الأدب الرباني في اللقاء الاجتماعي
من خلال سورة الأحزاب
د. مها يوسف جارالله الحسن الجارالله[(*)]
المبحث الثاني
أدب الحديث
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الحديث وآدابه وأنواعه.
المطلب الثاني: أدب الحديث الاجتماعي.
المطلب الأول
معنى الحديث وآدابه وأنواعه
وقبل الشروع في بيان الأدب الثاني وهو (أدب الحديث) لابد من بيان معنى الحديث لغةً واصطلاحاً:
الحديث لغة:
الخبر, يأتي على القليل والكثير.
والحديث من حدثَ: لأنه كلام يحدث منه الشيء بعد الشيء, ورجل حدث حسن الحديث, ورجل حدث نساء, إذا كان يتحدث إليهن.
والحديث: ما يحدث به المحدث تحديثاً, وقد حدثه الحديث وحدثه به. ويجمع على أحاديث على غير قياس, قال الفراء: نربى أن واحد الأحاديث أحدوثة, ثم جعلوه جميعاً للحديث([27]).
الحديث اصطلاحاً:
كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته, أو منامه, يقال له: حديث([28]).
والعلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي: أن الحديث عبارة عن كلمات متصلة ومترابطة تصل الإنسان عن طريق السمع من شخص آخر.
أدب الحديث:
من نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان أن جعل له لساناً ينطق به, وشفتين تعينانه على إخراج الحروف, قال سبحانه: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) ولِسَانًا وشَفَتَيْنِ (9))([29]), واللسان هو وسيلة الاتصال الأولى بين البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأعمارهم, وحتى يستطيع الإنسان استخدام تلك النعمة "اللسان" على الوجه الأمثل, في أموره الحياتية ولقاءاته الاجتماعية والعلمية وغيرها, عليه أن يتحلى بآداب الحديث, وهي متنوعة ومتعددة, كل يعتمد حسب نوعه وطبيعته ومكانه وظرفه.
ونخص في بحثنا أدب الحديث في اللقاء الاجتماعي:
انتقاء الألفاظ الجميلة, وخصوصاً التي يرافقها دعاء طيب, يقول الحق تبارك وتعالى: (وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ)([30]), وتجنب أي من الألفاظ البذيئة, وما يحوم حولها.
أن يكون السؤال عن الصحة والحال, حتى إذا لمس من إجابته ما يدل على ضعفه, أعانه بما يجود, أو استعان بغيره ليعينه.
أن يكون الحديث في الأمور العامة دون الخاصة إلا فيما بين وطلب.
عدم التدخل في الأمور الخاصة لأهل البيت, والسؤال عما لا يعينه؛ ليبلغ شغفه, فيكون طفيلي في معرفة أدق الأمور عن أهل البيت, فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"([31]).
أن يكون الحديث بصوت معتدل, دون نبرة عالية تزعج السامعين؛ لقوله سبحانه وتعالى: (واغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ)([32]).
ولا صوت منخفض جداً, يتطلب تكراره ليصل للحاضرين.
وإن رافق الحديث ابتسامة كان أسرع للقبول, عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحدث حديثاً إلا تبسم"([33]), وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضحك بانت نواجذه – أي سنانه – من غير أن يرفع صوته, وكان الغالب من أحواله: التبسم.
التوسط في الحديث, دون الإطالة, فيأخذ المجلس كله في الكلام, فيدخل فيه الثرثرة واللغو دون علم منه, وقد نهينا عن اللغو في سورة (المؤمنون) في معرض ذكر الحق سبحانه صفات عباده المؤمنين: (والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)([34]).
عدم مقاطعة المتحدث أثناء حديثه, حتى لو كان بعبارة لبقة (مثل كلامك مقطوع إلا بالخير....).
تجنب التجريح والتخطئة والسخرية من كلام المتحدث, فتلك تعطيه صدمة قوية تجنبه الحديث في مجالس أخرى, وحتى التردد عليها في بعض الأحيان قال سبحانه وتعالى: (وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)([35]).
