عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 20-01-2021, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,114
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد سورة الشعراء

مقاصد سورة الشعراء
أحمد الجوهري عبد الجواد




"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".

(26) سورة الشعراء:
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه وتعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو العزيز الغالب الذي لا يُغلب أبدا، والرحيم الرحمن الذي يرحم بما لا يرحم به غيره أبدا، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، جاء من عند ربه بما أتى به الأنبياء من قبله موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح وغيرهم، عليه جميعاً الصلاة والسلام، فنشهد أنه بلغ الرسالة وأدى أمانته، ونصح للأمة، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، صلي يا ربنا وسلم وبارك وتكرم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد..
أيها الإخوة المسلمون الأكارم، فهذا هو لقاؤنا مع سورةٍ أخرى من سور القرآن الكريم على ترتيب المصحف، نعيش معها هذه اللحظات السعيدة الطيبة، في وقفةٍ وإطلالةٍ ونظرةٍ عامة على أطراف السورة وأبعادها ومداخلها العامة التي تميزها، نستفيد درساً من دروس القرآن العظيمة، ولتتشوق نفوسنا إلى قراءة السورة وحفظها والبحث عن تفسيرها وأسرارها، ألا إن سورتنا اليوم هي سورة الشعراء، هكذا أُنزلت من عند الله بهذا الاسم البليغ، الشعراء، والشعراء جمع شاعر وهو من يقول الكلام المنظوم [1]، يتحدث عن موضوعٍ معين في كلامٍ مخصوص بأوزان مخصوصة فكلامه يُقال عنه إنه كلامٌ موزون ومنظوم ومُقفى، أي له قافيةٌ وخاتمةٌ واحدة، تنتهي كل كلماته بحرفٍ واحد، وكلامه هذا يسمى قصيدة، والقصيدة تقسم إلى أبيات فكل سطرٍ فيها يقال له بيتٌ من الشعر، والبيت من الشعر ينقسم إلى قسمين، شطرةً أولى وشطرةً ثانية أو أخرى، وبينهما فاصل، فالشعر له أوزانه الخاصة مما يُعرف عند العلماء بالبحور، والشعر له قافيته، والشعر له ضروراته، ثم إن له شكلاً مميزاً يختلف تماماً عن شكل الكلام الآخر وخاصةً عن شكل السورة من القرآن الكريم، سمى الله هذه السورة باسم أولئك الرجال الذين لديهم قدرة على نظم الكلام ووزنه وتقفيته وإخراجه بهذا الشكل، وإطلاق الاسم هكذا يحتمل أن الله تعالى سيمدح الشعراء في هذه السورة أو أنه يذمهم، أن يذكر ما لهم أو يذكر ما عليهم.

ويقال لها أيضاً عند العلماء كان بعضهم يعبر عنها بقوله طا سين ميم؛ لابتدائها بهذه الأحرف الثلاثة، وبعضهم يميزها ويقول سورة طا سين ميم الشعراء، ونُسب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه سماها أو أطلق عليها اسم الجامعة، يعني السورة الجامعة، ولم يذكر لماذا ولكن تفكر بعض العلماء فقال: لعله يقصد أن هذه السورة هي أول سورةٍ تنزل وقد جمعت جملةً من قصص الأنبياء، فلم تنزل قبلها سورةٌ مكيةٌ جمعت جملةً وطائفةً من الأنبياء مثلها، وهذا توجيهٌ وجيه([2].

