3- وفصاحة المتكلم[1]: ملَكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بكلام فصيح في أي غرض كان[2].
و(البلاغة) في اللغة: الوصول والانتهاء، يقال: بلغ فلان مراده إذا وصل إليه، وبلغ الركب المدينة إذا انتهى إليها.
[1] مرَّ علينا فصاحة الكلام، وبقي فصاحة المتكلم.
[2] وهي - أي: فصاحة المتكلم - نوعان:
النوع الأول: غريزة: يمن الله بها على من يشاء من عباده، فيجعله فصيحًا، قوي الكلام، قوي الإقناع.
النوع الثاني: مكتسبة: وذلك بالتمرُّن على الخطابة، ولو أن تخرج إلى البر وتستحضر الأشجار حولك كأنهم رجال، ثم تخطب فيهم.
* * * *
فالفصاحة إذن نوعان:
1- فصاحة غريزة: يمن الله بها على من يشاء من عباده، فتجد المتكلم طالب علم صغيرًا، ومع ذلك يخطب الخطبة البليغة العظيمة، وتجد بعض الناس عالمًا كبيرًا وفقيهًا نحريرًا[5]، ومع ذلك لا يكاد يتكلم إلا كلامًا معقدًا ركيكًا.
وأيضًا بعض الناس يكون فصيحًا في الكتابة، غير فصيح في الخطابة، وقد حكى لنا [شيخنا تلميذ شيخنا ابن سعدي رحمهما الله][6]: أن الشيخ محمد رشيد رضا صاحب القلم السيال المعروف كان إذا تكلم لا يتناسب كلامه مع كتابته، بل إن كلامه كان ضعيفًا جدًّا، وإن شئت أن تعرف ذلك فانظر إلى كلام ابن الجوزي رحمه الله الواعظ المشهور، وإلى كلام ابن تيمية، تجد بينهما فرقًا من حيث التأثير، لا من حيث القوة المعنوية، والاستدلال، والأدلة.
فابن الجوزي يحضر عشرات الآلاف في خطبته، وربما يموت بعض الناس من شدة تأثره، وابن تيمية لا يبلغ هذا المبلغ.
وقول المؤلف رحمه الله: في أي غرض كان، هذه نقطة مهمة؛ لأن بعض الناس يكون فصيحًا في غرض من الأغراض، غير فصيح في غرض من الأغراض.
تجده مثلًا إذا تكلم في باب الأصول، يكون فصيحًا جيدًا، وإذا تكلم في الفقه يكون رديئًا، والعكس.
والخلاصة الآن: أن فصاحة المتكلم هي قدرته على التعبير عما في ضميره بكلام فصيح، والكلام الفصيح يكون فصيحًا في نفسه، وفصيحًا في كلماته؛ يعني يشتمل على فصاحة الكلمة، وفصاحة التركيب.
وتقع في الاصطلاح وصفًا للكلام والمتكلم[1].
1- فبلاغة الكلام: مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته[2].
[1] هنا سقط شيء من الفصاحة، هو فصاحة الكلمة؛ وذلك لأن البلاغة لا تكون إلا في الكلام المركب بخلاف الفصاحة؛ ولذلك أسقط هنا فصاحة الكلمة، ولكن مع ذلك لا بد أن يكون الكلام البليغ فصيحًا.
فالفصاحة ملازمة لنا في كل شيء، وإذا فُقدت الفصاحة فقدت البلاغة، وإن فقدت البلاغة، فقد تفقد الفصاحة، وقد لا تفقد.
[2] إذن: مطابقته لمقتضى الحال مهمة جدًّا، وهي من الحكمة.
فعلى سبيل المثال: لو رأيت إنسانًا غضبان متكدرًا، فإنك لا تورد عليه من الكلام ما يزيده همًّا وغمًّا؛ لأن هذا ليس ببلاغة، وإنما تخاطبه بما تقتضيه حاله.
ولهذا قال: مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، وهو لا يكون فصيحًا في الكلام إلا بفصاحة كلماته.
* * * *
والحال - ويسمى بالمقام -: هو الأمر الحامل للمتكلم على أن يورد عبارته على صورة مخصوصة.
والمقتضى - ويسمى الاعتبار المناسب -: هو الصورة المخصوصة التي تورد عليها العبارة.
مثلًا: المدح حال يدعو لإيراد العبارة على صورة الإطناب، وذكاء المخاطب حال يدعو لإيرادها[1] على صورة الإيجاز.