تعقل الكلام قبل النطق به, والتفكر في عواقبه, وتجنب إلقاء الكلام دون روية, حتى لا تسخر نفسك, ومن معك, عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة – ما يتبين فيها – يزل بها في النار, أبعد مما بين المشرق والمغرب"([36]).
الاعتدال في الجلسة أثناء الحديث, دون الاتكاء على المسند.
عدم الانشغال بتنظيف الجوارح أثناء الحديث, سواء (الأسنان, أو الأنف, أو الأذن... وغيرها).
أنواع الحديث:
وفي ذكر أنواع الحديث لا أقصد الحديث في علم المصطلح, وإنما أعني الحديث الدائر بين الناس من العامة والخاصة, في مجالسهم ومنتدياتهم ولقاءاتهم المتواصلة, وفي ظني من الممكن تقسيم الحديث الدائر بينهم إلى أنواع:
أولاً: حديث العامة:
وغالباً ما يدور في الفلك الاجتماعي وما يخص شؤون الأسرة والأبناء من خطبة وزواج وطلاق, وحمل وولادة وتجهيز, وبناء منزل وسكناه, وما يتعلق به, وغالباً ما تتداول تلك المواضيع في المجالس النسائية, عند الكبار في مجلس شاي الضحى, ولدى الأجيال المتعاقبة في إفطار في المطاعم.
ولا تنحصر تلك المواضيع في مجالس النساء, وإنما تتعداها إلى مجالس الرجال في دواوينهم الأسبوعية والشهرية.
ثانياً: حديث الخاصة:
وأعني به أصحاب التخصص في كل مجال, وممكن تقسيمه إلى أنواع:
حديث اقتصادي: الحوائر الدائر بين أصحاب رؤوس الأموال من بيع وشراء في العقارات والأسهم والمحافظ والصناديق التجارية, وكل ما يتعلق باستثمار رأس المال باختلاف صوره ووسائله, وغالباً ما يكون بين الرجال, وإن دخل فيه النساء في الآونة الأخيرة وترأسن بعض مجالس إدارة الشركات التجارية, وشاركن في استثمار المشاريع الصغيرة.
حديث سياسي: هو الحديث الدائر بين رجال الدولة أصحاب السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والرقابية لإدارة زمام أمور الدولة.
ومحوره وضع الأطر السليمة لإدارة شؤون البلاد الداخلية والخارجية ومتابعة الأوضاع المحلية والدولية التي تسير بها البلاد بتعزيز الإيجابي النافع وإصلاح السلبي.
وعادة ما يكون بين الرجال, وإن اشترك فيه بعض النساء.
حديث تربوي: هو الحديث الدائر بين المعلمين والمربين, وأهل الأسرة التربوية في المدارس والمعاهد, ومحوره: الأبناء وأسس تربيتهم التربية الصحيحة السليمة سواء في البيت بين الوالدين أو من يعيلهم, أو في خارجه بين المؤسسات التربوية التعليمية, ووضع الإطار الصحيح في المؤسسات التربوية التعليمية لضمان سلامة المخرجات تربوياً وعلمياً.
حديث علمي: هو الحديث الذي يدور في تخصص معين, سواء أكان طبياً أم هندسياً, قانونياً أو شرعياً, في مسألة جزئية في هذا العلم, وغالباً ما يكون في المؤتمرات العلمية والمؤسسات الخاصة لهذا العلم.
حديث ثقافي: يدور بين النخب في كل مجال, فيدلى كل منهم بدلوه على حسب مجال علمه وتخصصه في الموضوع سواء أكان تاريخياً أو طبيعياً أو استثمارياً أو طبياً أو تعليمياً, وذلك يضيف إلى الجلسة إثراء معلوماتي بين المتحاورين.
المطلب الثاني
أدب الحديث الاجتماعي
قال تعالى: (ولا مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ)([37]).
الإنسان كائن اجتماعي يحب اللقاء بالآخرين, ويأنس في تجاذب أطراف الحديث معهم, ولما كانت الدعوات للمناسبات الاجتماعية الجميلة التي يمر بها المرء في حياته عديدة: من تخرج من الجامعة, واقتران بزواج, واحتفاء بمولود... الخ, كان يصاحبها جلوس وأنس بحديث وتناول طعام.