إذاً هي سورة الشعراء كما سماها الله، ويقال لها سورة طا سين ميم، ويقال لها من باب الأوصاف الجامعة، أي جمعت ذكر عددٍ من الأنبياء وقد سبقت السور الأخرى إلى ذلك، نزولها كان قبل الهجرة وكانت من أوائل ما نزل في العهد المكي([3]، نزلت في أوائل العهد المكي قبل الهجرة وبالتالي كانت في مكة، ويشير إلى هذا أن الله تعالى قال في آياتها مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾، ونزلت هذه الآية في بدايات الإسلام وفي بداية الدعوة ليبدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته الجهرية العلنية مع عشيرته الأقربين([4]، فإنهم من المفروض أن يكونوا أسبق الناس إلى الإيمان به، فأنذرهم أولاً فإن آمنوا بك كانوا لك عوناً على غيرهم، كانوا لك مَنَعةً وحصناً من عدوان الآخرين، فإن عشيرة الإنسان يحبونه ويحبون له الخير ويحبون له أن يصدقه الناس وأن يتبعوه، ولو من باب العصبية، وقد ثبت فعلاً في السيرة والتاريخ أن بني هاشم كانوا يفخرون على غيرهم من القبائل الأخرى بأن النبوة فيهم، وبأن النبي الذي ختم الله به الأنبياء كان منهم صلى الله عليه وسلم([5]، وفيهم من يكفر به، يفخر به أمام الآخرين ثم يرجع إليه فيكفر به كأبي لهبٍ لعنة الله عليه([6]، ومنهم من دافع عنه ووقف معه فعلاً بقوةٍ وحماسةٍ وعصبية كأبي طالب وإن كفر به أيضاً ولم يؤمن بهديه([7]، لكنه دافع عنه من باب العصبية ورعاية النسب والقرابة وما إلى ذلك([8].

فهي سورةٌ مكية وبالتالي فقد حفظنا وثبت في قبولنا الآن أن القرآن الذي نزل في مكة، أعني السور القرآنية التي نزلت قبل الهجرة، كانت تركز على تصحيح تصور الإنسان عن هذا الكون وما فيه وما حوله داخلاً وخارجاً، هذا التصور هو الذي يسمى بالعقيدة، فالسور المكية عرَّفت الإنسان بالعقيدة الصحيحة التي ينبغي أن يكون عليها، من أنا؟ وماذا أكون؟ ومن أين وإلى أين؟ وما هذا الكون الجميل العظيم البديع الذي امتلأ بالآيات واكتظ بالمعجزات الكونية، ومن الذي أحدثه وفعله هكذا وصنعه بهذا الإحكام؟ إنه الله، من الله؟ وماذا له عندنا؟ وماذا له علينا؟ وماذا لنا عنده؟.. وهكذا، هذه القضايا الخطرة، القضايا الأساسية في حياة الإنسان السور المكية أبرزتها وركزت عليها جدّاً.

غير أن كلّ سورةٍ مكيّة لها طابعها الخاص وتركز من بين هذه القضايا على واحدةٍ منها غالباً، وسورتنا هذه سورةٌ مكية فهي أيضاً تقدم العقيدة الإسلامية الصحيحة ولكن مركزةً على نقطة مهمة، هل الرسول محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان شاعراً أو كاهناً يتلقى هذا القرآن والذي سماه الكفار شعراً أو قالوا عنه شعر، هل كان عليه الصلاة والسلام يتلقى هذا الكلام من جنيّ؟ وهل كان بذلك شاعراً سواءٌ قال الشعر بنفسه أو قاله عن طريق تلقيه من روحٍ أخرى من أرواح الجن؟ أو أنه رسولٌ جاء بشيء آخر؟ كلامه ليس شعراً لا نظماً ولا قافيةً ولا وزناً، وأنه ليس بشاعر إنما هو نبيٌ رسولٌ من عند الله سبحانه وتعالى، وما جاء به إنما هو وحيٌ عظيم، تحرير هذه القضية كان محور هذه السورة، حتى يتميز عند الكافرين ما تلبَّس عليهم، فتلبس عليهم أمر النبي عليه الصلاة والسلام بأمر الشعراء، حيث إن الشعراء يقولون كلاماً بليغاً أيضاً، ويأتون بتركيبٍ كلامي عجيب، والقرآن أعظم الكلام في ذلك، أروع أسلوباً، وأعلى حكمةً، وأبعد معنىً، إنه كلام الله الذي خلق الألسنة وأنطقها بهذا الشعر البليغ، فانظر كيف يكون الفرق بعيداً بين القرآن ككلام الله وبين الشعر الذي هو كلام الشعراء. فلما قالوا عنه إنه شاعر فالله تعالى حرر هذه القضية وبينها في هذه السورة بياناً واضحاً، تصحيحاً للإيمان وتبيينا للناس حتى لا تكون لهم عند الله حجةٌ بعد هذا البيان.

