عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-03-2021, 01:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,915
الدولة : Egypt
افتراضي مسائل في القضاء والقدر (محاضرة)

مسائل في القَضاء والقَدَر


الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله السحيم

الحمدُ للهِ يَفعلُ ما يشاء، ويَحكُم ما يُريد.
الحمدُ لله يَقضِي بِالْحَقّ، ويَحكُم بالعَدْل.
الحمد لله الذي لا رَادّ لأمْرِه، ولا مُعقّب لِحُكْمِه، ولا يُسأل عمّا يفعل في مُلْكِه.
فالْمُلك مُلكُه، والأمْرُ أمْرُه، والْحُكْمُ حُكْمُه، والعَبدُ عَبدُه.

واعلَمْ بأنك عَبدٌ لا فِكَاكَ له *** والعبدُ ليسَ على مَوْلاهُ يَعْتَرِضُ

في يوم الاثنين الماضي 28 مِن شهر ربيع الأول من عام 1441 هـ، وقُبيل صلاة الظهر كُنّا نُعَزّي ونُواسِي أحَدَ الزملاء في وَفاةِ والِده، وما كنتُ أعلَم أني على موعدٍ مع الموتِ في نفسِ الساعة.

وفي نفس اليوم كُنت أُعِدّ لهذه المحاضرة بِعُنوان: مَسائل في القضاءِ والقَدَر، ولم أكُنْ أعلم أنها سَتَكُونُ سُلْوَانًا لي قَبْلَ غَيرِي.

فإلى تِلك المسائل:
قد يُقالُ: القضاءُ ويُقصَدُ به القَدَر.
وإذا قيلَ: القضاءُ والقَدَرُ؛ فلكلِّ واحدٍ منهما معنىً مختَلِفٌ عن الآخَر.

والفَرْقُ بينهما:
أنَّ القَدَرَ: يُرادُ به التقديرُ، وكِتابةُ المقادِيرِ قبلَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ.

قال الخطّابيُّ: القَدَرُ اسْمٌ لِمَا صَدَرَ مُقَدرًا عن فِعلِ القادِرِ... والقَضاءُ في هذا معناه الْخَلْقُ. اهـ.

وقال ابنُ الأثيرِ: الْمُرَادُ بالقَدَرِ: التقْديرُ، وبالقضاءِ: الْخَلْقُ، كَقَولِه تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [فصلت: 12] أي: خَلَقَهُنَّ.

فالقضاءُ والقَدَرُ أمْرَانِ مُتَلازِمانِ لا يَنْفَكُّ أحدُهُمَا عنِ الآخَرِ؛ لأنَّ أحدَهُما بِمَنْزلةِ الأساسِ وهو القَدَرُ، والآخَرَ بِمَنْزِلةِ البِناءِ وهو القَضاءُ؛ فمنْ رَامَ الفَصْلَ بينهما فقد رامَ هَدْمَ البِناءِ ونَقْضَه. اهـ.

وقال الْمُنَاوِيُّ: القضاءُ إنْفَاذُ الْمُقَدَّرِ. اهـ.

مسألة:
يُنسَبُ الشّرُّ إلى الْمَقضِيّاتِ ولا يُنسَبُ إلى القَدَرِ.

وفي صحيحِ السُّنّةِ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ. رواه البخاري ومسلم.

وفي دُعاءِ القُنُوتِ: « وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ ». رواه الإمام أحمدُ وأبو داود والترمذيُ والنسائيُّ وابنُ ماجه، وصححه الألبانيُّ والأرنؤوط.

قال ابنُ عبدِ البرِّ: وهذا يَرْويه الْحَسَنُ بنُ عليٍّ مِن طُرُقِ ثابِتةٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم علّمَه هذا الدعاءَ يَقْنُتُ به في الصلاةِ. اهـ.

قال شيخُنا العثيمينُ رحمه اللهُ: ونُؤمِنُ بأنَّ الشّرَّ لا يُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى لِكَمَالِ رَحمتِه وحِكْمتِه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " والشَّرُّ ليس إليكَ " رواه مسلم. فَنَفْسُ قَضَاءِ اللهِ تعالى ليس فِيه شَرٌّ أبَدًا؛ لأنه صَادِرُ عنْ رَحْمةٍ وحِكْمةٍ، وإنما يكونُ الشّرُّ في مَقْضِيّاتِه؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في دُعاءِ القُنُوتِ الذي عَلَّمَه الْحَسَنَ: "وقِنِي شَرَّ مَا قَضَيتَ "، فأضافَ الشّرَّ إلى ما قَضَاه. ومع هذا فإنَّ الشّرَّ في الْمَقْضِيَّاتِ ليس شَرًّا خَالِصا مَحْضًا، بَل هو شَرٌّ في مَحَلِّه مِن وَجْهٍ، خَيْرٌ مِن وَجْهٍ، أو شَرٌّ في مَحَلِّهِ، خَيْرٌ في مَحَلٍّ آخَرَ. اهـ.

