التجديد الأصولي: نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه
المصدر الرابع: القياس
هذا الفصل كتبه ( د. الحسين الحيان) ثم أدركه أجله – رحمة الله عليه – فتولاه وأتمه ( الأستاذ مصطفى حسنين عبد الهادي) وقد قدّما بمقدمات مؤسسية أربعة لمنطق القياس الفقهي، وهي:
1. تعريف النصوص بالأحكام أكثره كلي لا جزئي.
2. الأصل في الأحكام المعقولية لأنه أقرب إلى القبول وأبعد عن الحرج.
3. ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس.
4. مدار الاستدلال الفقهي التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين.
ثم تطرقا لتعريف القياس وأركانه وشروط كل ركن، وحجية القياس، ومسالك التعليل وهي الطرق التي يسلكها المجتهد للتوصل إلى معرفة الوصف المؤثر في الحكم.
وقد تطرقا لأنواعها من حيث كونها مسالك نقلية وهي العلل المستفادة من الخطاب الشرعي من الكتاب والسنة وما يتبعها من الإجماع ويدخل تحتها الإجماع ومسلك النص، ومسلك الإيماء والتنبيه.
والنوع الثاني وهي المسالك العقلية الاجتهادية وهي الراجعة للاجتهاد العقلي والاستنباط وتشمل المناسبة والسبر والتقسيم والدوران والشبه.
وكان كلامهم هنا أشبه بإعادة وتلخيص لما كتبه علماء الأصول.
المصدر الخامس: المصلحة
قدّم في هذا الفصل ( د. أحمد الريسوني) بمقدمة ذكر فيها أن من الآفات التي شاعت عند الأصوليين وخاصة المتكلمين منهم غلبة التنظير الفقهي والسير مع تسلسله ولزومياته، بغض النظر عن التطبيق الفقهي ومساراته العلمية.
ويرى أنّ التنظير الأصولي في واد، والتطبيق الفقهي في المسألة نفسها، في واد آخر؛ ومن ذلك:
1. النظر الأصولي يتسم بالتشديد والتضييق ونجد العمل الفقهي يتسم بالتوسعة والمرونة.
2. آيات الأحكام قليلة مضيقة عند الأصوليين وكذا أحاديث الأحكام في حين أن الفقهاء يستدلون على الأحكام بأضعاف ما قدره الأصوليون منها.
3. جمهور الأصوليين ينكرون شرع من قبلنا في حين أن الفقهاء يستدلون بالآيات والأحاديث جميعها التي تحكي شرع من قبلنا.
4. شروط انعقاد الإجماع المعتبر ثقيلة وشبه مستحيلة، ولكن الإجماع عند الفقهاء متحقق وكثير التحقق.
5. شروط أصولية عسيرة للاجتهاد والمجتهدين يضعها علماء الأصول أما الأمر متيسر ومعتدل عند الفقهاء.
6. منع عدد من الأصوليين إجراء القياس في أبواب فقهية عدة كالرخص والعبادات، والحدود والكفارات، ولكن القياس فيها شائع معمول به عند نظرائهم من الفقهاء حتى من المذهب نفسه.
7. ومن هذا الباب قضية المصلحة التي ضيق عليها الأصوليون حتى كادوا يُجهزون عليها، أما الفقهاء فلا يقومون ولا يقعدون إلا بها.
وعليه فقد تحدث عن المصلحة تعريفاتها وتقسيماتها ، وتطرق إلى كون المصلحة شاملة لما هو ديني ودنيوي، وأنها تشمل مصالح الخلق في الدنيا، وأنها شاملة لما هو حسي مادي بدني، ولما هو معنوي روحي، وهي شاملة للمصالح ذاتها وما يكون سبباً إليها من المقاصد الجليلة، وهي ضد المفاسد، ومن هنا جاءت قاعدة سد الذرائع.
ثم تطرق للحديث عن اعتبار المصالح والمفاسد بحسب ما غلب، وأن بين المصالح والمفاسد درجات، وعلى المرء أن يدرس مراتب المعروف ومراتب المنكر ويُقدّم أهمها عند المزاحمة.
ثم تطرق للحديث عن حجية المصلحة المرسلة ويسمونها المناسب المرسل والاستدلال المرسل، ويرى أن كلمة الفصل للزركشي الذي نبّه إلى أنّ المصلحة المرسلة اشتهر عن المالكية اختصاصهم بها وإن كان ذلك ليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك.