فيضع الشارع الحكيم أدباً مهماً وراقياً عند إجابة الدعوة, بغض النظر عن نوعها, وهي عدم الاستئناس بالحديث طويلاً, وسواء أكان فيما بين المدعوين أنفسهم أو بينهم وبين صاحب الدعوة.
وهذا ما بينه الحق تبارك وتعالى في دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم لصحابته لوليمة زينب يوم زفافه عليها, والمنهج القرآني في وصفه لتلك الآداب لم يقصرها على مناسبات النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعية فقط, وإنما يسري التخلق بها في جميع مناسبات المؤمنين, لأن الأدب الرباني في تلك الآية محتاج إليه كل بيت من بيوت المؤمنين, وإن تلك الآداب تتعلق بالحياة اليومية, إذا لم يتخلق بها المؤمن ستؤثر سلباً في الآخرين.
أقوال المفسرين في الآية الكريمة:
ولهذا الأدب الثاني من الأدب الرباني في اللقاء الاجتماعي, (أدب الحديث), وقفات ولطائف لدى المفسرين, منها:
عدم الانبساط بعد أكل الطعام:
يقول الإمام الطبري: "ولا متحدثين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناساً من بعضكم لبعض به"([38]).
جرت العادة في اللقاءات الاجتماعية, أن ينبسط المدعوون في الحديث بعد الطعام, ويحلو المجلس بأحاديث بعضهم لبعض, فيطول اللقاء بانبساط الحضور, متناسين أن ذلك يزعج صاحب المنزل, وأن عليه مهمة كبيرة, وهي تنظيف وترتيب المكان بعد اللقاء, وقد يستغرق ذلك وقتاً طويلاً, فيتطلب منه والعاملين معه في المنزل التأخر لساعات متأخرة.
استئناس حديث أهل البيت:
قال الزمخشري: "نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض؛ لأجل حديث يحدث به, أو أن يستأنسوا حديث أهل البيت, واستأنسه تسمعه وتوجسه"([39]).
أضاف صاحب الكشاف أمراً آخر غير الاستئناس للانبساط, وهو الاستئناس لحديث أهل البيت, والمراد به هنا أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم, فمقتضى الجلوس في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه أنس ومتعة وانبساط, خصوصاً مع خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم, ولكن تلك المتعة في الانبساط كانت تزعج النبي صلى الله عليه وسلم, وخصوصاً أن مجلسه صغير.
وقد يكون صاحب الدعوة لبق الكلام حسن الحديث, فيتطلب من المدعوين عدم الإطالة في الجلوس لاستمتاعهم بحديثه, ما لم يطلب هو منهم ذلك.
النهي عن طول الجلوس لمتعة الحديث:
قال النسفي: "نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدث به"([40]).
يضيف الشيخ النسفي سبباً آخر في إطالة الجلوس بعد الانتهاء من الأكل, هو متعة الحديث بينهم, فقد تحلو الأخبار, أو يحلو الحديث بصاحبه, فيستأنس الآخرون له, فيترتب عليه طول الجلوس.
ويؤكده الإمام القرطبي قائلاً: "والمعنى المقصود لا تمكثوا مستأنسين الحديث, كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب"([41]).
قد يكون الحديث ممتعاً, والحوار جميلاً بين أطراف الحضور فيطيلوا الجلوس, وذلك سبب يخفى على الحضور؛ لأن متعة الحديث نتاج شراك جماعي.
مراعاة مشاعر المصطفى صلى الله عليه وسلم:
مكامن النفوس لا يعلمها إلا الله سبحانه من فرح أو ترح, ومن انبساط أو ضيق, ومن هم أو غم, فعلى الرغم من أن المناسبة سعيدة للنبي صلى الله عليه وسلم, وهي دعوة صحابته إلى وليمة زينب, إلا إن المجاملة لها وقت ولها حدود, لابد أن يعرف المرء ذلك, ويقرأ تقاسيم وجه الداعي إن كان ذا نباهة.
