مقتطف من " شرح حسبنا الله ونعم الوكيل "
عبد الفتاح آدم المقدشي
إذاً كل هذه الأمور التي ذكرتها لك - من اليقين والصبر في الصلاة واليقين والصبر في الجهاد واليقين والصبر عند حلول الشهوات واليقين والصبر في العبادات المتنوعة الأخرى اعلم إنما هي من أهم ركائز الدين, وفي تحقيقها فلاح ونصر ونعمة في الدنيا والآخرة للمؤمنين الحقيقيين حق الإيمان, بل ولا يُرتقى إلى مثل هذه الصفات - كما اتضح - إلا بالصبر واليقين وتقوى الله مع التوكُّل على الله جلَّ جلاله.
وعليك أن تعلم أن هذه الأسباب من أهمِّ أسباب اتِّباع رضوان الله والنور الذي أنزله الله سبحانه للهداية على الصراط المستقيم كما هي تحقيق لعبادة الإحسان التي هي من أعلا درجات الإيمان ومراقبة الله في السر والعلن.
فبحسب قوَّة توكُّل العباد على الله يَهبُهم الله سبحانه كمال اليقين وكمال الإيمان بالقضاء والقدر وكمال الثقة بالله وكمال الاكتفاء به وحده سبحانه في أمورهم كلها مع كمال تجريد العبادات كلها لله وحده سبحانه - أي تحقيق التوحيد – كالاستعانة بالله وحده ورجاءه وحده والخوف منه وحده والإنابة والاستسلام لله وحده فعند ذلك لا محالة سيظفرون بذلك أيضا بمعية الله وكلأه ورحمته بل وكل ما قد يتمنَّى العبيد من ربِّهم من جلب المنافع والمصالح ودفع المضار والمهالك.
ولذلك لما قال الله سبحانه {إياك نعبد} قرنه الله سبحانه بالاستعانة به وحده الذي له كامل الملك في هذه الحياة والتصرُّف فيها والإرادة التي تنفذ بقوله {كن فيكون} ليكمل بذلك تحقيق التوحيد بقوة التوكل على الله وحده
قال الإمام الشنقيطي- رحمه الله - في الأضواء البيان " قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي لا نطلب العون إلا منك وحدك. لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحدٌ منه معك مثقال ذرة. وإتيانه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة. لأن غيره ليس بيده الأمر. وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيناً واضحاً في آيات أخر كقوله: { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123] الآية - وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129] الآية - وقوله: {رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً} [المزمل: 9] وقوله: {قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] إلى غير ذلك من الآيات.
قلت: لا يوجد في القرآن الكريم بيان أو تصريح أو تأكيد أوضح أن الاستعانة نوع من العبادة كما جاء في أم الكتاب لأمره سبحانه أن يفرد له وحده الاستعانة ويجرد, لدليل تقديم أداة الحصر عليها. وقد جاء في السنة " كنتُ خلفَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: يا غلامُ، احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعَت على أن ينفَعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشَيءٍ لم يضرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُف
الراوي: عبدالله بن عباس | المحدث: ابن حجر العسقلاني | المصدر: تخريج مشكاة المصابيح | الصفحة أو الرقم: 5/55 | خلاصة حكم المحدث: [حسن كما قال في المقدمة] "
ويجب أيضا أن يُعلم أن الاستعانة بالله يشمل معناها التوسُّل به سبحانه وحده إذ المتوسِّل يطلب ممن يتقرَّب إليه بالوسيلة الاستعانة به والله سبحانه يمنع هذا كما جاء هنا أن لا يُستعان إلا به سبحانه وحده.