عَقِبَ ذلك تولى الحديث عن شروط وضوابط المصلحة المرسلة، وأوضح أنّ معرفة المصالح المشروعة والاعتراف بحجيتها والعمل بمقتضاها كسائر أدلة الشرع، يفتح للفقهاء وأولي الأمر باباً فسيحاً لجلب المصالح وإصدار الأحكام التي تضمن حفظها.
وأن النص والمصلحة في الأصل لا يتعارضان لأن المصلحة بنت النص؛ بل هنالك نماذج من فقه التآخي بين النصوص والمصالح وإعمالهما جميعاً، وأن المصلحة إن تعارضت مع النص لم تكن مصلحة.
ثم خلص إلى أنّ المصلحة ليست دليلاً موهوماً وإنما الموهوم هو الخلاف في حجيتها ، وأنّ المصلحة الشرعية أصل كبير من أصول الأحكام، وأنها لا تقل أهمية عن القياس في كثرة الأحكام الراجعة إليها، بل قد تكون أكثر وأوسع؛ لأن القياس إنما يُستعمل في حالات معينة عند عدم النص، أما المصلحة فيعمل بها عند عدم النص، وكذلك مع وجود النص.
ثم إن القياس ينبني على النصوص في أحكامها وعللها الجزئية، والمصلحة تنبني على النصوص ومقاصدها الكلية، فلذلك عدت قياساً كلياً، ويتكامل مع القياس الجزئي.
أقسام الحكم الشرعي
هذا الصل قام بكتابته ( د. محمد عوام) وأوضح أن عدداً من الأصوليين يبدأ كتبه الأصولية بالحكم الشرعي ويعلل ذك بكونه الثمرة المطلوبة وما عداه فهو خادم له كما جرى على ذلك الغزالي في المستصفى.
وتطرق لقضايا مقحمة في الأصول وليس لها نتيحة لأحكام شرعية في الوجود، وإنما هي مذكورة لاعتبارات خارجية مذهبية صرفة، وخاصة بين المعتزلة والأشاعرة.
وعد الزركشي ذكر بعض هذه المسائل في علم أصول الفقه من الغرائب مثل مسألة تعلق الحكم بالأفعال دون الأعيان، وكذلك الخلاف في تعريف الواجب بين الأشاعرة والمعتزلة إذ ارتبط بقضية وجوب الأصلح على الله إثباتاً ونفياً وإنجاز الوعد والوعيد أو إمكان العفو وعدم اللوم.
وبيّن أنّ الأحكام التكليفية الخمسة عند الجمهور تتعلق بالواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام.
وذكر أنّ بعض هذه الأحكام الخمسة لا ينطوي على معنى التكليف ، وخاصة منها المباح، ومع ذلك غلّبوا جانب التكليف على غيره كما قال الشوكاني: (وتسمية الخمسة تكليفية تغليب، إذ لا تكليف في الإباحة، بل ولا في الندب والكراهة التنزيهية عند الجمهور).
ثم تطرق للحديث عن العزيمة والرخصة وقد ذكر أن معظم الأصوليين اعتادوا أن يُدرجوها في الحكم الوضعي مثل تناولهم لمسائل العزيمة والرخصة والصحة والفساد والبطلان، ويرى أن هذه المسائل لها تعلق وطيد بالحكم التكليفي وبخاصة الواجب، فليست مظهرة للحكم أو علامة عليه، وإنما هي انتقال الحكم التكليفي نفسه من مرتبة إلى أخرى لهذا جعلها تابعة للحكم التكليفي
وقد عرّج بعد ذلك للحديث عن الرخصة الجماعية أو العامة المتعلقة بمجموع المكلفين حين تحل بهم الضرورة العامة في وقت من الأوقات.
وتطرق لقضية مهمة وهي أنّ مما يُبنى على القول بالرخص العامة، أنّ فقه الأمة والمجتمعات في (حال الاستضعاف) غيره في (حال الاستخلاف).
ثمّ تحدث عن الصحة والبطلان والفساد وهي أوصاف تتعلق بالمعاملات والعبادات، وتحديداً بأركانها وشروطها، وجوداً وكمالاً، أو عدماً واختلالاً، فإذا توافرت الشروط والأركان الموافقة للشرع في الفعل، كان فعلاً صحيحاً، وإذا اختلت كان فعلاً باطلاً فاسداً.