ولذلك أحبتي الكرام نجد سورة الشعراء من أولها إلى آخرها تتناول محاور أو موضوعات رئيسة، الموضوع الأول كان بياناً واضحاً أن هذا الكلام الذي جاء به نبيكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم إنما هو كتابٌ مبين واضح ومُوضِّح ومعجز، فإنه تألفت كلماته وتركبت من الطاء والسين والميم وغيرها من الحروف المعروفة لديكم، فإن كان شعراً فأنتم أشعر الشعراء، وأبلغ الشعراء في الدنيا هم شعراء العرب خاصة في الجاهلية، فلتأتوا بشعرٍ مثله، فلتأتوا بحديثٍ مثله فالقرآن كتابٌ مبينٌ مُعجز، والله الذي أنزله سبحانه وتعالى إنما هو إلهٌ عزيزٌ قويٌ غالب لا يُغلب، فلو شاء أن يؤمن به الجميع وأن يجمع الخلق على الإيمان به لجمعهم بآيةٍ واحدة فقط لا بمائة وأربع عشرة سورة، ولا بآية شرعية أو كونية، آية من هذا أو ذاك يُنزِّلها الله تعالى على العباد ليجعلهم جميعاً خاضعي الرقاب لله عز وجل، كما خضعت له السموات والأرض ومن فيهن وما بينهن ﴿ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾، ولكنه مع كونه العزيز الغالب القوي بلا مشابهٍ ولا منازع فهو الرحيم، الرحيم رحمةً بليغة رحمةً عظيمة، يغفر كثيراً ويعفو عن كثير ويتغاضى عن سيئات عباده ويمهلهم في الدنيا وقد كفروا به، ويحاورهم ويناقشهم ويبين لهم ويحلم عنهم ولا يُعجِّل لهم بالعذاب، بل يحب لهم أن يتوبوا ولو في آخر عمرهم، فإنه عزيزٌ هذه صفة جلال وهيبة وقوة وعزة، والرحيم صفة جمالٍ وقربٍ وحب.

هذا هو مبدأ السورة وافتتاحها وموضوعها الأول، ثم بعد ذلك تبدأ السورة في عرض نماذج من الأنبياء والرسل السابقين، ليبين الله تعالى من خلالها أن نبيكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم ما هو أمرٌ عجيب، ليس أمراً عجيباً ولا بدعاً حديثاً من الرسل، وليس شيئاً غريباً إنما قد مضت من قبله أمثلةٌ كثيرة وجاء في الزمان – في الدنيا – أنبياء من قبله ورسلٌ قالوا مثلما قال، ودعو إلى مثل ما يدعوكم إليه، فمثله يُؤمن به ولا يُكفر به، فإن سابقات القدر في الكون بإرسال الرسل والأنبياء والرسالات كلها تمهد للإيمان به، وتُصدِّق على ما جاء به، فلماذا تكفرون به وتكذبونه؟ أما سمعتم عن موسى عليه السلام ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، أما جاءكم نبأ إبراهيم ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴾، أما سمعتم عن نوحٍ عليه السلام، عن هود أخي قوم عاد، عن صالح رسول قوم ثمود، عن لوط الذي بعثه الله في قومه وفي قريته، هذا واحدٌ مثلهم تماماً، هذا خاتمهم، هذا عطر شجرة الأنبياء وزهرها وثمرها، هذا ختام تلك السلسلة المباركة فلا نبي ولا رسول بعده، عليه الصلاة والسلام.

فذكر الأنبياء هنا، في هذه السورة إنما هو لتأييد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصديق دعوته لقومه، وخاصةً أنك أخي المسلم الكريم حينما تقرأ هذا القصص في هذه السورة المباركة، تلاحظ أن الله تعالى ركز في القصة على ذكر دعوة النبي لقومه، ماذا قال موسى لفرعون ثم لبني إسرائيل، وماذا قال إبراهيم لأبيه وقومه، ونوحٌ لقومه، وفلانٌ لقومه...، مقام الدعوة، مقام البلاغ الأول، وهذا يرجح أيضاً أن هذه السورة نزلت في أوائل العهد المكي، فإنها تسجل موقفاً من المواقف الأولى التي التقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه وعشيرته بالدعوة إلى الله فكذبوه ونسبوه إلى الشعر والكهانة.