وأراد الحق تبارك وتعالى أن يلفت المؤمنين إلى تلك المشاعر الخفية التي تدور في نفس المصطفى صلى الله عليه وسلم من ضيق وانزعاج لطول الجلوس.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "وكان بعضهم يجلس بعد الطعام, سواء أكان قد دعي إليه, أم هجم هو عليه دون دعوة, ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي صلى الله عليه وسلم وأهله"([42]).
الأدب الرباني:
يقول ابن الجوزي: "ولاتدخلوا مستأنسين, أي طالبي الأنس لحديث, وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدثون طويلاً, وكان ذلك يؤذيه, ويستحيي أن يقول لهم: قوموا, فعلمهم الله الأدب"([43]).
المدرسة القرآنية عظيمة في آدابها وأخلاقها, فلم تترك صغيرة ولا كبيرة, ولا أمراً ظاهراً ولا خفياً, إلا تناولته بالإيضاح والبيان, وذلك يشير إلى عظم سعة علم الخالق سبحانه وتعالى, وأن تلك الآداب تحتاجها البشرية على مر العصور, وليس مقتصرة على جيل النبوة.
ضوابط الحديث في اللقاء الاجتماعي:
من خلال ما تم عرضه من أقوال المفسرين لقوله تعالى: (ولا مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) في مجلس بيوت النبي صلى الله عليه وسلم, يمكننا وضع بعض ضوابط للحديث في اللقاء الاجتماعي الدائر بين عموم الناس, وهي كالتالي:
الانبساط في الحديث والمتعة به تكون قبل تقديم الطعام.
الانتباه إلى تقاسيم وجه الداعي, فقد يبدو منها عجلته بخروج المدعوين, أو إرهاقه من تعب اليوم.
يفضل لصاحب الحديث الممتع أن لا يطيل الجلوس بعد انتهاء الطعام.
من يستمتع بحديثه فعليه أن يتقدم في الخروج بعد انتهاء الطعام, حتى لا يدع فرصة للآخرين في إطالة الجلوس.
فإن كان ولابد من الحديث بعد الطعام, فلابد من الاختصار.
كثيراً ما تحلو الأحاديث عند باب البيت, فلابد من الانتباه إليها, واحرص أن لا يكون لك نصيب منها.
مراعاة الأعراف الاجتماعية في الانبساط أو التقليل من الحديث حسب طبيعة المجلس.
المبحث الثالث
أدب الحياء
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الحياء, حقيقته وأهميته.
المطلب الثاني: أدب الحياء ومجالاته.
المطلب الأول
معنى الحياء, حقيقته وأهميته
قبل الشروع في بيان حقيقة أهمية الأدب الثالث وهو (الحياء), لابد من أن نقف على معنى الحياء لغة وشرعاً.
معنى الحياء في اللغة:
الحاء والياء والحرف المعتل من الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة([44]).
وقال ابن منظور: التوبة والحشمة, قد حيى منه حياء واستحياء واستحى([45]).
والحياء من الاستحيا ممدود, ورجل حيي, وامرأة حيية, يقال: استحيا الرجل واستحيت المرأة([46]).
والحياء بالمد: الحشمة, وهو أيضاً: انقباض النفس من القبيح مخافة اللوم, وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح وعدم المبالاة بها, والخجل الذي هو انحصار النفس عن النفس مطلقاً.
وإذا وصف به الباري تعالى, فالمراد به: الترك اللازم للانقباض, كما أن المراد منه رحمته وغضبه, إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما([47]).
والحياء شرعاً:
انقباض النفس عن القبائح وتركه([48]).
وهو خلق يبعث على ترك القبيح, ويمنع من التقصير في حق ذي حق, أو هو الامتناع من فعل ما يعاب.
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي, أن الحياء عملية انقباض في النفس, وعادة ما يكون الانقباض من فعل قبيح, وتخشى النفس من اللوم.
ويزيد المعنى الاصطلاحي أن الحياء يوجب ترك الأفعال القبيحة, والامتناع عن الأفعال التي يعاب عليها فاعلها, ومن التقصير في حق من له عليه حق.
