعد كل صلاة، وفي كل صباح ومساء..
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في قولِه تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]:
فَقَوْلُهُ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ إشَارَةٌ إلَى عِبَادَتِهِ بِمَا اقْتَضَتْهُ إلَهِيَّتُهُ: مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ. ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ إشَارَةٌ إلَى مَا اقْتَضَتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ التَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ؛ لأَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ، وَفِيهِ أَيْضًا مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ والإصْلاحِ.
وَالْمَالِكُ: الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ. فَإِذَا ظَهَرَ لِلْعَبْدِ مِنْ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ الْمُلْكَ وَالتَّدْبِيرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الملك: 1]، فَلا يَرَى نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَلا حَرَكَةً وَلا سُكُونًا وَلا قَبْضًا وَلا بَسْطًا وَلا خَفْضًا وَلا رَفْعًا إلاّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَاعِلُهُ وَخَالِقُهُ وَقَابِضُهُ وَبَاسِطُهُ وَرَافِعُهُ وَخَافِضُهُ؛ فَهَذَا الشُّهُودُ هُوَ سِرُّ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّاتِ، وَهُوَ عِلْمُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. اهـ.
مسألة: القَدَرُ سِرُّ اللهِ في خَلْقِه، كما قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما.
ولو شاءَ اللهُ لَهَدى الناسَ جميعا. قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [الرعد: 31]؟
وقد أوْصَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا بِوَصيّةٍ جامِعةٍ، فقال: لا تَتَّهِمِ اللهَ على نَفْسِك. رواه الإمام أحمد.
وفي روايةٍ له: لا تَتَّهمِ اللهَ في شيءٍ قَضَى لك به.
ومِنَ الأدبِ مع اللهِ: أنْ لا يُسألَ عمّا يَفعلُ أنه: ﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
قال الإمامُ الطحاويُّ: وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلانِ، وسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾، فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. اهـ.
ولأنَّ اللهَ يَتصرّفُ في مُلكِه كما شاءَ ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: الظُّلْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلُ: أَنْ يَتْرُكَ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِ؛ فَلا يَجْزِيهِ بِهَا، وَيُعَاقِبَ الْبَرِيءَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَيُعَاقِبَ هَذَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الأَفْعَالِ الَّتِي يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهَا لِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ؛ لأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الظُّلْمَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ فَهُوَ أَيْضًا مُنَزَّهٌ عَنْ أَفْعَالِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ. اهـ.
وَمِمَّا يُحْكَى: أَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْجَبَّارِ الْهَمَذَانِيَّ الْمُعْتَزِلِيَّ دَخَلَ عَلى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ - وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا أَيْضًا - وَكَانَ عِنْدَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفِرَايِينِيُّ... فَقَال عَبْدُ الْجَبَّارِ عَلَى الْفَوْرِ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فَوْرًا: سُبْحَانَ مَنْ لا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلاَّ مَا يَشَاءُ. فَقَال لهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ - وَفَهِمَ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مُرَادَهُ -: أَيُرِيدُ رَبُّنَا يُعْصَى؟ فَقَال أَبُو إِسْحَاقَ: أَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى، وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى، أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟ فَقَال لَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَكَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ. فَانْصَرَفَ الْحَاضِرُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابٌ!
(طبقات الشافعية الكُبرى للسّبْكي، ولَوامِع الأنوار البَهِيّة، للسّفاريني)
وقَال رَجُلٌ لأَبِي عِصَامٍ الْقَسْطَلانِيِّ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى وَأَوْرَدَنِي الضَّلالَ، ثُمَّ عَذَّبَنِي، أَيَكُونُ مُنْصِفًا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عِصَامٍ: إِنْ يَكُنِ الْهُدَى شَيْئًا هُوَ لَهُ؛ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعَهُ مَنْ يَشَاءُ.
(شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العِزّ)
والرضا بِاللهِ رَبّا مُستلزِمٌ للرِّضا عنِ اللهِ وعنْ أقدَارِه
قال أبو الدرداءِ رضي اللهُ عنه: إنَّ اللهَ إذا قَضى قَضاءً أَحَبَّ أنْ يُرْضَى به. (زاد المعاد، لابن القيم)
وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: لأَنْ يَعَضَّ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تُطْفَأَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ لأَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ: لَيْتَ هَذَا لَمْ يَكُنْ. رواه ابنُ أبي شيبةَ، ومِنْ طريقِه: رواه أبو نُعيمٍ في " حليةِ الأولياءِ "، ورواه البيهقي في " شُعب الإيمان ".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضا: يَسٍتَخِيرُ أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ: اللهُمَّ خِرْ لِي، فَيُخَيَّرُ اللهُ لَهُ فَلا يَرْضَى، وَلَكِنْ لِيَقُلِ اللهُمَّ خِرْ لِي بِرَحْمَتِكَ وَعَافِيَتِكَ، وَيَقُولُ: اللهُمَّ اقْضِ لِي بِالْحُسْنَى، وَمِنَ الْقَضَاءِ بِالْحُسْنَى قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَذَهَابُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللهُمَّ اقْضِ لِي بِالْحُسْنَى فِي يُسْرٍ مِنْكَ وَعَافِيَةٍ. رواه البيهقي في " شُعب الإيمان ".
وقال أبو الدَّرْدَاء رضي الله عنه: ذِرْوَةُ الإِيمَانِ أَرْبَعٌ: الصَّبْرُ لِلْحَكَمِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ، وَالإِخْلاصُ لِلتَّوَكُّلِ، وَالاسْتِسْلامُ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. رواه ابن المبارك في " الزهد "، والبيهقي في " شُعب الإيمان ".
وقال أبو الْعَبَّاسِ بنُ عَطَاء: الرِّضَا تَرْكُ الْخِلافِ عَلَى اللهِ فِيمَا يُجْرِيهِ عَلَى الْعَبْدِ. رواه البيهقي في " شُعب الإيمان ".
وقال الربيعُ بنُ أنسٍ: علامةُ الشُّكرِ: الرّضا بِقَدرِ اللهِ والتسليمُ لِقَضائه. (مَدارِج السّالِكين، لابن القيم).
قال ابنُ القيمِ: الرِّضَا جنَّةُ الدُّنْيَا، ومُسْتَرَاحُ العارِفِين؛ فَإِنَّهُ طَيِّبُ النَّفسِ بِمَا يجْرِي عَلَيْهِ من الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ عينُ اخْتِيَار اللهِ لَهُ، وطمأنينتها إلى أَحْكَامه الدِّينِيَّة.
هَذَا هُوَ الرِّضَا بِاللَّه رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا، وَمَا ذاق طعمَ الإِيمَانِ من لم يحصُلْ لَهُ ذَلِك.
وَهَذَا الرِّضَا هُوَ بِحَسَبِ مَعْرفَتِه بِعدْلِ اللهِ وحِكْمتِه وَرَحمتِه وَحُسْنِ اخْتِيَاره؛ فَكلما كَانَ بذلك أعرَفَ كَانَ بِهِ أرْضى؛ فَقَضَاءُ الرّبِّ سُبْحانه فِي عَبدِه دَائرٌ بَيْنَ الْعَدْلِ والْمَصْلَحةِ وَالْحِكمَةِ وَالرَّحْمَةِ، لا يَخْرُجُ عَن ذَلِك الْبَتَّةَ.اهـ. (الفوائد).
وقال:
الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الأَعْظَمُ، وَجَنَّةُ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحُ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةُ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمُ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةُ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا: أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلا بُدَّ.
قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ: مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا؟
فَقَال: إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ، فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ، وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ، وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ، وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ. (مَدارِج السّالِكين)
ومَن رَضِي بالله رَبًّا: حَمِدَ اللهَ في السّرّاءِ والضرّاءِ، ومَن كان كذلك: بَنَى الله له بَيْتَ الْحَمْد، كما في الحديث عند أحمد والترمذي.
وإذا أرَدْت راحةَ نفسِك، وسَلامَةَ قَلْبِك فانظر إلى جَمَال الْمَقادِير، وحلاوة الرّضا.
قال مَن لا يَنطِق عن الهوى صلى الله عليه وسلم: عَجَبًا لأمْرِ المؤمِن، إن أمْرَه كُلّه خَير - وليس ذاك لأحدٍ إلاّ للمؤمِن - إن أصَابَته سَرّاء شَكَر، فكان خَيْرًا له، وإن أصَابَته ضَرّاء، صَبَر فَكَان خَيْرًا له. رواه مسلم.
كثيرٌ مِن الناسِ يَعرِفُ أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ خيْرِه وَشَرِّه رُكْنٌ مِن أركانِ الإيمانِ
وحقيقةُ هذا الإيمانِ إنما تَظْهَرُ إذا وَقَعَ القضاءُ.