ثم تطرق للمباح والمأذون فيه، وبيّن أنّ الأصوليين بنوا على هذا النظر قاعدة (تقييد المباح) إذا ترتبت عليه مفسدة، وهي قاعدة لها اعتبار بمآل الحكم فالحاكم أو من ينوب عنه بعد استشارة العلماء وأهل الاختصاص والخبرة يجوز له تقييد بعض المباحات إذا خولف بها عن مقاصدها، أو أخرجت عن مقتضاها، وترتبت عليها مفاسد محققة في الجملة، وعادت على القصد من تشريعها بالإبطال والنقض، وهذا من باب إقامة العدل في المجتمع، وأما الإلغاء التام للمباح فلا أحد يقول به من علماء المسلمين.
وفي ختام هذا الفصل قرر فيه عدة أمور وهي:
1. الحكم التكليفي يتعلق بالأفعال الصادرة عن قصد المكلفين؛ فلابد من مراعاة قصد المكلف في الفعل.
2. يندرج في الحكم التكليفي بعض المسائل الأصولية التي عادة ما تحسب من صميم الحكم الوضعي، وقد حقق الباحث – بحسب رؤيته – أنها ليست كذلك مثل القضاء والأداء، والإعادة، والرخصة، والعزيمة، والصحة، والبطلان، والفساد، فهي تنبئ عن انتقال الحكم التكليفي من مرتبة إلى أخرى.
3. أنه لابد من حصول الكفاية في الواجب الكفائي، حتى تبرأ ذمة المكلفين وبخاصة القادرين منهم.
4. أن الحكم من وجود التخيير في بعض الواجبات هو مراعاة حال المكلف والأصلح له ولغيره ومراعاة الأحوال.
5. أن الأداء والقضاء كما يكونان في العبادات، يكونان كذلك في المعاملات على أساس الأصل والبدل في الواجب.
6. أن الرخصة جاءت على خلاف الحكم الأصلي فينبغي مراعاة الرخصة العامة أو الجماعية وهي التي تتعلق بمجموع المكلفين أو بجماعة منهم مثل الرخصة الخاصة.
7. أن المندوبات مثل الواجبات من حيث كونها مراتب ودرجات متفاوتة، ترجع إلى النظر في الأجور المترتبة عنها، فمنها ما هو سنة، وهو ما ارتفعت رتبته في الأجر، ومنها ما هو نافلة وتطوع، ومنها ما هو فضيلة ويقع في درجة التوسط.
8. أن قضية الجزئية والكلية بالنسبة إلى المندوب ترجع أساساً بحسب تعلقها بالفرد أو المجتمع.
وتحدث عن الحكم الوضعي الذي وضعه الله، وهو مظهر للحكم الشرعي بمنزلة العلامة له، بخلاف الحكم التكليفي فلابد أن يكون من كسب المكلف وقصده.
وحصر أقسام الحكم الوضعي في ثلاثة أضرب اتفق عليها الأصوليون وهي: السبب والشرط والمانع، أما غيرها فليست منه على التحقيق كما يذكر الباحث.
الموازنة والترتيب بين الأحكام
في هذا الفصل الذي كتبه ( د. محمد عوام) بيّن أنّه يجوز أن يُقال إن بعض الواجبات أوجب من بعض كالسنن بعضها أكد من بعض خلافاً للمعتزلة.
ومن المميزات الكبرى بين مراتب الواجبات، ومراتب الأحكام عامة، تقسيمها إلى مقاصد ووسائل، مع التسليم بكون الوسائل أخفض رتبة من المقاصد.
وقد أوضح قضية الموازنة بين الواجب والمندوب، وبيّن أنّ القرافي رأى بعض صور المندوب أفضل من الواجب، ولكن اعترضه عدد من العلماء كابن الشاط، والبقوري، والسبكيان التقي والتاج، وإن كان قد وافق القرافي بعض العلماء كالسيوطي وابن عابدين، مع أن بينهما اختلاف أتى من جهة التوسع في المندوبات التي تفضل الواجبات، فاقتصر على المسائل الثلاث: (الوضوء قبل الوقت، وإسقاط الدين عن المعسر وإبراء ذمته، وإفشاء السلام).