مسألة:
الدعاءُ يَرُدُّ القضاءَ ولا يَردُّ القَدَرَ؛ لأنَّ القَدَرَ فُرِغَ منه قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « لا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ ». رواه الترمذيُّ مِن حديثِ سلمانَ رضي الله عنه، وقال الألبانيُّ: حَسَن.

ورواه الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجه مِن حديثِ ثَوْبَانَ رضي الله عنه.

وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: « لا يُغني حَذَرٌ مِن قَدَرٍ، والدعاءُ ينفعُ مِمّا نَزَلَ ومِمّا لم يَنْزِلْ، وإنَّ البلاءَ ليَنْزِلُ فَيَتَلَقّاه الدعاءُ، فَيَعْتَلِجَان إلى يومِ القيامةِ ». رواه الحاكم، وقال: هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ ولم يخرِّجاه. وحَسَّنه الألباني.

قال ابنُ الأثيرِ: فيَعْتَلِجَان، أَيْ: يَتَصارَعَان. اهـ.

مسألة: العلماءُ يُفرِّقون بينَ القضاءِ الْمُبْرَمِ والقَضَاءِ الْمُعَلَّقِ.
فيقولون: القَضاءُ الْمُبْرَمُ هو الذي في اللوحِ المحفوظِ، وهو الذي لا يَقْبَلُ الْمَحْوَ.

والقضاءُ الْمُعَلَّقُ هو الذي في أيْدِي الملائكةِ، وهو ما يَقبَلُ الْمَحْوَ، كقولِه تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ [فاطر: 11].

وفي حديثِ أمِّ حبيبةَ رضي اللهُ عنها أنها قالتْ: اللهم أمْتِعْنِي بِزَوجِي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبِأبِي أبي سُفيانَ، وبِأخِي مُعاويةَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ؛ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ. رواه مسلم.

قال النوويُّ: وهذا الحديثُ صَرِيحٌ في أنَّ الآجالَ والأرزاقَ مُقدَّرةٌ لا تَتَغيّرُ عمّا قَدّرَه اللهُ تعالى وعلِمَه في الأزَلِ، فيَسْتَحِيلُ زيادتُها ونَقْصُها حقيقةً عن ذلك...

قال الْمَازِرِيُّ هنا: قد تَقرّرَ بِالدّلائلِ القطْعِيّةِ أنَّ اللهَ تعالى عَلِمَ بِالآجالِ والأرزاقِ وغيرها، وحقيقةُ العِلمِ معرفةُ المعلومِ على ما هو عليه، فإذا عَلِمَ اللهُ تعالى أن زَيْدًا يَمُوتُ سَنةَ خُمْسُمِائةٍ استحالَ أنْ يموتَ قَبْلَها أو بَعدَها لئلا يَنْقَلبَ العِلمُ جَهْلًا، فاستَحَالَ أنَّ الآجالَ التي عَلِمَها اللهُ تعالى تَزيدُ وتَنقُصُ، فيَتعيَّنُ تأويلُ الزيادةِ أنها بِالنّسبةِ إلى مَلَكِ الموتِ أو غيرِه مِمّن وَكّله اللهُ بِقبضِ الأرواحِ، وأمَرَه فيها بآجالٍ ممدودةٍ، فإنه بعد أنْ يأمُرَه بذلك أو يُثبّتَهُ في اللوحِ المحفوظِ يَنقصُ منه ويَزيدُ على حسبِ ما سَبقَ به عِلْمُه في الأزلِ، وهو معنى قولِه تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ [الرعد: 39]. اهـ.

مسألة: متى يُحتَجُّ بالقَدَرُ، ومتى لا يُحتَجُّ به؟
العلماءُ يقولون: القَدَرُ يُحتَجُّ به في المصائبِ، ولا يُحتَجُّ به في المعائبِ.
ومعنى هذا القولِ: أنه يُحتَجُّ بالقَدَرِ على المصائبِ والأمورِ التي تُصيبُ الإنسانَ مما لا يَدَ له فيها.
ولا يُحتَجُّ بالقَدَرِ على الذنوبِ والمعاصي.

