الكلام عن الصفات الإلهية عبر عصور طويلة
حمزة شلهاوي
وقال الحافظ ابن عبد البر:
"أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج؛ فكلهم ينكرها، ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر به شبه، وهم عن من أقر بها نافون للمعبود"[8].
المرحلة الثانية:
وهي المرحلة التي نشأ فيها تعطيل الذات الإلهية عن الصفات، وتأويل نصوص الكتاب، والسنة الواردة في إثبات الصفات له تعالى.
تبدأ هذه المرحلة من ظهور "جهم بن صفوان" الترمذي، وشيخه "أحمد ابن درهم" ولا تزال مرحلة التأويل مستمرة عند كثير من الناس حتى الآن.
والجهمية أو من عارض الكتاب والسنة بآرائهم، كان حدوثهم في آخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبدالعزيز في أوائل المائة الثانية، في دولة بني أمية[9].
وقد اتفقت كلمة علماء الإسلام على أن (الجعد بن درهم) هو أول من عارض الكتاب والسنة بآرائه بالنسبة للصفات الإلهية قائلا:
إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، والجعد لم يكتف بهذا. بل ذهب إلى القول: بخلق القرآن هو وتلميذه جهم بن صفوان، يهدفان من وراء ذلك إلى نفي جميع الصفات، وأنها لا تقوم به تعالى، ومرحلة التأويل هذه مشهورة لا تخفى على كثير من الناس، لأن كثيرا من الحفاظ، وعلماء التاريخ، والأديان، وغيرهم يحدثوننا أن الجعد بن درهم هو أول من أسس فكرة تعطيل الصفات، وتأويل نصوصها، وأيدها المعتزلة في أيام الخليفة العباسي "عبدالله المأمون" الذي نشطت عقيدة المعتزلة في عهده، وعهد أخيه "المعتصم" وذلك في أول المائة الثالثة[10].
وقد عرف أتباع "جهم" عند السلف باسم "الجهمية" نسبة إلى إمامهم "جهم بن صفوان".
وأما شيخه "الجعد بن درهم" وإن سبقه إلى فكرة التعطيل للصفات، فإن جهما هو الذي قام بنشر هذه الفكرة.
وإليك ما قيل في نشأة مذهب "الجهمية" وما انتهى إليه أمر "الجعد".
قال الحافظ ابن كثير:
"وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، زوج ابنته، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن يهودي باليمن، وأخذ عن الجعد الجهم بن صفوان الخزري، وقيل الترمذي، وقد أقام ببلخ، وكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده ويتناظران، حتى نفي إلى ترمذ، ثم قتل الجهم بأصبهان، وقيل بمرو، قتله نائبها سلم بن أحوز رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرا، وأخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ أحمد بن أبي دواد عن بشر، وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه، ثم إن خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك أن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي وعبد الله بن أحمد وذكره ابن عساكر في التاريخ، وذكر أنه كان يتردد إلى وهب بن منبه، وأنه كان كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول: أجمع للعقل، وكان يسأل وهبا عن صفات الله عز وجل فقال له وهب يوما: ويلك يا جعد، اقصر المسألة عن ذلك، إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدا ما قلنا ذلك، وإن له عينا ما قلنا ذلك، وإن له نفسا ما قلنا ذلك، وإن له سمعا ما قلنا ذلك، وذكر لصفات من العلم والكلام وغير ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب ثم قتل"[11].
وقد نشأ مذهب المعتزلة في نفس القرن الثاني الهجري الذي نشأ فيه مذهب الجهمية، في نفس دولة بني أمية.
نشأ في عهد "واصل بن عطاء" الذي ولد سنة 80هـ بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوفي سنة 131ه، وإنما سمي هو وأتباعه باسم المعتزلة أن الحسن البصري سئل عن مسألة مرتكب الكبيرة، ففكر "الحسن البصري" في ذلك، وقبل أن يجيب "الحسن" قال واصل ابن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا ولا كافر مطلقا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأتباعه معتزلة[12].
ظهر بعد مذهب المعتزلة، مذهب "الكلابية" الذي يتزعمه أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب" القطان، وبعد الكلابية نشأ مذهب الأشاعرة والماتريدية، وذلك في آخر القرن الثالث الهجري، وأول القرن الرابع الهجري[13].
والماتريدية نسبة إلى أبو منصور الماتريدي.
قال الشيخ أبو زهرة:
ولد أبو منصور، بقرية "ماتريد" من أعمال سمرقند، وتفقه على مذهب أبي حنيفة ونبغ حتى رجع الناس إليه فيما وراء النهر، يأخذون عنه الفقه، وأصوله وسائر علوم الدين... ثم ذاعت شهرته في علم الكلام، حتى صار له مذهب يسلكه أهل خراسان يقارب مذهب الأشعري.
