عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 16-02-2021, 04:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,002
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أثر النظرة المقاصدية في فهم النص القرآني

أثر النظرة المقاصدية في فهم النص القرآني




د . أشرف محمود عقلة بنى كنانة ([·])


ثانيا - فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه:

قد وضع الأصوليون في ذلك القاعدة التالية : اللفظ المحتمل لمعنيين إذا أضيف إلى محل ، يحمل على أليق محتملي اللفظ المحل ([82])، وللقاعدة لفظ آخر هو : إن مطلق اللفظ يحمل على أليق محتمليه بالمحل ([83]). أي : يحمل العهد بما هو مثلة ([84])

ومن الأمثلة على هذه القاعدة : الاستدلال بقول الله جل وعلا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ وأَخَوَاتُكُمْ وعَمَّاتُكُمْ وخَالاتُكُمْ)( النساء: 23) ، على أن المحرم من هؤلاء المذكورات" هو: ذواتهن ([85]).
فالتحريم - هنا - متعلق بنفس الأمهات والبنات والعمات والخالات ، والتحريم أضيف إليهن ، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان ، وانما يمكن إضافته إلى الأفعال ، والفعل غير مذكور في الآية ؛ فالأم مثلا: هل يحرم منها النظر؟ أو المضاجعة ؟ أو الوط ء؟؛ فلا يدري أي فعل يحرم منها، فلا بد من فعل، وتلك الأفعال كثيرة ، وليس إضافة التحريم إلى بعض الأفعال التي يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات أولى من بعض؟ فالآية على ذلك مجملة محتاجة إلى البيان ([86]). فهذا الاحتمال في معنى الآية ؛ وهو أن المراد من المحرمات هو: ذواتهن ، جعل هذا الفريق من العلماء يقولون بأنها مجملة تحتاج إلى البيان ، بينما لم يرتض ذلك فريق من العلماء، وقالوا: إن ما ذهب إليه أصحاب هذا القول من حمل التحريم في المذكورات على الذوات ، احتمال بعيد؛ وهو مرجوح لعدة أمور منها:
أنه الظاهر من جهة عرف الاستعمال ؛ فإن الحكم المضاف إلى العين ينصرف لغة وعرفا إلى ما أعدت له تلك العين من الأفعال " فإذا قيل: حرصت عليكم الميتة والدم مثلا، فهم منه كل أحد أن المراد منه تحريم اكلهما، واذا قيل: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ وأَخَوَاتُكُمْ وعَمَّاتُكُمْ وخَالاتُكُمْ )( النساء: 23)؛ فهم منه كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن، لا ذواتهن ([87]).
أن سياق الآيات يدل على أن المحرم من هؤلاء النساء، إنما هو النكاح لا غير؛ فقد تقدم على هذه الآية قوله جل وعلا: (ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ) (النساء: 22) ؛ فآية تحريم هؤلاء المذكورات جاءت في سياق الحديث عن النكاح ، فعليه يحمل المعهود من الخطاب ([88]).
لذلك يقال : إن لفظة (الحرمة) إذا وردت ؛ فينظر إلى المحل الذي أضيفت إليه ، فإذا أضيفت إلى الأعيان ، حملت على حرمة بيعها، واذا أضيفت إلى النساء، حملت على حرمة نكاحهن، وإذا أضيفت إلى الطعام ، حملت على حرمة اكله ([89]).

فيحمل التحريم في قوله تعالى : (ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ)( النساء: 23). على حرمة النكاح " لأنه أضيف إلى النساء.
ويحمل التحريم في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنزِيرِ ومَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)( المائدة: 3)، على حرمة الأكل ؛ لأنه أضيف إلى الطعام .
فالتحريم في هذه الآيات يحمل على الفعل المعهود؛ وهو الاستمتاع بالأم واكل الميتة ، وصار ذلك كالحقيقة العرفية لمبادرة الذهن إليه خصوصا ([90])، ومن المعروف من كلام العرب بالاستقراء: أن مرادهم في مثل لفظة "التحريم" عند الاطلاق ، إنما هو الفعل المقصود من ذلك، كالأكل في المأكول، والشرب في المشروب ، واللبس في الملبوس ، والوطء في الموطوء؛ فاذا قيل: حرم عليكم لحم الخنزير أو الخمر أو الحرير أو الأمهات ، فهم منه ما يسبق إلى الفهم بحسب عرف الاستعمال عند العرب ([91]).
ثالثا - معرفة معاني القيود الواردة في الخطاب القرآني:

إن القيود الواردة في النص القرآني لا بد وأن يكون لها غاية من إيرادها، والا كانت عبثا، والقرآن منزه عن العبث ؛ فالقيود المبثوثة في الخطاب إذا وردت فيه، لا بد وأن تكون مقصودة للمتكلم ، ولا بد أن يستهدف منها تحقيق غرض معين؛ إذ من المحال أن يكون المتكلم قد أتى بها اعتباطا من غير قصد، ولا يترتب عليها أي غرض، والمتتبع لأغراض القيود التي يرشد إليها النص القرآني يجدها كثيرة ، ومن هذه القيود ([92]):
التشنيع والتنفير من تصرف قائم في المجتمع ، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ) ( آل عمران : 130).
الآية ظاهرة في تحريم الربا؛ والقيد في الآية : (أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً )(آل عمران : 130 ) ليس المقصود به تحريم الربا حال كونه أضعافا مضاعفة؛ فيجوز اكل الربا إذا كان ليس أضعافا" لأن هذا القيد ورد بغرض التشنيع والتنفير من تصرف كان قائما في المجتمع ؛ وهو اكل الربا بشكل مضاعف.
والأضعاف في الآية : جمع ضعف، والضعف اسم يقع على العدد؛ بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر؛ وضعف الشيء مثله ، وضعفاه مثلاه ، وأضعافة أمثاله . ومضاعفة : صفة للأضعاف، أي هي أضعاف يدخلها التضعيف.
والآية تتحدث عن حال أكلة الربا في الجاهلية الذين كانوا يربون الدين إلى أجل؛ فإذا حل الأجل ، قال الدائن للمدين : زدني في المال حتى أزيدك في الأجل؛ لذلك جاءت الآية متضمنة لمعنى التوبيخ والتشنيع على فعلهم هذا، ولتنفير الناس أن يفعلوا مثل فعلهم ([93]).
فخلص من ذلك أن قوله : (أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ) آل عمران : 130 ) قيد ليس المقصود به تقييد حرمة الربا حال كونها أضعافا مضاعفة ؛ ليكون أصل الربا غير منهي عنه، بل المقصود حكاية الواقع الذي كان عليه الناس في الجاهلية من الجريان على هذه العادة القبيحة ؛ فلأجل ذلك لا يفيد هذا القيد مفهوما" لأن شرط استفادة المفهوم من القيود: أن لا يكون القيد الملفوظ به جرى لحكاية الواقع " فليس مصب النهي عن اكل الربا هو المفهوم الظاهري لهذا القيد، حتى يتوهم متوهم أنه إن كان الربا دون الضعف لم يكن حراما ([94]).
وبعد معرفة معنى هذا القيد ومقصود الشارع من إيراده ، لا يحل لأحد أن يخرج القيد عن غرضه فيعود على أصل النص بالإبطال، وليس هذا القيد على بابه في المخالفة حتى يأتي جاهل بسياق النص ومقصوده؛ فيقول : يجوز اكل الربا إذا لم يكن أضعافا مضاعفة " فيحفل النص ما لا يحتمل " لأن هذا القيد كان الغرض منه التنفير من الوضع الذي كان قائما في الجاهلية ؛ وبانتباه المجتهد لمعنى هذا القيد يتحقق المقصود الأصلي من النص ، ويفهم النص فهما صحيحا مطابقا للواقع.
التعظيم ، مثل قوله تعالى في الأشهر الحرم : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ )(التوبة: 36).
فالآية تتحدث عن عمل من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين؛ وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله تعالى بحسب أهوائهم ؛ فكان ذلك زيادة في كفرهم وحسرتهم ؛ فقال الله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)( التوبة : 36) ؛ أي: لا تظلموا أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعات ، ولا تجعلوا الحرام حلالا، والحلال حراما، ولا تستحلوا القتال في جميع أشهر السنة ، سواء في الأشهر الحرم أو في غيرها، والمقصود منع الانسان من الاقدام على الفساد مطلقا في جميع العمر؛ وانما خص الله تعالى الأشهر الحرم بالنهي عن القتال فيها وقيد ذلك بقوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ )(التوبة: 36) تعظيما لهذه الأشهر، والله سبحانه يميز بعض الأوقات على بعض؛ فارتكاب المعصية فيهن أعظم وزرا؛ كارتكابها في الحرم وحال الاجرام ، كما عظم الله تعالى أشهر الحج ؛ فقال : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ )(البقرة: 197)، وإن كان الرفث والفسوق والجدال محرما في سائر الشهور؛ فهذا القيد خرج مخرج التعظيم ([95]).
وهذا قيد آخر له معنى غير معنى الفيد السابق ، والغفلة عن سياقه ومقصوده يؤدي إلى فساد المعنى ؛ فقد حزم الله تعالى الفساد بجميع أشكاله وصوره وفي جميع الأوقات ، وفي كل مراحل العمر، وهذا أمر متقرر في الشريعة ، وليس المقصود من حصر الظلم في الأشهر الحرم تقييد ذلك بها دون غيرها، وانما المقصود بيان عظمة هذه الأشهر واظهار ميزتها على غيرها؛ فلا يجوز إخراج هذا القيد عن معناه ، والقول بإباحة ظلم النفس في غير هذه الأشهر، وبهذا يظهر أن معرفة معنى هذا القيد تعين على فهم النص فهما صحيحا في ضوء المقصد الأصيل منه.
الامتنان ؛كقوله تعالى : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًا) النحل: 14). فذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض ؛ منبها على أن خلقه لما في الأرض مع ما فيه من النعم العظام ؛ فيه الدلالة الواضحة لمن يذكر ويتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده ([96]).
واللحم الطري هنا؛ هو السمك ، والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل ، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على وجوب المسارعة إلى أكله" كيلا يتسارع إليه الفساد، وللإيذان بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء زعاق، ولذلك عبر بقوله: (طَرِيًا )( النحل: 14) للامتنان على عباده بتسخيره ذلك لهم ([97]).
ولا يقال : إن التقييد بقوله : (لَحْمًا طَرِيًا ) النحل: 14) يفهم منه: أن اليابس كالقديد مما في البحر لا يجوز اكله، بل يجوز اكل القديد مما في البحر بإجماع العلماء، وقد قرر علماء الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة، كون النص مسوقا للامتنان ؛ فإنه إنما قيد بالطري ؛ لأنه أحسن من غيره ؛ فالامتنان به أتم ([98]).
ولا يخفى أن من أراد فهم هذا النص القرآني دون معرفة المقصود الأصلي لمعنى القيد فيه، أنه سيفهمه على غير مراد الشارع له من الامتنان على خلقه بتسخير لحم البحر الطري لهم، وسيلزم من ذلك القول بتحريم ما لم يحرمه الله تعالى من سائر لحوم البحر التي لم تتصف بالطراوة ، وفي هذا تحميل للنص ما لا يحتمل ، كان سببه الغفلة عن معنى هذا القيد في النص القرآني وطلب التوجيه الصحيح له.
والخلاصة :