ثم تحدث عن الموازنة بين الواجب العيني والواجب الكفائي فذهب جمهور الأصوليين إلى تقديم فروض العين على فروض الكفاية، نظراً لفضل تلك على هذه؛ ولأنّ الشأن في الشارع أن يقدم ما تتكر مصلحته على غيره، فقدموا ما كانت مصلحته متعلقة بكل فرد أو مكلف على حدة.
وقد أوضح أنّ بعض الأصوليين يرى أنّ الأفضل فرض الكفاية؛ لأنّ فرض العين واجب قيامه به؛ ولكن فرض الكفاية هو الذي تتحقق به رفع الحرج عن الأمة.
ويرى الباحث في موازنته بين الفريقين أنّ المرجع في المفاضلة بين الواجب العيني والواجب الكفائي هو المردودية المصلحية لكل منهما، ولا يخفى أنّ ما كانت مصلحته أكبر وأعم، فهو أفضل وأعلى منزلة مما تكون مصلحته قاصرة أو محدودة.
ثم تطرق للحديث عن الموازنة بين فعل الواجبات وترك المحرمات، فذكر هل الأفضل فعل المأمورات أو ترك المنهيات؟
وبيّن أنّ الإمام ابن تيميّة وتلميذه ابن القيم رجّحا أن فعل المأمورات أفضل من ترك المنهيات؛ وأن ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأنّ آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه.
الأصول الحاكمة لطرق الاستنباط
كتبت هذا الفصل ( د. أمينة سعدي) وبيّنت أن المنهج الأصولي ينطلق في تحليل خطاب الشارع من أمرين:
أولهما: أن قصد الشارع في وضع الشريعة هو الإفهام.
وثانيهما: أن تحصيل الفهم المقصود للشارع في وضع شريعته متوقف على معرفة أساليب البيان في اللغة العربية وطرق الدلالة فيها على المعاني.
وتحدثت أن فهم النص عند الأصوليين واستخلاص الأحكام الشرعية منه، وحصلاً من مبادئ عامة وأساسية تشكل مجالاً مناسباً لتفسير النص وشرحه، والكشف عن معناه وتحديد قصد الشارع منه، وأهم هذه المبادئ : البيان، والتفسير، والتأويل.
ومع اشتراك الثلاثة في وظيفة واحدة ومحددة، هي بيان النص والكشف عن المراد منه، إلا أنها مع ذلك متفاوتة، سعة وضيقاً، قوة ووضوحاً، في تحصيل هذا الأمر، ومن ثم فتحديد قصد الشارع من خلال بعضها أبلغ وأظهر من الكشف عنه من خلال أخرى، وإن كانت بمجموعها متكاملة في تحصيل البيان ثم الإفهام المراد للشارع في شرعه، فكل منها يمثل جزءاً من بنية تفسير النصوص واستنباط الأحكام الشرعية على ما يتضح بعد حين.
وقد أوضحت الباحثة أنّ التأويل يتخذ مجاله في ما دون القطعيات أي في النصوص المحتملة ولو كانت واضحة؛ لأن ظهورها لا ينفي الاحتمال، وكذلك يتخذ مجاله في التعارض بين النصوص يرفه بتحديد مراد الشارع في كل منها.
وأن التأويل خلاف الأصل فالواجب الأخذ بما دل عليه ظاهر اللفظ وما تبادر منه إلا بدليل قوي يُصار بناء عليه إلى معني مخالف للظاهر من اللفظ فالعمل بالظاهر إذاً أصل والتأويل استثناء.
وأنّ المتتبع لطرق وقواعد الاستنباط ولعملية بيان النصوص وتفسيرها عند الأصوليين يجد التأويل مستوى من مستويات بيان النص، وامتداداً واضحاً لتفسيره والكشف عن مراد الشارع منه، وقد أخذ في فهم النص والاستنباط منه، أفقاً رحباً ومجالاً واسعاً؛ لكثرة النصوص المحتملة، والقطعية منها محدودة ومعدودة، وقصد الشارع الإفهام .
