عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 19-01-2021, 03:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المتنبي في عيون الصاحب بن عباد ومنهجه في رسالته

فينتقده الصاحب قائلاً: "إنما يقول مثل ذلك من يرثي بعض أهله، فأما استعماله إياه في هذا الموضع، فدالٌّ على ضعف البصر بمواقع الكلام"[30]، فالصاحب يرى في هذا البيت تطاولاً وسوء أدب مع الملك سيف الدولة، ويرجع ذلك إلى فساد الحسِّ لدى المتنبي، وعدم قدرته على التمييز لمواقع الكلام، فيخاطب الملوك بما يستحقون، ويخاطب العامة بما هم به، غير أن هذا المعنى الذي فهمه الصاحب، قد يقابله معنى آخر للبيت، وهو كون المتنبي قد ذكر هذا على لسان سيف الدولة، يصف حاله بعد فقدِ أمه، فيكون بهذا المعنى مستقيمًا.

كما نجد الصاحب يُنكِر عليه سوء اختياره للألفاظ؛ فهو يرى أن اللفظة الحسنة تكون خفيفة على اللسان، وغير متنافِرة الحروف، وأن تستخدم في مقامها الصحيح؛ حتى يكون لها القَبول الحسن؛ ولذلك ينتقد قول المتنبي:
رواقُ العزِّ فوقَكِ مُسبطرٌّ
وملكُ عليٍّ ابنكِ في كَمالِ


بقوله: إن "لفظة الاسبطرار في مراثي النساء من الخِذلان الصفيق الدقيق المغير"[31]، ونقرأ في شرح الواحدي أن "أبا الفضل العروضي يقول: سمعت أبا بكر الشعراني خادم المتنبي ورَد علينا، فقرأنا عليه شِعره، فأنكر هذه اللفظة، وقال: قرأنا على أبي الطيب، رواق العز فوقك مستظلٌّ، قال العروضي: وإنما غيَّره عليه الصاحبُ ثم عابه به، وعلى هذا فقد سقط ثقل اللفظ وكراهة المعنى"[32]، ويعلق الصاحب على بيت آخر للمتنبي يقول فيه:

نحن مَن ضايق الزمان له في
كَ، وخانته قربَك الأيامُ


فيقول: "إنَّ قوله: "له فيك" لو وقع في عبارات الجنيد أو الشبلي لتنازعته الصوفية دهرًا طويلاً"[33]، فالصاحب يرى هذه العبارة لا تستقيم مع الموصوف بالمدح، ولو قيلت في غيره لربما كان تأثيرها أقوى، وبخاصة في أهل التصوف، ومِن مثل ذلك أيضًا قول المتنبي في رثاء أم سيف الدولة:
صلاة الله خالقنا حنوطٌ
على الوجه المكفَّن بالجَمالِ


فيَنتقده بقوله: "هذه استعارة حِداد في عرس، فلا أدري هذه الاستعارة أحسن أَم وصفُه وجه والدة ملك يَرثيها بالجمال"[34]، فالمقابلة بين الجمال والحنوط تَخلُق نوعًا من التباعد الذي يُحيل إلى حقلَين أو غرضين، حقل دالٍّ على الفرح، تَحمله لفظة "الجَمال"، وحقل ثانٍ دالٍّ على الحزن، فهذا التباعد بين هذه الحقول يَخلق في رأي الصاحب تشبيهات واستعارات مبتذلة، غالبيتُها لا تلائم مقام الخطاب، ولا طبيعة المخاطب.

كما نجد الصاحب يوظِّف منهج الموازنة والمقارنة بين أبيات المتنبي وأبيات الشعراء السابقين عليه، أو مِن مُعاصريه، دون أن يفصل في تحديد أوجُه جمالية هذه الأبيات، فهو يَكتفي بالإشارات والعبارات التي تَجعل من أبيات المتنبي في مرتبة أدنى، ومِن ذلك قول المتنبي:
ولا مَن في جنازتها تجارٌ
يكونُ وداعُهم نفضَ النعالِ


ويُقارنه ببيت مسلم بن الوليد الذي يقول فيه:
أرادوا ليُخفوا قبره عن عدوِّه
فطيبُ ترابِ القبر دلَّ على القبرِ


فهذان البيتان في الرثاء، غير أن معناهما ومقامهما يختلفان، ولم يقدِّم الصاحب تعليلاً واضحًا في بيان تفضيله لبيت مسلم، ثم ذكر بيتًا آخر له يقول فيه:
سُلَّت وسُلَّت ثم سل سليلها
فأتى سليلُ سليلِها مَسلولا