لذلك لما اشتد البلاء على موسى وقومه لم يأمر بشيءٍ يستعينون به أو يتوسلون به غير الله كما أمرهم أن يصبروا لله وحده كما قال تعالى { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف:128 ]
وهكذا قال الله تعالى في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153 ]
فمن صبر واستعان بالله وحده واتَّقى ربَّه وحده لا يخذله الله أبداً خصوصاً إذا عرف العبد كيفية الاستعانة به وحده سبحانه كالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال تعالى { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45]
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة لما فيها من التقرُّب إلى الله وحده في السجود وقبول الدعاء فيه مع وفور الأذكار المتنوعة فيها مع الاطمئنان فيه والراحة القلبية فيها , وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح في الصلاة كما كانت قرة عينه وذهاب همومه وغمومه بأشغاله الدنيوية , وهو عكس ما نحن فيه اليوم - إلا من رحم الله –
وأيضاً الصلاة فيها حصول الخشوع والسكينة والوقار والتذكر ليوم القيامة عند ملاقاة الرب سبحانه لذلك قال تعالى بعد هذه الآية {) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 46 ]
و المؤمنون يستعينون بالصبر لما يعلمون أنهم مبتلون في هذه الحياة حتماً وأنهم سيُجزون بصبرهم أجراً بغير حساب مع محو الذنوب ورفع الدرجات في جنات النعيم بل ويحبهم الله كما قال تعالى { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [آل عمران: 146 ]
وأيضاً سيكون ربُّهم معهم بتأييده ونصره كما قال تعالى { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال:66 ]
بل بسبب الصبر يدخل المؤمنون الجنة كما قال تعالى { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ وَالْمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [الرعد: 24 ]
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " أنَّ ناسًا منَ الأنصارِ سألوا النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فأعطاهُم، ثمَّ سألوا فأعطاهُم، ثمَّ قال: ما يَكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخرَهُ عنْكُم، ومن يستغْنِ يغنِهِ اللَّهُ، ومن يستعِفَّ يعفَّهُ اللَّهُ، ومن يتصبَّر يصبِّرْهُ اللَّهُ، وما أعطيَ أحدٌ شيئًا هوَ خيرٌ وأوسعُ منَ الصَّبرِ.
الراوي: أبو سعيد الخدري | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترمذي | الصفحة أو الرقم: 2024 | خلاصة حكم المحدث: صحيح | انظر شرح الحديث رقم 7041
ويقول " واعلمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرَه خيرًا كثيرًا, وأنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ, وأنَّ الفرَجَ مع الكربِ, وأنَّ مع العسرِ يسرًا.
الراوي: عبدالله بن عباس | المحدث: ابن رجب | المصدر: جامع العلوم والحكم | الصفحة أو الرقم: 1/459 | خلاصة حكم المحدث: حسن جيد.
وقال تعالى{ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَك ُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف:129 ]
فقد وقع الأمر كما ترجَّى موسى عليه السلام حيث أهلك الله عدوهم واستخلفهم في الأرض كما قال سبحانه في الآية الأخرى
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [الأعراف:137 ]
ولو لم يصبروا على البلاء العظيم وينتظروا الفرج من الله واستعانوا بربهم بالأدعية العظيمة التي جاءت في سورة يونس لما فتح الله لهم مخرجاً ولازدادوا سواء بعد سوء وهلاكا مع هلاكهم, والدعاء هو قوله تعالى { فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [يونس: 86]
وهذا إنما يدل على أهمية الصبر وعظمته خصوصاً في أوقات المحن ومهما كانت المصائب, بل كلماتهم الآنفة الذكر إنما تدل على أنهم صبروا وأنهم لم يفزعوا من فاجعتهم حيث كانوا يُذبَّح أبناءهم ويُستخدم نساءهم والعجيب انهم عبروا ذلك كله أنه إيذاء, كما قالوا { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا }[ الأعراف: 129] فسبحان الله فما أعظم من صبرهم!.