ثم نحت الباحثة للحديث عن قواعد منهجية وذكرت أنّه إذا كان فهم النص قائماً عند الأصوليين على مبادئ أهمها البيان والتفسير والتأويل، فإنّ تفعيل هذه المبادئ واستثمارها في تحليل خطاب الشارع قائم عندهم على قواعد منهجية، تتسق مع لغة النص ومنطق تشريعه، بها تتماسك بنية المبادئ العامة، البيان والتفسير والتأويل، وعلى إجرائها واستثمارها يقوم تبعاً لذلك تحليل الخطاب ثم تحصيل فهمه وتحديد مراد الشارع منه، وبهذا فلا غنى عن هذه القواعد في تحصيل الفهم المطلوب والكشف عن المعنى المقصود، بياناً أو تفسيراً أو تأويلاً، وأهم هذه القواعد : ( السياق) و ( القصد) و( التعليل) .
ويتضح مما سبق أنّ تحقيق الإفهام قصد الشارع من وضع الشريعة يكون انطلاقاً من مبادئ ثلاثة، هي مسالك أساسية في قراءة النص وتحليله؛ ( البيان) و( التفسير) و( التأويل) ويجمع الثلاثة معنى البيان وغرض تحصيل الإفهام، فكل منها بيان يُتوخى الكشف عن المعنى وتحديد المراد، ويميز بينها اختلاف المصدر الموقع لكل منها، وتفاوت المعتمدات من القواعد والأدلة فيها، قوة واعتباراً،وهي بالرغم من ذلك تكون بمجموعها بنية قراءة النص وتفسيره، وتحديد معناه وأبعاده.
وأنّ المسالك الثلاثة والتي تتوخى جميعها بيان معنى النص وتحديد مراد الشارع منه، كانت بياناً من الشارع أو من المجتهد، تفسيراً أو تأويلاً، لا تقتصر حاجة الفقيه فيها على المعرفة بقواعد اللغة العربية وأساليبها، بل حاجته فيها ألح، لاستكمال مهمته عند النظر في النص والاجتهاد في تحديد المراد منه، إلى جملة من القواعد تشكل إلى جانب اللغة وقواعدها آليات منهجية في قراءة النصوص وتفسيرها، ومنها السياق، والقصد، والتعليل، فالعملية البيانية إذاً لا يُمكن تحصيلها مع عدم إجراء هذه القواعد واستثمارها في بيان معنى النص وتحصيل فهمه.
دلالات الألفاظ
في هذا الفصل تحدثت الباحثة أنّ هذا الفصل يُعدّ عمدة أصول الفقه .
وقد انطلق النظر الأصولي في بناء باب الدلالة من أمرين اثنين:
1. تحديد دقيق لمدارك الأحكام، فالأحكام تتلقى من الرسول صلى الله عليه وسلم منزلاً وسنة، هي أقوال أو أفعال أو تقريرات.
2. العلاقة بين اللفظ والمعنى، بمعنى أن نصوص الشريعة ، محل استخلاص الأحكام وتحديد نوعية التكليف ومرتبته، ترجع إلى كلام هو ألفاظ كما تقدم كان قولاً للشارع أو رواية لفعله أو تقريره.
وقد طوّفت الباحثة على مشهد الدلالات عند الأصوليين، في توالدها وتطورها، ثم في تكاملها وتعاضدها، في تحليل أسلم لخطاب الشارع وفهم أوفق لمراده وقصده.
وأوضحت أنّ الغرض الأساس من وضع قواعد الاستنباط في علم أصول الفقه هو تقريب المعاني إلى الأذهان وإنارة الأفهام، وهذا موافق لقصد الشارع من إنزال شريعته ومحقق لإرادته في أوامره ونواهيه. ولا شك في أنّ هذا الغرض إنما يتأتّى بالبيان، بمختلف أنواعه وتفاوت مراتبه وتنوع مصادره، فهو إما بيان من المشرع في حال الإجمال أو تفسير من المفسر في حال الظهور، أو تأويل من المسؤول في حال الإبهام والإشكال.
وقد كان الحديث في الفصل الأول والثاني من هذا الباب بيان لما تقوم عليه عملية تفسير النصوص واستنباط الأحكام، ففضلاً عما رسمه العلماء من قواعد ومناهج في هذا الباب، فإنّ هذه العملية يلزمها تحقيقاً لغرض البيان ثم الإفهام مراعاة جملة من الأمور، وقد بسط فيها الأمور بما يناسب كلاً منها في موضعه وسياقه، قواعد اللغة العربية وأساليبها في البيان، وعرف الشارع في التشريع، ثم منطقه في إيراد أحكام الشريعة وبنائها في وحدة متسقة ومتكاملة، فإعمال السياق والقرائن واستحضار التعليل والقصد، وما عهدناه بالاستقراء والتتبع من منهج الشارع في وضع الأحكام وبناء التكاليف، ومنطقه الموحد لتشريعاته والضامن لاتساقها وتناسقها، تمثل مجموع الآليات التي ينبغي على قارئ النص، الذي يروم فهمه وحسن استيعابه ، استحضارها واستثمارها في جميع مسالك البيان.