وفي دُعائه عليه الصلاة والسلام: وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. رواه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط.
قال أبو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ تَفْوِيضٌ، وَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ تَسْلِيمٌ. رواه البيهقي في " شُعب الإيمان ".
وفي دُعاء الاستخارة: وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ. رواه البخاري.
وَكَانَ عمرُ بنُ عبد العزيز كَثِيرًا مَا يَدْعُو بهذه الدّعوات: اللهُمَّ رَضِّنِي بِقَضَائِكَ، وَبَارِكْ لِي فِي قَدْرَكَ حَتَّى لا أُحِبَّ تَعْجِيلَ شَيْءٍ أَخَّرْتَهُ، وَلا تَأْخِيرَ شَيْءٍ عَجَّلْتَهُ. رواه البيهقي في " شُعب الإيمان ".
وإذا رَأيتَ مَن يَسبُّ الزّمانَ، أو يذمُّ أهلَ الزمانِ، أو يَتضجّرُ مِن الأهلِ والإخوانِ، أو يُكثِرُ الشكايةَ، أو يتسخّطُ ما هو فيه؛ فاعلَمْ أنه لم يَرْضَ عنِ اللهِ، ولا رضِيَ بالله، وإنما يَتسَخّطُ أقدارَ الرحيمِ الرحمنِ.
وصَدَقَ مَن لا يَنطِقُ عنِ الْهَوى صلى الله عليه وسلم: إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابْتَلاهُم، فمَن رَضِيَ فَلَه الرّضا، ومَنْ سَخِط فله السّخَطُ. رواه الترمذي وابن ماجه، وحسّنه الألباني والأرنؤوط.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم طلّقَ حفصةَ رضي الله عنها ثم رَاجَعَها، ولم يُؤثَرْ عنها أنها ذَكَرتْ ذلك، ولا لاَكَتْه بِلِسَانِها!
وخيّرَ عائشةَ رضي الله عنها، فاختارَتْه، ولم تذكُرْ ذلك الموقفَ أبدا!
وَفِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لابْنِهِ: أُوصِيكَ بِخِصَالٍ تُقَرِّبُكَ مِن اللَّه، وَتُبَاعِدُك مِن سَخَطِه: أن تَعْبُدَ اللَّهَ لا تُشْرِكَ بِه شَيْئًا، وَأَن تَرْضَى بِقَدَر اللَّه فِيمَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ. (مَدَارج السّالكين، لابن القيم).
والعامةُ تقولُ: ما فَاتَ مَاتَ، ومِن أجْمَلِ كلامِهم: الكلامُ فيما فاتَ نَقْصٌ في العَقْلِ!
يعني: الكلامُ فيما وَقَعَ وجَرَى مما لا فائدةَ فيه ولا عِبْرَة.
وعلى الإنسانِ أن يَرْضَى بِاختيارِ اللهِ له؛ فهو عَيْنُ الْمَصْلَحَةِ، والْخِيرَةُ فيما اختارَه الله.
قال ابنُ القيمِ في هذه الآيةِ: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]:
في هذه الآيةِ عِدّةُ حِكَمٍ وأسْرَارٍ ومَصَالِحَ للعبدِ؛ فإنَّ العبدَ إذا عَلِمَ أنَّ المكروهَ قد يأتي بالمحبوبِ، والمحبوبُ قد يأتي بِالمكروهِ - لم يأمَنْ أنْ تُوافِيَه المضَرّةُ مِن جانِبِ المسَرّةِ، ولم ييأسْ أنْ تأتيَه المسَرّةُ مِن جانبِ المضَرّةِ لَعدَمِ عِلْمِه بِالعَواقِبِ...
ومِن أسْرَارِ هذه الآيةِ:
أنها تَقْتَضِي مِنَ العَبْدِ التفويضُ إلى مَن يَعلَمُ عَوَاقِبَ الأمورِ، والرّضَا بما يختَارُه له ويَقْضِيه له لِمَا يَرجو فيه مِن حُسْنِ العاقبةِ.
ومنها: أنه لا يَقْتَرِحْ على رَبِّه، ولا يختارْ عليه، ولا يسألْه ما ليس له به عِلمٌ، فلعلَّ مَضَرّتَه وهَلاكَه فيه وهو لا يَعلَمُ، فلا يختارْ على ربِّه شيئا، بل يسألُه حُسْنَ الاختيارِ له، وأن يُرْضِيَهِ بِمَا يَخْتَارُه؛ فلا أنْفَعُ له مِن ذلك.