وأصْلُ هذا القولِ:
قولُه عليه الصلاة والسلام: احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. رواه مسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ، وَاَلَّذِي يَنْفَعُهُ يَحْتَاجُ إلَى مُنَازَعَةِ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَدَفْعِ مَا قُدِّرَ مِنْ الشَّرِّ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَيْرِ. وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِهِ. اهـ.

وكذلك احتجاجُ آدمَ وموسى عليهما الصلاة والسلام:
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ. رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.

قال النوويُّ: وَمَعْنَى كَلامِ آدَمَ: أَنَّكَ يَا مُوسَى تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ وقدَّرَ عليَّ فلا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ وَلَوْ حَرَصْتُ أَنَا وَالْخَلائِقُ أَجْمَعُونَ عَلَى رَدِّ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْهُ لَمْ نَقْدِرْ، فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى ذَلِكَ.

وَلأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ شَرْعِيٌّ لا عَقْلِيٌّ، وَإِذْ تَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَغَفَرَ لَهُ زَالَ عَنْهُ اللَّوْمُ، فَمَنْ لامَهُ كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَاصِي مِنَّا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ قَدَّرَهَا اللَّهُ عَلَيَّ. لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ اللَّوْمُ وَالْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْعَاصِيَ بَاقٍ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ جَارٍ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَاللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ وَغَيْرِهَا، وَفِي لَوْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ زَجْرٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ، وَهُوَ محتاجٌ إلى الزجرِ مالم يَمُتْ. اهـ.

وقال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ: وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ؛ لأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ عَلَى أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَائِبِ، وَيَتُوبَ إلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب. اهـ.

وقال أيضا: قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11] قَال عَلْقَمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ.

وَأَمَّا الذُّنُوبُ: فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ لا يَفْعَلَهَا؛ فَإِنْ فَعَلَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا فَمَنْ تَابَ وَنَدِمَ أَشْبَهَ أَبَاهُ آدَمَ، وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ أَشْبَهَ عَدُوَّهُ إبْلِيسَ.

قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [غافر: 55]، فَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَائِبِ. اهـ.

وقال الشيخُ مَرْعِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: إنما حَجَّ مُوسى لِكَونِهِ كان قد تابَ مِن الذّنبِ الصّوريِ، واسْتَسْلَمَ للمُصِيبةِ التي لَحِقتْ الذريةَ بِسببِ أكْلِه الْمُقَدَّرِ عليه. فالحديثُ تَضَمّنَ التّسليمَ للقَدَرِ عند وُقوعِ المصائبِ، وعدمَ لَوْمِ الْمُذْنِبِ التائبِ، وأنَّ المؤمنَ مَأمُورٌ أنْ يَرجِعَ إلى القَدَرِ عند المصائبِ لا عند الذنوبِ والمعايبِ؛ فيَصبِرُ على المصائبِ، ويَستغفرُ مِن الذنوبِ.
وقال: وأما الذّنوبُ فليس لأحدٍ أنْ يَحتجَّ على فِعلِها بِقَدرِ اللهِ، بل عليه أنْ لا يَفعلَها، وإذا فعلَها فعليه أنْ يتوبَ منها كما فعلَ آدمُ عليه السلام.

قال بعضُ السلفِ: اثنان أذْنَبَا، آدمُ وإبليسُ، فآدمُ تابَ فَتَابَ اللهُ عليه واجْتَباه، وإبليسُ أصرَّ على معصيتِه وأحتجَّ بِالقَدَرِ فلُعِنَ وطُرِدَ، فمن تابَ مَنْ ذنْبِه أشْبَه بآدمَ، ومَنْ أصرَّ وأحتَجَّ بِالقَدَرِ أشْبَه إبليسَ، ومَن تابَ لا يَحسُنُ لَومُه على ذَنْبِه الذي صَدَر منه. اهـ.
(رَفْعُ الشُّبهةِ والغَررِ عمّن يَحتجُّ على فعلِ المعاصيِ بِالقَدَرِ)

والذي يَحتَجُّ بِالقَدَرِ على الذّنوبِ والمعاصي مَحْجُوجٌ بِفِعلِه هو! لأنه لو رأى أسَدًا أو حَرِيقًا لَفَرَّ مِنه، وما وَقَف كَالْخَشَبةِ، ولا احتَجَّ بِالقَدَر، ولا قال: إنْ كان مَكْتُوبا عليه أنْ يأكُلَه الأسدُ، أو يُصيبَه الحريقُ فسَوف يُصيبُه.