الاجتهاد والإفتاء
وهما فصلان ختاميان لها العمل الأصولي فأمّا فصل: ( الاجتهاد) فقد كتبه ( د. عبد الحميد عشاق) وأمّا فصل: ( الإفتاء) فقد كتبه ( د. العربي البوهالي) .
وقبل البدء للتطرق لما في الفصلين فلا ريب أنّ باب الاجتهاد والإفتاء هو منتهى أصحاب الكتاب لكونه المنتهى الذي يسير إليه ويرسو عنده علم أصول الفقه ودارسوه، فليس هناك أرقى ولا أعز من الوصول إلى تكوين العقلية الاجتهادية والمقدرة الاجتهادية، والدفع بها نحو استخراج كنوز الشرع، وتنزيلها على حاجات الناس ومشكلاتهم.
والاجتهاد والإفتاء يتشابهان ويتداخلان في جوانب متعددة، ولكنهما يختلفان ويتكاملان من جوانب أخرى، وقد يُستعملان أحياناً بمعنى واحد، ويكونان اسمين لمسمى واحد، ولكن الحقيقة أن بينهما فروقاً يمكن إجمالها في أربعة فروق:
1. من حيث الموضوع.
فموضوع الإفتاء واسمع يشمل الدين كله عقيدة وعبادات ومعاملات مالية واجتماعية، وسياسة واقتصادياً وسلوكاً وأخلاقاً، وسؤال المستفتي هو الذي يحدد المجال الذي يتناوله المفتي في جوابه.
أما الاجتهاد فلا يقع لا فيما يفتقر إلى بذل الجهد وإعمال الطاقة الفكرية، كاستنباط الحكم لنازلة جديدة، أو فهم لما ورد في كتاب الله إذا كان ظني الدلالة، أو الاجتهاد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت ظنية في الثبوت والدلالة معاً أو في أحدهما، وكذلك لا يمتد الاجتهاد إلى الأمور الغيبية والقطعيات.
2. من حيث الباعث.
حيث يتوقف الإفتاء في الغالب على سؤال المستفتي، وهذا ما يدل عليه لفظه لغة واصطلاحاً، وينسجم مع السياقات التي ورد فيها في القرآن الكريم.
وإذا وجدت بعض الفتاوى عن غير سؤال من أحد، فإنما كان القصد منها مطلق البيان، واستجابة لواقع الحال، وعموماً فإن الإفتاء مرتبط بالزمان والمكان والوقائع والأشخاص.
فالمسؤول عنه ينبغي أن يكون واقعاً أثار حكمه إشكالاً لدى المستفتي بخلاف الاجتهاد الذي يُمكن أن يقع في فهم نصوص الشرع مجردة عن الظرف الزماني والمكاني، ويُمكن أن يقع في المسائل الافتراضية والمتوقعة.
3. من حيث مناط الاجتهاد:
الاجتهاد ممارسة استنباطية تستخرج الأحكام الشرعية من أدلتها وقواعدها الكلية، والإفتاء اجتهاد في حسن التنزيل والتطبيق الملائم للسائل أو للحالة موضوع الفتوى، مع مراعاة الظروف والأحوال وتقدير المآل، فهو اجتهاد يتجاوز استخراج المناط إلى تحقيقه.
4. من حيث الشروط المطلوبة في من يتصدى لهما:
المجتهد لابد وأن يكون بالغاً مرتبة الاجتهاد بشروطها ، وأم المفتي ففي شروطه العلمية وقدرته الاجتهادية قدر من التخفيف والتيسير لدى جمهور الأصوليين، لشدة الحاجة إليه ودوامها لدى عموم المكلفين، ولكن قد توضع له شروط إضافية من حيث المعرفة بالواقع وملابساته، وبآثار الفتوى ومآلاتها.
