معنى الفصاحة والبلاغة
شرح دروس البلاغة للشيخ محمد بن صالح العثيمين
تحقيق الأستاذ أشرف بن يوسف
(1)
(الفصاحة) في اللغة تنبئ عن البيان والظهور، يقال: أفصح الصبي في منطقه، إذا بان وظهر كلامه، وتقع في الاصطلاح وصفًا للكلمة والكلام والمتكلم [1].
1- ففصاحة الكلمة: سلامتها من تنافر الحروف، ومخافة القياس، والغرابة [2].
[1] إذن: موضوع الفصاحة ثلاثة: الكلمة والكلام والمتكلم، كل منها يقال: فصيح، وسيفسرها المؤلف رحمه الله فيما يلي.
[2] فصاحة الكلمة: سلامتها من ثلاثة عيوب:
الأول: تنافر الحروف؛ يعني: بأن تكون حروفها متآلفة، غير متنافرة، والتآلف معناه: أن يسهل النطق بها مجتمعة.
والثاني: مخالفة القياس؛ يعني: القياس الصرفي، فما خالف القياس الصرفي، فإنه غير فصيح.
الثالث: الغرابة.
* * * *
فتنافر الحروف: وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان، وعسر النطق بها، نحو: الظش للموضع الخشن، والهعخع[1] لنبات ترعاه الإبل، والنقاخ للماء العذب الصافي، والمستشزر للمفتول[2].
ومخالفة القياس: كون الكلمة غير جارية على القانون الصرفي؛ كجمع بوق على بوقات، في قول المتنبي:
فإن يكُ بعضُ الناس سيفًا لدولةٍ ♦♦♦ ففي الناسِ بُوقاتٌ لها وطبولُ
إذ القياس في جمعه للقلة: أبواق.
وكمَوْدِدَة في قوله:
إن بنيَّ للئامٌ زَهَدَهْ ♦♦♦ مالي في صدورهم من مَوْدِدَه
والقياس مودة بالإدغام[3].
[1] هذه الكلمة فيها تنافر حروف؛ لأنه يصعب النطق بها؛ إذ إن كل حرف لايتلاءم بما بعده، والظش أهون منها؛ لأن الظش ليس فيها تنافر كثير.
[2] هذه كلها كلمات متنافرة، لكن (النقاخ) ليس فيها تنافر، إلا أنها مستهجنة؛ بمعنى: أن النفس لا ترتاح لها؛ فالماء الصافي العذب لا ينبغي أن يوصف بهذا الوصف.
[3] إذن: الفك في موضع الإدغام يعتبر غير فصاحة؛ لمخالفة القياس.
* * * *
والغرابة: كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، نحو: تكأكأ بمعنى اجتمع، وافرنقع بمعنى انصرف، واطلخم بمعنى اشتد[1].
كذلك (أبواق) إذا قال: بوقات، فهذا مخالف للقياس؛ لأن القياس أن يجمع على (أبواق) لا على (بوقات).
[1] يعني: معناه: لو قال الإنسان: والله اليوم اطلخم الحرب؛ يعني: اشتد، فهذا غريب، يعني غير معهود أن يعبر بكلمة اطلخم عن اشتد.
كذلك "تكأكأ"؛ بمعنى: اجتمع هذا أيضًا غريب، فإذا عبر الإنسان عن "اجتمع" بـ"تكأكأ" قيل: الكلام غير فصيح؛ لغرابة الكلمة.
إذن: تنافر الحروف في الكلمة يُعَدُّ غير فصاحة.
وكونها على خلاف القياس؛ كالفك في موضع الإدغام أيضًا غير فصيح؛ لأنه مخالفة للقياس.
وغرابتها بحيث لا تستعمل إلا قليلًا أيضًا غير فصيح لغرابتها[1]، ومثال ذلك: قول الحريري رحمه الله في مقاماته: وطالما مر بي كلب وفي فمه ثور، ولكنه ثور بلا ذنب.