إن الغفلة عن معاني هذه القيود وقصد الشارع منها، والتعامل معها على بابها في المخالفة ، يؤدي إلى فهم الآيات فهما خاطئا، ويعطيها حكما مغلوطا لم يكن مقصودا للشارع حينما تكلم به؛ وعليه يكون مؤدى الآيات :
جواز اكل الربا إذا لم يكن أضعافا مضاعفة.
حرمه مخالفة أحكام الله تعالى والقتال في الأشهر الحرم ، وجوازه في سائر اشهر السنة.
إباحة اللحم الطري من لحوم البحر، وحرمة اكل اللحم غير الطري من حيوانات البحر.
وكل هذه المعاني لم يقصدها النص القرآني ، وفيها تحميل له لما لم يرده ألبتة ؛ ولا شك أن مراعاة مقصود الشارع من النص القرآني في ضوء هذه القيود يؤدي إلى توجيهه توجيها صحيحا، ويحقق الهدف الأصيل الذي قصده الشارع حينما تكلم بهذه النصوص ؛ ورغم أن فهم الألفاظ على ظواهرها من القواعد الصحيحة التي تحاكم إليها الألفاظ ؛ إلا أن ذلك لا يجوز أن يكون بمعزل عن المقصد الأصيل من سوق النص.
المطلب الثاني

أثر المعرفة بالمقاصد في فهم أحكام القران
أولا: رفع التعارض بين ظواهر القرآن الكريم:

فمن ذلك التعارض الظاهري الواقع بين قوله تعالى : (والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا)( البقرة 234) ، وبين قوله تعالى : (وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ( الطلاق: 4).
فالآيتان تتحدثان حول عدة الحامل المتوفى عنها زوجها" وقد اختلف الصحابة في ذلك على قولين:
القول الأول : قول ابن عباس ، وعلي - رضي الله عنهما -" قالا: تعتد بأبعد الأجلين ؛ بمعنى : أنها إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها، ولا تحل بمجرد الوضع ، وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع ([99]).
القول الثاني : قول أبو سلمة ، وأبو هريرة ، وابن مسعود - رضي الله عنهم -؛ قالوا: تعتد بوضع الحمل ؛ بمعنى : أن الحامل إذا مات عنها زوجها تحل بوضع الحمل ، وتنقضي عدة الوفاة ، وهذا هو رأي جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار ([100]).
وقد رجح كل قوله بعدة أدلة " منها: أن ابن عباس ، وعليا - رضي الله عنهما -؟ احتجا بعموم قول الله تبارك وتعالى : (والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا ) (البقرة: 234) وبعموم قوله تعالى وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (الطلاق: 4).
ووجه الدلالة : أنه ينبغي العمل بالآيتين اللتين قد تعارض عمومهما" فالآية الأولى عامة في كل من مات عنها زوجها؛ فيشمل الحامل وغيرها، والآية الثانية عامة تشمل المطلقة والمتوفى عنها زوجها، فالآيتان عامتان من وجه، خاصتان من وجه؛ فكان الاحتياط أن لا تنقضي العدة إلا بآخر الأجلين ([101]).
أما أبو سلمة ، وأبو هريرة ، وابن مسعود - رضي الله عنهم -؛ فقد رجحوا قولهم بعدة أدلة من السنة ومن مقاصد الشريعة الاسلامية " فمن ذلك: ما أخرجه الامام البخاري في صحيحه أن أبا سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس ، وأبو هريرة جالس عنده ؛ فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة " فقال ابن عباس : آخر الأجلين ، قلت أنا: (وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)( الطلاق: 4)، قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي، يعني أبا سلمة ؛ فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها؛ فقالت : قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى ؛ فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها ([102]).
وأخرج أيضا عن حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وكان أصحابه يعظمونه ؛ فذكر آخر الأجلين، فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة ؛ فقال : فغمز لي بعض أصحابه ، قال محمد: ففطنت له؛ فقلت : إني إذن لجرئ، إن كذبت على عبد الله بن عتبه وهو في ناحية الكوفة ؛ فاستحيا وقال : لكن عمه لم يقل ذاك؛ فلقيت أبا عطية مالك بن عامر فسألته ، فذهب يحدثني حديث سبيعة ؛ فقلت : هل سمعت عن عبد الله فيها شيئا؟؛ فقال : كنا عند عبد الله بن مسعود؛ فقال : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة ؟ لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى : (وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)( الطلاق: 4) ([103]).
ففي مقولة ابن مسعود رضي الله عنه: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة ؟ تظهر أثر النظرة المقاصدية في فهم نصوص القرآن الكريم " وقد وافقه بقية الصحابة - رضوان الله عليهم -" فقالوا بالجمع بين الآيتين ؛ فجمعوا بين العمومين، بأن قصروا الآية الثانية على المطلقة ، بقرينة ذكر عدد المطلقات ، كالآيسة والصغيرة قبلهما، ثم لم يهملوا ما تناولته الآية الأولى من العموم ، ولكن قصروه على من مضت عليها المدة ولم تضع؛ فكان تخصيص بعض العموم أولى وأقرب إلى العمل بمقتضى الآيتين ، من إلغاء أحدهما في حق بعض من شمله العموم ، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول ، لكن حديث سبيعة - السابق ذكره - نص بأنها تحل بوضع الحمل ؛ فكان فيه بيان المراد بقوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا )(البقرة : 234)، أنه في حق من تضع، إلى ذلك أشار ابن مسعود رضي الله عنه بقوله : "إن آية الطلاق نزلت بعد آية البقرة "، ولو بلغ حديث سبيعة عليا لما تعداه إلى غيره ، أما ابن عباس ؛ فقد روى عنه أنه رجع إلى القول بحديث سبيعة ([104]).