وبشكل إجمالي فالاجتهاد في قضايا الشريعة من أسباب خلودها وتجددها أنها جعلت الاجتهاد رديفاً للوحي ولازماً له، وهذا من ميزة علم الفقه وأصوله على علم الديانات، فالفقه متجدد متوسع والديانات معارفه محصورة لا مزيد عليها.
و الاجتهاد ليس نقضاً للأصول أو عبثاً فيها، إنما هو حركة عقلية استدلالية منهجية في أحكام الشريعة لتحقيق مصالح الأمة، وليس الاجتهاد زغلاً أو تحكماً بمجرد العقل والمصلحة، إذ القول في دين الله تعالى وفي شرائع الأحكام بمجرد استحسان العقل، وما يقدره من المصلحة من غير استناد إلى دليل لا يكون اجتهاداً شرعياً
كما تحدث عن القول بتجزؤ الاجتهاد وأنه أوفق بهذا العصر؛ لتراكم المعرفة وتشعبها، وعسر الإحاطة بجميع العلوم والمعارف التي يشترطها المتقدمون في المجتهد، ولابد من صحة ذلك بشرطين:
1. أن يكون ملماً بضروريات العلم الشرعي والعدة العلمية العامة للفهم والاستنباط.
2. أن يدرس المسألة الاجتهادية التي ينظر فيها دراسة علمية فاحصة مستوعبة.
بعد ذلك تحدث الباحث عن إعمال المقاصد في الاجتهاد، ويتجلى ذلك في مجال تفسير النصوص والاستنباط منها، وفي مجال إجراء القياس على الأحكام المنصوصة لئلا يقع الفقيه في الأقيسة الشكلية المجافية لمقاصد الشرع، وكذلك في مجال الاجتهاد القائم على المصلحة المرسلة، وكذلك في تنزيل الأحكام على الواقع.
وبهذا يكون المجتهد وسطاً في التوفيق بين محكمات الشرع وحاجات الواقع، في طرفين مذمومين هما: الجمود على المنقولات في الكتب وتجاهل الواقع في العملية الاجتهادية من جهة، والاتجاهات الداعية الى تجاوز النصوص بهدف التعامل مع الواقع مباشرة دون التوسط بالنص، بناء على زعمهم بنسبية التشريع المنزل تبعاً للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية المختلفة.
وكذلك بيّن أنّه من المهم إحياء الاجتهاد الجماعي وأنه في العصر الحديث بدأ الالتفات إلى ضرورة الاجتهاد الجماعي المُنظّم، وتحدث عن .بعض المحاذير التي تعترض طريق الاجتهاد الجماعي، ثم ذكر مقترحات لتفعيل الاجتهاد الجماعي :أمّا الإفتاء فهو ثمرة من ثمرات الاجتهاد وتحدث عن مفهوم الإفتاء وأهميته، والمفتي والمستفتي ، والفتوى صناعة وتنظيماً.
وتحدث فيه إلى شروط المفتي وضوابطه وأهمها: العلم بالكتاب والسنة والتأهيل من حيث الإسلام والعدالة والبلوغ.
وأن جمهور العلماء يرون أن يكون بالغاً درجة الاجتهاد في العلوم الشرعية كما تقدم في شروط المجتهد؛ فيُمنع المقلد من الإفتاء مطلقاً، ومنهم من يُجوّز له ذلك إذا تعلق الأمر بنفسه، ومنهم يُرخص به عند الضرورة والحاجة وعدم وجود العالم المجتهد.
ثم بيّن أنّ ثمّة شروطاً ليست من شروط الفتوى ومنها الذكورة فالصحابة كانوا يرجعون لعائشة رضي الله عنها وهي من الصحابة السبعة المكثرين من الفتيا، وليس من شروطها الحرية فلا تأثير للرق في الإفتاء، وليس من شروطها السلامة من العاهات الجسمية
ثم تطرق لبيان مراتب المفتين ومنهم المفتي المستقل وهو المتحرر من التقليد المذهبي.
والمفتي المنتسب للمذاهب الفقهية المتبعة وهذا له درجات فمنهم الجامع لأوصاف المفتي المستقل إلا أنه لا يقدر الخروج عن مذهب إمامه.
ثم المفتي المقيد بمذهبه يقرر بدليله ولا يتجاوز أصوله وقواعده.
ثم المفتي الحافظ لمذهب إمامه لكنه لم يرق لدرجة من فوقه فهو مجتهد الترجيح
ثم المفتي الحافظ لمذهب إمامه وهو ضعيف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته لا يتجاوز حكاية ما في المذهب ويسمى مجتهد الفتيا.