ولذا قال عمرُ رضي الله عنه: نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصْبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ رواه البخاري ومسلم.


قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلا سَرَقَ، فَقَالَ لِعُمَرَ: سَرَقْتُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَأَنَا أَقْطَعُ يَدَكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. اهـ.

مسألة: أهلُ السعادةِ وأهلُ الشقاوةِ والقَدَرُ السّابقِ:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلاّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً. فَقَالَ رَجُل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. فقَال: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى ﴾ [الليل: 5، 6]؛ رواه البخاري ومسلم.


وسُئلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فِيمَا نَعْمَلُ، أَفِي شَيْءٍ قَدْ خَلا أَوْ مَضَى أَوْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ الآن؟ قال: فِي شَيْءٍ قَدْ خَلا وَمَضَى. فَقَال الرَّجُلُ أَوْ بَعْضُ الْقَوْم: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قال: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ. رواه الإمام أحمد وأبو داود، وصححه الألباني والأرنؤوط.

والإنسانُ لا يعلَمُ ما كُتِبَ له مِن سعادةٍ وشقاوةٍ، ولذا كان مِن دُعاءِ الصحابةِ سؤالُ اللهِ أن يُثْبِتَهُم في أهلِ السعادةِ.
قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه وهو يطوفُ بالكعبةِ: اللهم إنْ كُنتَ كَتَبْتَني في أهلِ السعادةِ فأثْبِتْني فيها، وإن كُنتَ كَتبتَ عليَّ الذّنبَ والشِّقوةَ فامْحُني وأثبِتْني في أهلِ السّعادةِ، فإنك تَمْحو ما تشاءُ وتُثْبِتُ وعندك أمُّ الكتابِ. رواه البخاري في "التاريخِ الكبيرِ" وابنُ جرير في " التفسير ".

وكان ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه يقولُ: اللهم إن كُنتَ كَتَبْتَنِي في أهلِ الشقاوةِ؛ فامْحُني، وأثْبِتْني في أهلِ السعادةِ. رواه ابنُ جريرٍ في " التفسير "، والطبرانيُّ في " الكبير".

والسعادةُ إنما تُنالُ بأسبابِها.
قال ابنُ القيَّمِ: وَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلْقَ إِلَى قِسْمَيْنِ: سُعَدَاءَ، وَأَشْقِيَاءَ، فَجَعَلَ السُّعَدَاءَ هُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالأَشْقِيَاءَ هُمْ أَهْلُ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ.

فَالسَّعَادَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالشَّقَاوَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ...

فَسُبْحَانَ مَنْ لا يَسَعُ عِبَادَهُ غَيْرُ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَتَغَمُّدِهِ لَهُمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَيْسَ إِلاّ ذَلِكَ أَوِ الْهَلاكَ، فَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِمْ عَدْلَهُ فَعَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَإِنْ رَحِمَهُمْ فَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلا يُنْجِي أَحَدًا مِنْهُمْ عَمَلُهُ. اهـ.

وقال أيضا: مَنْ مَلأَ قَلْبَهُ مِنَ الرِّضَا بِالْقَدَرِ: مَلأَ اللَّهُ صَدْرَهُ غِنًى وَأَمْنًا وَقَنَاعَةً، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِمَحَبَّتِهِ، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.

وَمَنْ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنَ الرِّضَا: امْتَلأَ قَلْبُهُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَاشْتَغَلَ عَمَّا فِيهِ سَعَادَتُهُ وَفَلاحُهُ.
فَالرِّضَا يُفَرِّغُ الْقَلْبَ لِلَّهِ، وَالسُّخْطُ يُفَرِّغُ الْقَلْبَ مِنَ اللَّهِ. اهـ.

ولا يعلَمُ الإنسانُ أيضا: هل كُتِبَ عليه الفَقرُ أو الغِنى؟ وهو مع ذلك يَسْعى – وربما سَعْيًا حَثِيثًا – في طَلَبِ الرّزقِ، ولم يقُلْ: كُتِبَ عليّ الفَقْرُ!

فلا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يعمَلَ السوءَ بِحُجّةِ أنه كُتبَ عليه أنَّه مِنْ أهلِ الشقاوةِ.

وكذلك الهُدى والضلالُ: على الإنسانِ أنْ يَسْعى للهُدى، ويجتَنِبَ الضلالَ؛ لأنه مَأمُورٌ بذلك.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.43 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.96%)]