ثانيا: الترجيح بين المتعارضين:

إذا جاء نصين من نصوص القرآن الكريم يوهم ظاهرهما التعارض ؛ فإن من طرق دفع هذا التعارض : ترجيح أحد النصين على الآخر، أو ترجيح أحدهما باعتبار، والآخر باعتبار غيره ؛ ومن ذلك: قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلَى الكَعْبَيْنِ )( سورة المائدة :6)
ففي الآية قراءتان :
الأولى : القراءة بنصب اللام في: (وأَرْجُلَكُمْ ) ([105])؛ فيكون معطوفا على: (وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ ) ؛فيدل على وجوب غسل الرجلين كما يغسل الوجه، وتغسل الأيدي ([106])؛ وهو قول جمهور العلماء ([107])
الثانية : القراءة بخفض اللأم في: وأَرْجُلَكُمْ )([108])؛ فيكون معطوفا على الرأس في قوله تعالى : (ِرُءُوسِكُمْ) ؛فيراد به: مسحهما كما يمسح الرأس ([109]). على تفصيل عند أصحاب هذا القول ؛ فقال بعضهم : إن الواجب مسح الرجلين، وهو قول الشيعة ([110])، وقال البعض : بجواز مسحهما، وهو قول الحسن البصري ([111])، وقال البعض : بالتخيير بين الغسل والمسح ، وهو محكي عن الطبري ([112]).
فيمكن أن يقال : ترجح إحدى القراءتين على الأخرى ؛ ووجه ذلك:
أن القراءة بالنصب على أنه معطوف على: (وأَيْدِيَكُمْ) فإن حكمها الغسل كالوجه ، والقراءة بالكسر، على أنه معطوف على: (بِرُءُوسِكُمْ) لفظا ومعنى ، ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل ([113])؛ فالقرآن نزل بالمسح على الرأس والرجل ، ثم عادت السنة للغسل ([114]).
أن القراءة بالكسر، تحمل على الغسل الخفيف ، خوفا من الاسراف المنهي عنه؛ فعطفت على الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها ([115])؛ والمعنى : واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه، غسلا خفيفا يقارب المسح ([116]).
ويمكن أن يقال : ترجح إحدى القراءتين باعتبار، والأخرى باعتبار آخرة ووجه ذلك:
أن القراءة بالكسر تحمل على مسح القدمين في بعض الأحوال ؛ وهي حالة ما إذا كان عليهما الخفان ([117]).
أن القراءة بالكسر تحمل على الجوار، وتكون معطوفة على: (وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ) ؛ أي: إنها مجرورة عطفا على اللفظ دون المعنى ([118])؛ فتغسل الرجلان كما يغسل الوجه واليدان ، وانما خفضت اللام في: (وأَرْجُلَكُمْ) للجوار ([119])
والقولان الأخيران : هما أولى الأقوال بالجمع ؛ لثبوت الأحاديث في أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للمسح إنما كان على الخفين فقط، ومن ذلك: ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لحاجته ؛ فاتبعه المغيرة بإداوة فيها ماء، فصب عليه حين فرغ من حاجته ؛ فتوضأ ومسح على الخفين " ([120])؛ فتبين أن الله تعالى إنما عنى بغسل الأرجل : إذا كانت الأقدام بادية لا خفاف عليها ([121])، وهذا قول الامام الشافعي ([122]).
فالقول بمسح القدمين في بعض الأحوال ؛ وهي: إذا كان عليهما الخفان ، يتوافق مع مقاصد الشريعة من المحافظة على أصل غسل القدمين تحقيقا لمعنى الوضوء، ومن قصدها إلى رفع الحرج عن المكلفين فرخصت بعدم الغسل لمن لبس عليهما الخفين ، وبذلك تظهر أثر النظرة المقاصدية في استنباط أحكام القرآن الكريم عن طريق الترجيح بين المتعارضين.
وللمخالف أن يقول أيضا: إن الشريعة قصدت إلى الاقتصاد في صب الماء وعدم الاسراف ؛ فتظهر أثر النظرة المقاصدية في قولنا: إن المراد اغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه، غسلا يقارب المسح.
المطلب الثالث