وقد ذكر الأستاذ الإمام "محمد عبده"... أن بين الماتريدية والأشاعرة خلافا في نحو ثلاثين مسألة، ولكن أكثر العلماء على أنها مسائل جزئية والخلاف فيها لفظي، فهما متفقان في الغاية[14].
ومذهب المعتزلة يتفق مع الجهمية، في تعطيل الصفات جميعا، ثم تزيد الجهمية نفس الأسماء على القول بنفي الصفات[15].
فمذهب المعتزلة هو في الحقيقة امتداد للجهمية لأن بشر المريسي وهو من كبار الجهمية أخذ عقيدة التعطيل من نفس "جهم بن صفوان" ثم أخذ عنه أحمد بن أبي دؤاد، قاضي القضاة في عهد الخليفة العباسي "المأمون بن هارون الرشيد" وهو المحرك الأول لفتنة "محنة القرآن" التي عذب فيها علماء الإسلام من المحدثين، والفقهاء. ومن هؤلاء الجهمية انتقلت فكرة تعطيل الصفات إلى المعتزلة[16].
أما مذهب ابن كلاب فهو يخالف مذهب المعتزلة والجهمية في تعطيل الصفات، بل إن ابن كلاب كان يرد على المعطلة من الجهمية، والمعتزلة وقد نصر مذهب أهل السنة في إثبات الصفات، فأثبت جميع الصفات الإلهية، فكان مذهبه أقرب إلى مذهب السلف منه إلى الجهمية، والمعتزلة، ومناظرته مع الجهمية والمعتزلة معروفة لدى أهل العلم[17].
قال أبو الحسن الأشعري:
فأما أصحاب (عبدالله بن سعيد القطان) فإنهم بأكثر ما ذكرناه من أهل السنة، ويثبتون أن الباري تعالى لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا...[18].
قال العلامة ابن القيم الجوزية:
"كان عبد الله بن سعيد من أعظم أهل الإثبات للصفات، والفوقية وعلو الله على عرشه منكرا لقول الجهمية"[19].
ومع أن ابن كلاب يثبت لله الصفات الخبرية، من اليد والوجه والاستواء، ونحو ذلك ولا يؤول شيئا من هذه الصفات، ولا غيرها، نجد أن له رأيا وافق فيه الجهمية، والمعتزلة وعاتبه عليه السلفيون كثيرا.
وذلك اعتقاده بعدم قيام الصفات الاختيارية بذاته تعالى، وعلى كل حال فإن مواقف الرجل معروفة في الدفاع عن مذهب السلف لإثبات الصفات، وله أتباع من أحلاء أئمة الإسلام، نصروا مذهبه، وفندوا آراء المعطلة، وقرروا إثبات الصفات من جديد، بعد فترة التعطيل التي ساد فيها مذهب الجهمية، والمعتزلة.
وفي عهد ابن كلاب بدأ مذهب المعتزلة يتضاءل، ويختفي شيئا فشيئا.
ثم استمر أتباعه من بعده في الدفاع عن مذهب السلف، من الإثبات، منهم أبو العباس القلانسي، والحارث المحاسبي، وأبو الحسن الأشعري الذي رفض مذهب المعتزلة، بعد أن عاش عليه طوال أربعين سنة، وأعلن رجوعه فوق المنبر وسط جمع غفير من المسلمين عن مذهب المعتزلة إلى مذهب أهل السنة، وبعد رجوعه أيد طريقة بن كلاب في إثبات الصفات الخبرية، غير أنه وقع فيما وقع فيه بن كلاب من نفي قيام الصفات الاختيارية به تعالى وكان رجوع أبي الحسن الأشعري عن مذهب المعتزلة خاتمة ظهور المعتزلة، حيث وقف الإمام أبو الحسن الأشعري أمام مذهب المعتزلة، وفند آراءهم، وأعلن بطلان مذهبهم في صراحة منتصرا للحق، كما يصور ذلك كتابه الإبانة.
وبعد أن ظهر مذهب الأشعري إلى حيز الوجود اندمج مذهب ابن كلاب في مذهب الأشعري فاشتهر باسم (الأشعري) مع أن المذهب الأشعري في الحقيقة هو امتداد لمذهب ابن كلاب، لأن ابن كلاب والأشعري لا يختلف موقفهما في الصفات حيث أن أبا الحسن الأشعري يثبت جميع الصفات الخبرية وينفي قيام الصفات الاختيارية بذات الرب مثل ابن كلاب.
متأخرو الأشاعرة:
ثم بدأت جولة أخرى بعد الإمام أبي الحسن الأشعري، وقدماء أصحابه[20] قام بها جمهور الأشاعرة المتأخرون، مثل الجويني والإمام الغزالي، وابن فورك، وفخر الدين الرازي والشهرستاني، وسيف الدين الآمدي، والبيضاوي، وسعد الدين التفتازاني، وغيرهم من متأخري الأشاعرة.