حقيقة الحياء:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "استحيوا من الله عز وجل حق الحياء", قال: قلنا: يا رسول الله, إنا لنستحي والحمد لله, قال: "ليس ذلك, ولكن من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى, وليحفظ البطن وما حوى, وليذكر الموت والبلى, ومن أراد الآخرة, ترك زينة الحياة الدنيا, فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله عز وجل حق الحياء"([49]).
بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن حقيقة الحياء تكمن في ثلاثة مواطن, وهي:
حفظ الرأس وما وعى: فكل عضو وجارحه احتواها الرأس لابد من صيانتها من الدنس, العقل بما اعتقد به وآمن, واللسان بما تكلم به ونطق, والعين بما نظرت إليه وأبصرت ، والأذن بما استمعت إليه وأنصتت, والأنف بما شم به واستنشق.
حفظ البطن وما حوى: في حفظ البطن من الأكل في كل ما فيه شبهة حرام أو حرام في ذاته, حتى لا ينبت الجسد من الحرام.. فيحرم من استجابة الدعاء.
ذكر الموت والبلى: ولعل في ذكر هادم اللذات سبيلاً لاجتناب المحرمات فيستحي من الله أن تقبض روحه وهو على معيصة.
وتلك الأمور الثلاثة السالفة الذكر.. ليس بالسهل منالها.. وليس بالصعب الوصول إليها.. فهي أمور متعاقبة فمتى سلم الرأس.. حفظ البطن.. وذكر الموت, وتلك حقيقة الحياء.. في ترك زينة الحياة الدنيا, ليتمتع بنعيم الآخرة.
فتلك المعادلة الناجحة مع التجارة الرابحة.
قال الغزالي: والحياء بهذا الشمول هو الدين كله, فإذا أطلق على طائفة من الأعمال الجميلة فهو جزء من الإيمان وأثر له([50]).
أهمية الحياء:
من أجل الأخلاق الإسلامية, التي ورد فيها كثير من الأحاديث التي تدعو صاحبها للتحلي, والتمسك بها, هو خلق الحياء, فهو خلق نبيل يرفع صاحبه ويرتقي به عن الدنائس القولية منها أو الفعلية, وليس ذاك فقط, وإنما يمنع صاحبه من التقصير في حق من له عليه حق صغر أم كبر, ارتفع أم وضع, وتكمن أهمية الحياء في الآتي:
أن الحياء هو خلق الإسلام:
وهو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: في الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه: "إن لكل دين خلقاً, وخلق الإسلام الحياء"([51]).
فالغالب على أهل كل دين سجية سوى الحياء, والغالب على أهل ديننا الحياء؛ لأنه متمم لمكارم الأخلاق, وإنما بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم لإتمامها, ولما كان الإسلام أشرف الأديان أعطاه الله أسنى الأخلاق وأشرفها, وهو الحياء([52]).
إن الحياء من الإيمان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة, والحياء شعبة من الإيمان"([53]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحياء والإيمان قرناء, إذا رفع أحدهما رفع الآخر"([54]).
الأحاديث تشير إلى علاقة الحياء بالإيمان, ففي الأول: تبين أنه أحد شعب الإيمان, وفي الثاني: يشير إلى ملازمة الحياء للإيمان, وأنه لا ينفك عنه, وإذا قل حياء المرء فمعناه: ضعف إيمانه, وإذا اشتد أو عظم حياؤه فمعناه زاد إيمانه.
فالعلاقة متينة, حيث إنه أحد شعب الإيمان, وأنهما متلازمان, وهذا يبين مكانة الحياء وعظم أهميته.
الحياء لا يأتي إلا بخير:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير"([55]), أي من استحى من الناس أن يروه يأتي بالفجور وارتكاب المحارم فذلك داعيه إلى أن يكون أشد حياء من الله سبحانه وتعالى, ومن استحى من ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه, والحياء يمنع من الفواحش ويحمل على البر والخير, كما يمنع الإيمان صاحبه من الفجور ويبعده عن المعاصي([56]).
يتبع