أثر المعرفة بالمقاصد في توسيع دلالة الخطاب القرآني

أولا - توسيع دلالة النص القرآني ليشمل بعض الأحكام المستجدة : فمن ذلك قوله تعالى( ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً)( الإسراء: 85) فقد استدل فريق من الفقهاء المعاصرين بهذه الآية على حرمة نزع أجهزة الانعاش لمن مات دماغه ؛ على اعتبار أن حقيقة الموت عند الفقها؛" هو: مفارقة الروح للبدن ، وحقيقة هذه المفارقة : خلوص الأعضاء كلها عن الروح ؛ بحيث لا يبقى جهاز من أجهزة البدن فيه صفة حياتية ([123]).
وقد استقر عند الأطباء مؤخرا أن مجرد موت الدماغ ، أو توقف القلب والدورة الدموية ، لا يدلان على نهاية حياة الانسان ؛ حيث إن تلك العلامات ، علامات ظنية في الدلالة على الموت وليست قطعية ، فتوقف القلب والدورة الدموية يدلان على فقدان الشعور، وهذا لا ينهض دليلا على الموت ، وإلا كان المجنون والمغمى عليه والمشلول ميتا، وهذا لم يقل به إنسان إلى اليوم ([124]).
وقد اكتشفوا ما يسمى بموت جذع الدماغ ؛ وهو مركز الامداد للقلب ؛ فإذا قامت علامات موت الدماغ وانعدمت الحركة وأي نشاط كهربائي في رسم المخ بالة طبية ، لكن بواسطة العناية المركزة ، وقيام أجهزتها عليه ؛ كجهاز التنفس، وجهاز ذبذبات القلب ، ولا يزال القلب ينبض ، والنفس مستمر نبضا وتنفسا صناعيين لا حقيقيين ، وقرر الأطباء أنه بمجرد رفع الآلة عن المريض يتوقف القلب والنفس تماما ؛ فذلك هو الموت الحقيقي ([125]).
أما مجرد موت الدماغ أو مجرد توقف القلب والتنفس ، فلم يعودا سببا كافيا للحكم القطعي بالوفاة ، وعليه : فإن الروح لا تزال تسري في البدن ، أو في بعض أجهزته ، وفيها الصفة الحياتية ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر ([126]). وفي مسند أحمد عن أوس بن شداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضرتم موتاكم ؛ فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح ، وقولوا خيرا؛ فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت ([127]). فشخوص البصر علامة ظاهرة على قبض روحه ومفارقتها لجسده ، وقد ذكر الفقهاء كثيرا من العلامات الدالة على الوفاة وخروج الروح ؛ وهي: انقطاع النفس ، استرخاء القدمين مع عدم انتصابهما، انفصال الكفين ، ميل الأنف ، امتداد جلدة الوجه ، انخساف الصدغين ، تقلص الخصيتين إلى فوق مع تدلي الجلدة ، برودة البدن ([128]).
فهذه أمارات الحياة التي لا يحكم بانعدام الحياة بدونها؛ وقد ثبت أن بعض من مات دماغيا عادت إليه الحياة وعاش ؛ وأن أيا من الأعضاء أو الوظائف الرئيسة الأخرى ؛ كالقلب والتنفس قد يتوقف مؤقتا، ولكن يمكن إسعافه واستنقاذ عدد من المرضى ما دام جذع المخ حيا، أما إذا مات جذع المخ ؛ فلا أمل في إنقاذ حياة الإنسان ، ويكون قد انتهت حياته ، وعلى ذلك آراء الفقهاء بعد استنارتهم بآراء الأطباء ([129]).
وقد نقلت صحيفة الشرق الأوسط الالكترونية بتاريخ 30 يونيو 2001 م؛ أن عالما برطانيا متخصصا بدراسة المصابين بالنوبات القلبية ، توصل إلى أن هناك دلائل تدل على استمرار وعي الانسان حتى بعد توقف الدماغ ، وذكر أنه درس حالات اعتبر الأطباء أصحابها ماتوا سريريا، ثم عادو للحياة ([130])
والخلاصة : إن الذي يتناسب مع مقاصد الشريعة من المحافظة على النفس ؛ هو القول : بحرمة نزع أجهزة الانعاش بعد موت الدماغ ، وأنه يمكن توسيع دلالة النصوص التي تتحدث عن الروح وعن أسرارها وعظمتها؛ لتدل على هذا الحكم ، على اعتبار أن الروح لم تخلص من كل أعضاء البدن ، وأن بعض الأجهزة في البدن لا تزال فيه صفة حياتية ، وهذا الحكم لا يأباه النص القرآني ، بل يؤيده ويؤكد عليه ؟ فقال عن الروح : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً)( الاسراء: 85) فالروح لها أسرار، وما وجد من الاكتشافات الحديثة والدراسات الطبية المتقدمة ، ما زال ناقصا عن معنى هذه الآية الكريمة وهدفه ومقصده .
ثانيا - معرفة الحكم عند سكوت الشارع عنه:

تعودنا من الشريعة أنها تبين أحكامها بطرق مختلفة ؛ ومن هذه الطرق طرق ثلاثة " إما طلب الفعل ، أو طلب الترك ، أو السكوت عن الحكم ، وقد تقرر أن السكوت في معرض الحاجة بيان ، ودليل على جواز الفعل إن كان يحدث في زمنه عليه الصلاة والسلام وسكت القرآن عنه مثلا.
ومن الأمور المرعية في هذا المضمار: ما يلي:
أولا - أن الشارع قد يسكت لأسباب منها:

رفع الحرج عن العباد؛ مخافة الافتراض مثلا، ومن ذلك وجوب الحج اكثر من مرة؛ فقد سكت عنه القرآن الكريم ، قال تعالى : (ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ) (آل عمران : 97)؛ فلم يبين القرآن حكم الحج اكثر من مرة، وسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج ؛ فحجوا". فقال رجل: أكل عام؟ يا رسول الله " فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم "، ثم قال: "ذروني ما تركتكم ؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ؛ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، واذا نهيتكم عن شيء فدعوه " ([131]).
عدم وجود المقتضي ؛ وذلك كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كجمع القرآن الكريم ، وتدوين العلم ، وتضمين الصناع ؛ فهذا حكمه : أنه يجري على الأصول المقررة شرعا، وعلى معهود الشريعة في مثله عن طريق الاستقراء وغيره ([132]).
وجود المقتضى مع عدم تقرير حكم زائد فيه عند نزول النازلة على ما كان في ذلك الزمان ؛ فيبقى حكمه كما كان عليه في ذلك الزمان ؛ فإن كان من العبادات : حرم الزيادة والنقصان فيه؛ فالزيادة بدعة ؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف ، دمان كان من المعاملات : جاز الزيادة فيه والنقصان بما يحقق المصلحة ، ما لم يكن مما نهى عنه الشرع ؛ لأن الأصل في المعاملات الاباحة ([133]).
تولي السنة البيان " كعدد الصلوات ، وأنصبة الزكوات، وغيرها" فهذا حكمه إلى السنة.
ثانيا - أن لسكوت الشارع فوائد كثيرة ؛ منها:

حث المجتهدين على الفهم والتفكر والتدبر في معاني القرآن والسنة؛ واجراء أحكام النوازل على ما تقرر في كليات الشريعة ([134]).
أن التشريع بما أودع فيه من العموم والعالمية، يفي بالغرض لكل زمان ومكان ؛ فلا داعي للنطق بالحكم دوما.
أن الشارع لو نطق بكل حكم كائن أو يكون ؛ لطالت نصوص التشريع، ولشق حفظها والانتباه لها ومراعاتها دوما" ومعلوم أن الشريعة تعبر بالمعاني القليلة التي تدل على المعاني العظيمة.
فهذه الأمور إذا راعاها من ابتغى فهم القرآن فهما صحيحا؛ كان الصواب حليفه بإذن الله تعالى ، وتوسعت الآفاق لديه " ليطبق نصوص القرآن في أوسع مدى يشمله النص ؛ سواء في الأحكام المستجدة أو في أحكام الشريعة عموما، واذا حاول المجتهد استنطاق نصوص الشريعة في أوسع مدى يمكن أن يشمله
النص ، مع مراعاة الضوابط في ذلك، ظهر له ما لم يظهر لغيره من أسرار القرآن الكريم ومعانيه واسعة الآفاق ، وفي المقابل لا يغفل ما سكت عنه الشارع لمصلحة راجحة ، أو لرفع مشقة ، أو لعدم التكليف بما هو شاق وثقيل ، وأن هذا أحد مظاهر الشريعة في بيان أحكامها.




يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.20 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]