وهذه الجولة تتمثل في تأويل هؤلاء الأئمة جميع الصفات الخبرية، بعد أن كان الإمام أبو الحسن الأشعري، وقدماء أصحابه لا يؤولون شيئا من الصفات الخبرية.
وهذا التأويل الذي مال إليه جمهور الأشاعرة بعد أبي الحسن الأشعري هو بعينيه ما عليه الأغلبية من العالم الإسلامي، في الوقت الحاضر.
والجدير بالتنبيه أن مذهب السلف وأهل السنة لا يزال بحمد الله تعالى يعتنقه كثيرون من ذوي العلم بجانب مذاهب المتأخرين الحديثة في كل زمان، يدافع عنه ويقوم بحمايته، والذود عنه؛ علماء السنة وحملة الحدي من الذين يمثلون مذهب السلف خير تمثيل، يثبتون ما أثبته الكتاب والسنة من الصفات مع تنزيه الرب عن مشابهة المخلوقين.
وإلى هنا ينتهي هذا العرض الموجز للكلام عن الصفات الإلهية عبر العصور الطويلة.
وصلى الله على محمد وعلى وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] انظر هذا التقسيم: الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل، لعثمان عبدالله آدم "الأثيوبي"، ص 17. عبارة عن رسالة ماستر مقدمة إلى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة عام 1398هـ/ 1978م. وقد تم الاعتماد على ما تضمنته هذه الرسالة في هذا العرض الموجز "للصفات الإلهية عصور طويلة"، لما في هذا العرض الموجز من الفائدة العظيمة. (مع تصرف بسيط من: إعادة توثيق وتأكد...).
[2] أنظر رسالة المدينة في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله ضمن رسالة الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، الطبعة السادسة، تحقيق محمد عبد الرزاق، مطبعة المني بالقاهرة، ص 4.
[3] مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد، ابن تيمية (ت 728هـ)، (17/ 299)، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1416هـ/ 1995م.
[4] المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تقي الدين المقريزي (المتوفى: 845هـ)، ج4، ص 188، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1418 هـ.
[5] إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) ج1، ص 39، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية – ييروت، الطبعة: الأولى: 1411هـ - 1991م.
[6] خلق أفعال العباد، للإمام البخاري (ت 256هـ)، ص 30، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، دار المعارف السعودية - الرياض.
[7] مجموع الفتاوى، ج5، ص 39.
[8] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر القرطبي (المتوفى: 463هـ)، ج 7، ص145، مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب
[9] انظر: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ج3، ص166، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى، 1406 هـ - 1986 م. وانظر: مختصر الصواعق المرسلة، اختصره: شمس الدين، ابن الموصلي (المتوفى: 774هـ)، ص 510، تحقيق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة – مصر، الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2001م. وانظر: مقدمة كتاب: نقض تأسيس الجهمية لمحمد بن عبدالرحمن بن قاسم، ص8-9، الطبعة الأولى 1391هـ.
[10] مختصر الصواعق المرسلة، ص 510. وكتاب: "العلو للعلي الغفار" للحافظ الذهبي(ت 748)، ص 131، تحقيق: أبو محمد أشرف بن عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف – الرياض، الطبعة: الأولى، 1416هـ - 1995م..
[11] البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير (المتوفى: 774هـ)، ج9، ص382-383، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الأولى 1408، هـ - 1988م
[12] الملل والنحل، أبو الفتح محمد، الشهرستاني (المتوفى: 548هـ)، ج1، ص48، مؤسسة الحلبي.
[13] ذكره الشيخ أبو زهرة في كتابه ابن تيمية حياته وعصره...، ص 184، دار الفكر العربي.
[14] نفسه، ص 184.
[15] منهاج السنة النبوية، ج 1، ص344.
[16] الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل، لعثمان عبدالله آدم "الأثيوبي"، ص 27.
[17] نفسه، ص 27.
[18] مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن لأشعري (المتوفى: 324هـ)، تحقيق: نعيم زرزور، ج1، ص 230، المكتبة العصرية، الطبعة: الأولى، 1426هـ - 2005م.
[19] اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ابن القيم الجوزية (ت 751هـ)، ج1، ص 432، تحقيق: زائد بن أحمد النشيري، دار عالم الفوائد - مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1431 هـ.
[20] وهم الذين كانوا أهل العراق، كأبي الحسن الكبير، وأبي الحسن الباهلي، وأبي عبدالله بن مجاهد، وصاحبه القاضي أبي بكر، وأبي علي ابن شاذان ونحوهم.