ثم يأتي ختام السورة – وإن كان أطول بعض الشيء من أولها – فيعيد الكرة من جديد تأكيداً على أن القرآن الكريم ليس شعراً وليس قول جن ولا شيطان ولا شيء من ذلك ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ﴾، والجن لا يؤتمن كالإنس فيهم المؤتمن وفيهم الخائن، أما الملائكة فلا خيانة فيهم، ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ﴾ جبريل عليه السلام ﴿ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ﴾ أي في كتبهم، في كتب السابقين كالتوراة والإنجيل، وذكر الإمام القرطبي رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حديثاً شبه طويل عن القرآن وأنه أوتي كذا من كذا، وأوتي كذا من القرآن من جهة كذا، وقال: "وأوتيت ﴿ طسم ﴾ مكان التوراة"، كأن سورة الشعراء في فضلها تعادل التوراة التي أوتيها موسى عليه السلام، وفي روايةٍ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأوتيت المئين – يقصد الشعراء – مقابل الإنجيل"([9]، والإنجيل والتوراة يعتبران كتاباً واحداً، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي هذه السورة بمقام التوراة والإنجيل الذي هو كتاب الأوّلين، وهذا الذكر عندهم فكان ينبغي أن يكون وجوده في الكتب السابقة حجةً لأصحاب هذا القرآن وللناس في هذه الأمة ليؤمنوا به ﴿ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾.

ثم تمضي الآيات وتبين أن هذا القرآن لم تتنزل به الشياطين ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴾ كما يدعي الناس، قالوا له رأيٌّ – أي صاحب ورفيق من الجن – يأتيه بما يتكلم به، الله ينفي هذا ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ ما ينبغي لهم ليسوا أهلاً لذلك، وليست لهم قدرةٌ على ذلك فالقرآن أعظم من أن يحمله شيطانٌ أو جني، لماذا لا يستطيعون؟ ﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ من يوم أن بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وجعل حراساً على السماء، حتى لا تصعد الجن فتسترق السمع كما كانت تسترقه من قبل، وذكر الله اعتراف الجن بذلك في سورة الجن ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾، منعنا من استراق السمع لا ندري إن كان خيراً للناس أو شراً لهم الله أعلم بذلك، فصاروا منذ بعثة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم معزولين عن استراق السمع من السماء، فكيف يصلون إلى السموات ليسترقوا القرآن وينزلوا به على كاهنٍ إن كان هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم أو غيره، كيف يفعلون ذلك وهم معزولون عن السمع بحرسٍ وشهبٍ ثاقبة حارقة لا يستطيعون الوصول.

ثم أجاب الله على سؤالٍ ينشأ في النفس إذا كانت الشياطين لم تتنزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وليس النبي كشخص بمواصفاته المعروفة الصادق الأمين، إذاً كان مثل هذا الشخص لا تنزل عليه الشياطين وما ينبغي لهم، لا يأتون مثل هذه الشخصيات ولا يتعاملون معها، إذاً فعلى من يتنزَّلون؟ ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾، هكذا بين الله تعالى أن الشياطين لم تتنزل بالقرآن ولا تستطيع أن شخصية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فضلاً عما بعدها شخصيةٌ لا تتلاءم مع مؤاخاة الجن واصطحاب الشياطين، واستحضار أرواحهم والتلقي عنهم، كما بين سبحانه وتعالى أن الشياطين تتنزل على شخصيات بمواصفات معينة، أفَّاك يعني كذاب كثير الكذب، أثيم كثير الآثام، ولذلك حُكم بكفر الساحر، لأنه إن سحر وتوصل فعلاً إلى استحضار جنيٍ عن طريق السحر وصار صاحباً له وتعامل معه فلابد أن يكون كذاباً ولابد أن يكون أثيماً ومن آثامه وذنوبه أن يرتكب بعض أمور الكفر، كترك الصلاة وهجر المساجد، وربما وطء المصحف أو الجلوس عليه – لعنهم الله – أو أنه يتوضأ باللبن، أو يسجد إلى غير جهة القبلة، وغير ذلك من أمور كفرية، والتعاويذ التي يستحضر بها خادمه لا تخلو من شرك، فإنه يستغيث بمن معه من الخدام وينادي عليهم ويطلب منهم كذا وكذا، ولا يستعين بالله عز وجل، فحُكم على الساحر بأنه كافر وقول الجمهور فيه أنه يُقتل بغير طلب توبةٍ منه، كل مرتدٍ أو كافر يستتاب قبل قتله، المرتد كما حكم بقتله قبل أن يُنفذ فيه الحكم تُعرض عليه التوبة فإن تاب فقد دفع عنه نفسه الحد ولا يُقتل، إلا الساحر فقط هو الذي يقتل بغير توبة، فلا يستطيع التوبة([10].