ومنها: أنه إذا فَوّضَ إلى رَبِّه ورَضِي بِمَا يَخْتَارُه له أمَدَّه فيمَا يَخْتَارُه له بِالقُوّةِ عليه والعَزِيمةِ والصّبرِ وصَرَفَ عنه الآفاتِ التي هي عُرْضةُ اختيارِ العبدِ لنفسِه، وأَرَاهُ مِن حُسْنِ عَوَاقِبِ اختيارِه له ما لم يَكُنْ لِيصِلَ إلى بعضِه بما يَختَارُه هو لنفسِه.
ومنها: أنه يُرِيحُه مِن الأفكارِ الْمُتْعِبَةِ في أنواعِ الاختياراتِ، ويُفَرِّغُ قَلْبَه مِن التقديراتِ والتدبيراتِ.. ومع هذا فَلا خُرُوجَ لَهُ عَمَّا قُدِّرَ عَلَيه، فَلَو رَضِيَ بِاخْتِيَارِ اللهِ أَصَابَهُ الْقَدَرُ وَهُو مَحْمُودٌ مَشْكورٌ مَلْطُوفٌ بِهِ فِيهِ، وَإِلاّ جَرَى عَلَيْهِ الْقَدَرُ وَهُو مَذْمُومٌ غيرُ مَلْطُوفٍ بِهِ فِيهِ؛ لأَنَّه مَع اخْتِيَارِه لنَفسِهِ. (الفوائد).
والسَّلَف كانوا ينظرون إلى أن ما يُصَابُون به على أنه مِن قِبَلِ أنفسِهم، كما قال الله عزّ وجَلّ: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165].
كانت أسماءُ بنتُ أبي بكر تَمْرَضُ الْمَرْضَة فتُعتِقُ كُلَّ مَمْلُوكٍ لها.
وكانت أسماءُ رضي الله عنها تُصْدَعُ، فتَضَعُ يَدَها على رأسِها وتقولُ: بِذَنْبِي، وما يَغفِرُه اللهُ أكثَر. (الطبقات الكُبرى، لابن سعد)
أي أنها ما تُصابُ إلاّ بِسَبَبِ ذَنْبِها.
وهي بذلك تُشير إلى قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
وحَدّث عُبيدُ اللهِ بنُ السَّرِيّ قال: قال ابنُ سيرين: إني لأعرِف الذّنبَ الذي حُمِلَ به عليّ الدَّين ما هو. قلت لِرَجُلٍ منذُ أربعينَ سَنَة: يا مُفلس!
قال عبيدُ الله: فحَدثتُ به أبا سليمان الدّارَانِي فقال: قَلّتْ ذُنُوبُهم فَعَرَفُوا مِن أيْنَ يُؤتَون، وكَثُرَتْ ذُنُوبي وذُنُوبُك فليس نَدْرِي مِن أين نُؤتَى؟! (تاريخ دمشق، لابن عساكر).
وكان السَّلَف يَتّهِمُون أنْفُسَهم رغم تَرَفُّعِهم عن الدّنَايَا والآثام:
قال الفضيل بن عياض: إني لأعصِي الله فأعِرف ذلك في خُلق حِمَاري وخادِمي. (تاريخ دمشق، لابن عساكر).
وهذا الإمام وَكِيع بنُ الجرّاح لَمّا أغْلَظَ له رَجُلٌ القَوْل دَخَلَ بَيْتًا فَعَفّر وَجْهَه، ثم خَرَج إلى الرّجُل. فقال: زِدْ وَكِيعا بِذَنْبِه، فلولاه ما سُلّطْتَ عليه. (تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي).
أي لولا ذنوبي لَمَا سُلّطتَ عليّ تُغلِظ لي القَول.
ولَمّا استطالَ رَجُلٌ على أبي معاويةَ الأسود، فقال له رجل كان عنده: مه! فقال أبو معاوية: دَعْهُ يَشْتَفِي، ثم قال: اللهم اغفِرْ الذّنبَ الذي سَلّطتَ عليّ بِهِ هذا. (صفة الصفوة، لابن الجوزي).
هذا مِن فِقْه المصيبة، وهو فِقهٌ دَقيق لا يَتَأمّله كُلّ أحَد.
وأجْمَعُ كِتابٍ في مسائلِ القضاءِ والقَدَرِ: كتابُ شفاءِ العليلِ في مسائلِ القضاءِ والقَدَرِ والحِكمةِ والتعليلِ، لابن القيم رحمه الله.
والله تعالى أعلم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|