أعقبّ ذلك بحديثه عن أحكام المستفتي وهو الذي ليس بفقيه، وأن مجال الاستفتاء هو كل ما يجهله السائل في أمور الدين.
وبيّن أنّ كثيراً من الفقهاء وبعض المتكلّمين جوّزوا التقليد في الأصول ، حتى قال ابن السبكي : ” وربما بالغ بعضهم وقال: التقليد واجب والنظر في ذلك حرام”، وقد ذهب آخرون إلى عكس هذا الرأي فأوجبوا على الجميع معرفة الله نظراً واستدلالاً، وبين هذين قول ثالث يرى وجوب النظر على من له القدرة عليه، وكثير من الناس ليسوا كذلك.
وقد اختار هذا القول الباحث ورأى أنه قول وسط يجب المصير إليه لأن عامة الناس لا يليق بهم الخوض في أمور دقيقة وعميقة لا تسعها أذهانهم؛ فلا ينبغي شغلهم بها عن المسائل العملية والمعتقدات الأساسية.
خلاصة الخلاصة
لا ريب أنّ أصحاب الكتاب قد اجتهدوا في جمع ما تمسّ الحاجة إليه، في موضوعات أصول الفقه، وأنّهم نفضوا الغبار عن نزرٍ يسير من القضايا التي تهم الباحثين في هذا الموضوع.
وبيّنوا عدداً من المباحث الأصوليّة التي ليس من خلفها طائل عمل كثير؛ لهذا ذكروا وأعرضوا عنها؛ مع أنّ بعضها يحتاج لمزيد من البحث والتأمل إن كان له علاقة بالأصول أو لا كما يرى من كتب فصول هذا الكتاب.
لكن مما يُلاحظ في الكتاب أنّ الكتاب أغلبه تنظير وتأصيل وتقعيد؛ والجزء الأكبر منه خلاصة معتصرة من كتب الأصوليين؛ واللمسات الإضافيّة في الكتاب موجودة ولكنها ليست بارزة.
ورُغم أنّ أصحابه ذكروا أنّهم ذكروا فيه أنّهم سيعتنون بإيراد الأمثلة؛ إلاّ أنّ الأمثلة قليلة وبعضها مكرر من كتب السابقين؛ وكنا نتمنّى أن تكون الأمثلة العصرية والمستجدات والنوازل الفقهية كثيرة الشيوع في عصرنا كانت ضمن الإلحاقات الأصولية؛ سواء في أبواب السياسة الشرعية، وفقه الهندسة المالية، وقضايا التقنية والبيئة وثورة الاتصالات، وعوالم الاختراعات الحديثة، ومسائل الاجتماع والنفس وعلوم الإنسانيات فيما له علاقة بمسائل أصول الفقه، فإنّ هذه القضايا ذكرها والتنبيه على بعض أمثلتها فيما يتعلق بالأبواب والفصول الأصولية هو الأدعى للذكر.
وبما أنّ المؤلفين من المغرب العربي؛ وكانت لهم في هذا الكتاب صولات وجولات علمية ماتعة فائقة؛ ورؤية إنصافية بعيدة عن التحيّز لمذهب الإمام مالك؛ لكنهم أغفلوا الكثير من الأسس المتعلقة بفقه الإمام أحمد بن حنبل وأصوله، وقد نبّهوا تنبيهاً مهماً أنّ المدرسة الأصولية الشافعية أثّرت على كثير من مقتنعات الفاعلين في الإطار الأصولي والفقهي؛ وكان لكتاب الرسالة قصب السبق في عمليّة التقعيد الأصولي؛ وهم مع إشادتهم بذلك؛ إلاّ أنّهم يرون أنّ مدرسة الحنفية والمالكية لها دور عظيم لم يأخذ مجاله في قضايا فهم التعامل مع القرآن والسنة؛ وهذه قضية جديرة بالاهتمام والمباحثة أكثر في أبحاثٍ قادمة يُمكن أن يُوصى بها؛ خاصّة ممن أراد الموازنة والمقارنة بين مدارس الأئمة الأربعة وتأثيرهم على البعد الأصولي في الدراسات الفقهية التطبيقية.
(المصدر: مركز البيان للبحوث والدراسات)