وبعدما كتبت هذه الكلمات التي ابتدأت من " فبحسب قوة توكل العبد" وكانت في ليلة جمعة رأيت رؤيا في صبيحتها وهي كالتالي: رأيت وكأني على جسر مع أناسٍ ما فوقعت منه فإذا أنا تعلقت بحديدة من تحت الجسر فتسلقت بها حتى رجعت إلى متنه فأنجاني الله سبحانه ثم رأيت وأني أصلي في مسجد جامعٍ كبيرٍ في يوم حمعة وكنت لا أعرف عقيدة إمامهم ومصليهم فصليت وراءة كما هو الشرع أن يُصلَّى خلف مستور الحال فإذا أقبل علينا الإمام بوجه حليقٍ من اللحية وقد كان يبدوا من وجهه الشر والشرر فأخذ يردد بكلمات بدعية لا أفهمها فغضبت من هذا جداً وخرجت من المسجد وفي فناء المسجد وقعت في بالوعة كبيرة وأنا أقول ستموت في هذا الماء القذر فإذا أنا وقعت في تراب جاف أسود فقفزت فورا فوجدت سلالم فرقيت إحداها ولما كدت أن أخرج فإذا أحد مشركي الصوفية ضربني فوقعت في مكاني ثم هممت أن أرقى السلالم مرة أخرى فإذا بابٌ انفتح فدخلت منها زوجتي ومعها إمرءة أخرى وكانتا تتحدثان كيف تغسلان ثيابي.
وقد أوَّلت هذه الرؤيا حسب ما فهَّمني الله كالتالي:-
أولا: الجسر هو الدنيا التي نعيش فيها لنجاوز بها إلى الآخرة والوقوع من الجسر إبتلاء والنجاة منه هو فرج من الله سبحانه
ثانياً: الدخول إلى مسجد الصوفية ابتلاء من الله والخروج من عندهم والاعتزال عنهم براءة من الشرك وأهله وصيانة للدين.
ثالثاً: الوقوع في البالوعة ابتلاء عظيم, وتحويل الماء القذر في البالوعة بترابٍ أسودٍ جاف اعتبار بقدرة الله الذي يحوِّل الأشياء بما يريده كما حوَّل الله نار إبراهيم برداً وسلاماً
رابعاً: ضرب المشرك جسمي والوقوع في البالوعة يدل على عداوتهم الشديدة لأهل التوحيد وربما كان يظن أنه قد قتلني في ماء البالوعة وإنما كنت على ترابٍ جافٍ أسود سالماً آمناً
خامساً:انفتاح الباب رغم أنفه إنما هو الفرج والمخرج من المأزق الذي وقعت فيه هو دليل على أن الله سبحانه يفتح المخرج لعباده من حيث لا يحتسبون , فعليهم إذن أن يتوكلوا على ربهم ويكتفوا به
سادساً: مجيء الزوجة لغسل الأوساخ والقذر الذي قد تعلق بثوبي إنما هو من مدد الله ونصره لعبده ولله الحمد والمنة.
ثم اعلم أن التوكل على الله -كما معناه الاعتماد على الله والثقة به سبحانه - فإنه يأتي في مناسبات كثيرة متنوعة ليُحلَّ الله به مشاكلنا بإذن الله كالنجاة من الخوف المحقق من كيد الأعداء ومكر الماكرين وخيانة الخائنين.
فما أروع وأحسن وأنعم للمتوكلين المؤمنين إذ توكَّلوا على العلي القدير العلام للغيوب وهو سبحانه أعلم بأعدائنا وأعدائه من المنافقين المندسين في صفوف المسلمين الجواسيس ومن الكائدين الخائنين مهما كانوا أقوياء أو مختفين في صفوف المسلمين وأينما كانوا وكيفما كانوا.
فما على معشر المسلمين إذن إلا أن يتقوا الله ويصبروا ويتوكلوا على ربِّهم حق التوكل كما قال تعالى في سورة المجادلة {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10] وقال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} } [آل عمران:120] وقال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[ النساء:25] وقال تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ} [آل عمران: 159] }
وسأتكلم عن أهمية العزيمة مع التوكل على الله عزَّ وجلَّ في المقال القادم إن شاء الله تعالى..