فكل من المدح والذكاء حال، وكل من الإطناب والإيجاز مقتضى، وإيراد الكلام على صورة الإطناب أو الإيجاز مطابقة للمقتضى[2].
2- وبلاغة المتكلم: ملَكة يقتدر بها على التعبير المقصود، بكلام بليغ، في أي غرض كان.
[1] أي: إيراد العبارة.
[2] قوله: للمقتضى؛ أي لمقتضى الحال؛ فالإنسان الذكي لا يحتاج أن تردد عليه الكلام وتطول له؛ لأنه ذكي، لو تردد عليه انتقضك.
وفي حال المدح: طول العبارة، وأكثر من المدح؛ ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم حين يسأل الله، يسأل بإطناب وتطويل:
فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله؛ دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره))[7].
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول بين التشهد والتسليم، وكان من آخر ما يقول بينهما: ((اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني؛ أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت))[8].
وفي الدعاء للميت كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذَكَرنا وأُنثانا، وشاهدنا وغائبنا...))؛ الحديث[9].
ويعرف التنافر بالذوق، ومخالفة القياس بالصرف، وضعف التأليف والتعقيد اللفظي بالنحو، والغرابة بكثرة الاطلاع على كلام العرب، والتعقيد المعنوي بالبيان، والأحوال ومقتضياتها بالمعاني.
فوجب على طالب البلاغة معرفة اللغة، والصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، مع كونه سليمَ الذوق، كثيرَ الاطلاع على كلام العرب[1].
* * * *
مع أنه يغني عن كل هذا أن يقول: (لحيِّنا وميتنا)؛ لأن كل هؤلاء إما أحياء، وإما أموات.
وكل هذا إطناب؛ لأن المقام يقتضيه؛ إذ إنك تخاطب أحب من تخاطبه، وهو الله عز وجل؛ فلكل مقام مقال.
[1] إذا كان علم البلاغة يتضمن كل هذا (اللغة - والصرف - والنحو - والبيان - والمعاني - وكون الإنسان سليم الذوق، كثير الاطلاع على كلام العرب)، لكان لنا أن نقول من الآن: رجعنا، ولا داعي للبلاغة، لكني أقول لكم: هذا غير صحيح أبدًا، وستعلمون ذلك إن شاء الله من دراسة هذا الفن؛ فهذا الفن الإنسان بذوقه يشتاق إليه، وتجده نشيطًا دائمًا في قراءته، وسيتبين ذلك إن شاء الله.
[1] سئل الشيخ رحمه الله في هذه الأشرطة: أنه قد يكون في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الألفاظ الغريبة، حتى إنه من الكتب التي ألفها العلماء كتب غريب الحديث، فهل نقول: هذا خلاف الفصاحة؟ فأجاب رحمه الله: لا؛ لأن الرسول لم يأتِ بهذه الكلمة الغريبة إلا في محلها.
[2] بنصب "زيدًا".
[3] اختلف النحاة في إذن هل تكتب بالألف أم النون، وانظر في ذلك تعليقنا على شرح فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله للآجرومية ص 295.
[4] متأخر لفظًا: لأن الهاء تعود على المفعول به، وهو قد أتى ذكره بعدها.
ومتأخر رتبة: لأن رتبة المفعول الذي تعود عليه الهاء متأخرة عن رتبة الفاعل.
[5] النحرير العالم الحاذق في علمه، ج: نحارير؛ المعجم الوسيط (ن ح ر).
[6] هكذا وردت العبارة.
[7] رواه مسلم 1/ 350 (483) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، أبو داود (878) في الصلاة، باب الدعاء في الركوع والسجود، من حديث أبي هريرة.
[8] رواه مسلم 1/ 534 - 536 (771) في الصلاة، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (1509) في الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم، والترمذي (3422) في الدعوات، وقال: حديث حسن صحيح.
[9] رواه الترمذي (1024) في الجنائز، باب ما يقول في الصلاة على الميت، وأبو داود (3201) في الجنائز، باب ما يقوله في الصلاة على الميت، والنسائي 4/ 74 في الجنائز، باب الدعاء، وابن ماجه (1498) في الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (757) والحاكم 1/ 358، ووافقه الذهبي، وهو كما قالوا، وإعلاله بالإرسال لا يضر؛ لأن الذين وصلوه جماعة؛ فروايتهم أرجحُ وأثبت.