فلا شيء يفهم من هذا؛ إذ إنه يقال: كيف ثور في فم كلب، وثور مقطوع الذنب أيضًا، فهذا غير معروف.
ويقصد رحمه الله بالثور هنا قرص البقل، فإنه يسمى ثورًا في اللغة العربية، لكن التعبير عنه بكلمة ثور: غريب، فيعتبر هذا غير فصيح.
* * * *
2- وفصاحة الكلام: سلامته من تنافر الكلمات مجتمعة، ومن ضعف التأليف، ومن التعقيد، مع فصاحة كلماته.
فالتنافر: وصف في الكلام يوجب ثقله على اللسان، وعسر النطق به، نحو:
* في رفع عرش الشرع مثلك يشرع *
* وليس قرب قبر حرب قبر *[1]
[1] الآن لو نظرنا إلى الكلمات: عرش، والشرع، ويشرع، نجد أنها كلمات غير متنافرة الحروف، ولكن جمع بعضها إلى بعض يوجب التنافر، فيكون هنا عدم الفصاحة في الكلام، لا في الكلمات.
كذلك أيضًا قول الشاعر: وليس قرب قبر حرب قبر.
فكلمة: "قرب، وقبر" ليس فيهما تنافر بالنسبة للكلمة الواحدة، لكن بالنسبة لضم الكلمات بعضها إلى بعض يكون تنافر، فيقال: الكلام غير فصيح؛ لتنافر كلماته.
* * * *
كريمٌ متى أمدَحْه أمدَحْه والورى ♦♦♦ معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُه وحدي[1]
وضعف التأليف: كون الكلام غير جارٍ على القانون النحوي المشهور[2]؛ كالإضمار قبل الذكر لفظًا ورتبة في قوله:
[1] هذا البيت قوي المعنى؛ إذ إن معناه أني إذا مدحته فالورى كلهم يمدحونه، وإذا لمته لم يلمه أحد؛ فالبيت قوي جدًّا في الثناء على الممدوح؛ لأنه من جهة البلاغة غير فصيح؛ لأن كلماته متنافرة.
[2] انتبه لكلمة المشهور، فلو كان غير جارٍ على القانون النحوي المتفق عليه، فهذا لا يصح أصلًا، فلا يقال: إنه كلام غير فصيح، بل يقال: إنه غير كلام، وغير صحيح.
مثلًا: لو قال قائل: قام زيدًا[2]، فهذا غير جار على القانون النحوي الذي هو أن الفاعل من مرفوعات الأسماء، لكن هل هذا القانون مجمع عليه أو مختلف فيه؟ مجمَعٌ عليه.
إذًا[3]: هذا يعد كلامًا فاسدًا، ولا يقال: إنه كلام غير فصيح، بل يقال: إنه كلام فاسد، تركيب لا تجيزه اللغة بأي حال من الأحوال.
أما عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، فهذا وقع فيه الخلاف هل هو جائز أو لا؟
فلذلك كان عود الضمير إلى متأخر لفظًا ورتبة يجعل الكلام غير فصيح؛ لأنه غير جار على القانون المشهور.
* * * *
جزى بنوه أبا الغيلان عن كِبَرٍ ♦♦♦ وحُسْنِ فعلٍ كما يُجزَى سِنِّمار[1]
والتعقيد: أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد.
[1] قوله: بنوه أبا الغيلان، "بنوه" هو الفاعل والهاء متصلة به، وهي تعود على المفعول به؛ فهي عائدة على متأخر لفظًا ورتبة[4]، وهذا مخالف للقانون المشهور؛ إذ إن الضمير لا يعود على متأخر لفظًا ورتبة.
وقوله: عن كبر، يعني إذا كبر وتقدم به السن.
وقوله: وحسن فعل، يعني أحسن إلى أولاده.