وأردفه بقول المتنبي:
وأفجَعُ من فقدنا من وجدنا
قُبيلَ الفقدِ مفقودَ المِثالِ


ثم يعلق عليه قائلاً: "وأظن المصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي"[35]، فالذي نلاحظه أن هذه المقارنة التي انتهجها الصاحب لا تقوم على معيار يَنظر لكل بيتٍ على حدة، ويَنتقده في لفظه أو معناه، أو ينظر في مطابقته لمقام وسياق صياغته، بقدر ما يسعى إلى تصوير أبيات المتنبي في صورة ساخرة.

وبعد أن عرض الصاحب لهذه الأبيات ينتقل إلى وصف كلمات المتنبي بالنُّفور والشذوذ، وقد سبق أن قال مثل ذلك فيما عرضناه؛ فهو يحاول أن ينتقي الأبيات التي تبدو له كلماتها متنافرة من حيث حروفها، أو تقع في موضع غير ملائم لما تَستحسنه الأسماع، ثم يعلِّل ذلك ببُعد المتنِّبي عما يصفه، وأنه يتكلَّف في تشبيهاته، يقول: "ومِن أطَمِّ ما يتعاطاه: التفاصح بالألفاظ النافرة، والكلمات الشاذة؛ حتى كأنه وليد خباء وغذيُّ لبن، ولم يطأ الحضر، ولم يعرف المدر"[36]، وقد مثل لذلك بقول المتنبي:
أيفطمُه التورابُ قبل فطامِه
ويأكلُه قبلَ البُلوغِ إلى الأكلِ


فهو يأخذ عليه لفظة (التوراب) ولا يَستسيغها، بحكم أن المتنبي وليد قرية ومعلم صبية، كما يأخذ عليه عبارته (حلواء البنين) في قوله:
وقد ذقتُ حلواءَ البنين على الصبا
فلا تحسبنِّي قلتُ ما قلتُ عن جَهلِ


وقد علَّق الصاحب على هذا البيت بقوله: "وما زلنا نتعجَّب من قول أبي تمام:
لا تَسقِني ماء الملامِ فإنَّني
صبٌّ قد استعذبتُ ماء بكائي


فخفَّ علينا بـ: (حلواء البنين)، ولَحقٌّ ما قال أبو بكر بن أبي قحافة لعلي بن أبي طالب: "وما من طامة إلا فوقها طامة"[37]، فالصاحب ينظر - غالبًا - لمعنى الكلمات، ثم يقابلها بمعنى عجز البيت، فإذا توافقت معه، كان البيت عنده مقبولاً وحسنًا؛ ولذلك لا عجب أن يستغرب وينفِر من كلمة (حلواء البنين) ويتعجَّب من بيت أبي تمام.

وينتقد الصاحبُ المتنبي في الأبيات الأولى من قصائده، ويعتبرها "عجيبة" في الغرض الذي يَرمي إليه، ومِن ذلك قول المتنبي:
لا يحزن اللهُ الأميرَ؛ فإنني
لآخُذُ مِن حالاته بنصيبِ


وقد قال المتنبي هذا البيت في بداية قصيدة يعزي بها سيف الدولة لما فقد غلامًا له يدعى "يماك"، وقد علَّق الصاحب على هذا البيت بقوله: "ولا أدري لم لا يحزن الله الأمير إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق"[38]، غير أن الأمر على غير ما يراه الصاحب؛ يقول الواحدي: "يقول: لا أحزنه الله؛ فإنه إذا حزنَ حزنتُ، ادَّعى لنفسه مشاركةً معه، وغلط الصاحب في هذا البيت، فظن أنه يقول: لا يحزن الله الأمير بالرفع على الخبر، فليس الأمر على ما توهم، والنون مكسورة، وهو دعاء؛ يقول: لا أصابه الله بحزن؛ فإني أحزن إذا حزن، يَعني أن حزنَه حزني، فلا أُصِيبَ بحزنٍ؛ لئلا أحزنَ"[39].

ويعيب الصاحب على المتنبي ألفاظه التي يوظفها في الوصف، ويعتبرها معقَّدة ومتنافرة؛ ومن ذلك وصفه للفرس بقوله:
وتُسعِدُني في غمرة بعد غمرةٍ
سبوحٌ لها منها عليها شواهدُ



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.58%)]