﴿ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ وشخصية محمد بن عبد الله ما كانت هكذا ولا شيئاً منها، فلم يكن يكذب على قومه أبداً ولا في حياته ولو مرة ما جربنا عليك كذباً قط، إذاً ليس أفاكاً ولا آفكاً ولا مؤتفكاً، ثانياً لم يكن أثيماً فلم يعرف عنه أن خالط الناس في خمرهم، وفي زناهم، ولا حتى في غنائهم ولهوهم وما إلى ذلك، ما خالط الناس في شيء من ذلك، إنما عُرف بالحكمة، وعُرف بالعقل، وعُرف بفعل المحامد والفضائل، وهكذا كانت شخصيته صلى الله عليه وسلم لا تناسب تنزِّل الشياطين عليها.

هذه موضوعات السورة وبذلك نجدها متناسبةً مع ما قبلها من السور وهي سورة الفرقان، وترتبط مع سلسلة سور القرآن بروابط عظيمة، فإن سورة الفرقان ذكرت وذكَّرت بجملة من الأنبياء تقريباً هم هم الذين ذكروا في سورة الشعراء، ولكن ذكرهم الله تعالى في سورة الفرقان إجمالاً واختصاراً، وذكرهم في سورة الشعراء بشيءٍ من التفصيل، حيث ذكر موقفهم في الدعوة وما جرى لأقوامهم في النهاية في جملةٍ واحدة، فهناك إجمالاً واختصار وهنا تفصيلٌ وبيان، بُدأت سورة الفرقان ببيان القرآن ووصفه العظيم ومصدره الكريم ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾، وصف الله القرآن بأنه فرقان يفرق بين الحق والباطل وما شابه ذلك، وبيَّن أنه مُنزَّلٌ من عنده الله، وسورة الشعراء بُدأت بذلك أيضاً ﴿ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾، ذكرت أنه كتابٌ مبينٌ، وبالأحرف الأولى إشارة إلى أنه كتابٌ معجزٌ للبشر جميعاً، إذاً هو من عند الله تبارك وتعالى، وبين ذلك واضحاً في آخر السورة ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾.

خُتمت السورتان أيضاً بختامٍ متقارب فذكر الله تعالى في آخر سورة الفرقان ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا ﴾ ووصف عباده المؤمنين الطيبين الذين رضي عنهم، وفي النهاية هدد الكفار ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ وعيدٌ بالعذاب للكافرين، في سورة الشعراء كذلك ذكر الله تعالى الشعراء وأوصافهم، ثم استثنى منهم فئةً قليلةً لا تقول من الشعر إلا ما حَسُن ولا تقول من الشعر إلا صدقاً وحقاً، مع أن الشعراء كلهم كذلك إلا أن هؤلاء المؤمنين ضبطوا أنفسهم فلم يستعملوا الشعر الذميم إلا فيما هو ممدوحٌ ومعقولٌ وطيب، فقال الله تعالى ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾، ثم هدد الكافرين فقال ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾.

كذلك لك أن تربط بين السورتين أخي الحبيب بأن سورة الفرقان هكذا هو اسمها، إنها تعلن عن الفرقان، ويمتن الله به علينا أنه نزَّل إلينا فرقاناً وسورة الشعراء تطبيقٌ لذلك فالقرآن فرق لنا بين الشاعر وبين النبي، هل النبي شاعر؟ وهل الشاعر نبيٌ لأنه يقول كلاماً بليغاً؟ أو أن بينهما فارقاً بعيداً، هذا السورة تطبيقية تمثيلية – أو مثال يعني – على الفرقان الذي يفرقه القرآن، وبالتالي فرَّق الله لنا فيها بين الشعر وبين القرآن وكلام الوحي، وبين الشعراء وبين الأنبياء.

هذا بيانٌ مجملٌ عن السورة نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا به، وأن يوفقنا به إلى ما يحب، وأن يرضى به عنا، إنه نعم المولى ونعم المجيب، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.27 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.97%)]