وقوله: كما يجزى سنمار، سنمار هذا رجل بنى قصرًا عظيمًا جدًّا لأحد الملوك، لا يماثله قصر، فلما انتهى من القصر ومن صنعه ولم يبقَ إلا أن يسكنه الملك، صعد بالباني سنمار ثم رمى به من فوق على الأرض؛ خوفًا من أن يبني مثله لأحد غيره.
فكان مضرب المثل، فهو بعد أن أحسن بناء القصر، جزاؤه أن يرمى به من فوق.
وعند العوام مَثَلٌ يقارب هذا، يقولون: رجل حج على بعير من بلده حتى رجع إليه على هذا البعير، فلما وصل إلى البلد ذبحه وجعله وليمة لقدومه من السفر.
فيقول العوام: جزاء ناقة الحج ذبحها، وهذا كلام العوام، وإلا فهو من حيث الشرع لا بأس به، فماذا في رجل ركب بعيرًا وحج عليه ورجع عليه وهو في غنى عنه فذبحه؟!
* * * *
والخفاء:
إما من جهة اللفظ، بسبب تقديم أو تأخير أو فصل، ويسمى تعقيدًا لفظيًّا؛ كقول المتنبي:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ♦♦♦ شيم على الحسب الأغرِّ دلائل[1]
[1] قوله جفخت: أي: علت، وهو فيه شيء من نقص البلاغة، وهو الغرابة؛ إذ إن هذا اللفظ لا يستعمل بهذا المعنى.
وقوله: وهم لا يجفخون بها بهم، هذا الكلام معقد، وأصل البيت: جفخت بهم وهم لا يجفخون بها؛ فـ: (بهم) متعلقة بـ (جفخت)، وبها متعلقة بـ: (يجفخون).
والمعنى: أن هذه الشيم علت بهم، وهم لا يعلون بها؛ لأنهم أشرف منها وأعلى منها.
فإن تقديره: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر، وهم لا يجفخون بها.
* * * *
وإما من جهة المعنى: بسبب استعمال مجازات وكنايات لا يفهم المراد بها، ويسمى تعقيدًا معنويًّا، نحو قولك: نشر الملك ألسنته في المدينة مريدًا جواسيسه، والصواب نشر عيونه[1].
[1] يعني رحمه الله: أن التعقيد إما من جهة اللفظ، وإما من جهة المعنى.
فإذا كان الكلام معقدًا، فليس بفصيح، سواء كان التعقيد لفظيًّا؛ كالتقديم والتأخير الذي يصعب به فهم المعنى.
أو معنويًّا: كأن يأتي بكلمات بعيدة عن المراد، نحو قولك: نشر الملك ألسنته في المدينة.
لو أراد بقوله: ألسنته، خطباءه، لكانت فصيحة غير معقدة، لكنه يريد جواسيسه، وهذا غير فصيح؛ لأنه بعيد عن المعنى؛ إذ إن الجواسيس يسمون عيونًا؛ لأن الجاسوس ينظر في الملامح، وفي الأشياء التي تعد قرائن.
فالمهم: أنه إذا قال: نشر الملك ألسنته في المدينة يريد الجواسيس، فهذا الكلام غير فصيح؛ لأن فيه تعقيدًا معنويًّا؛ إذ إن الألسنة لا يعبر بها عن الجواسيس.
* * * *
وقوله:
سأطلب بُعْدَ الدار عنكم لتقربوا ♦♦♦ وتسكب عينايَ الدموعَ لتجمدا[1]
حيث كنى بالجمود عن السرور، مع أن الجمود يكنى به عن البخل بالدموع وقت البكاء.
[1] هذا البيت معقد تعقيدًا معنويًّا:
فقوله: سأطلب بُعْدَ الدار عنكم لتقربوا؛ لأنه إذا أبعد تبعوه، فهو كلما أبعد قربوا منه.
وقوله: وتسكب عيناي الدموع لتجمدا، وهذا غير فصيح؛ لأنه يريد: تسكب عيناي الدموع لأُسَرَّ، وهذا لا يتناسب مع قوله: لتجمدَا.
* * * *
يتبع