عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 18-01-2021, 07:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد سورة المؤمنون

مقاصد سورة المؤمنون


أحمد الجوهري عبد الجواد



ومر بنا في سورة طه ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى إذاً الكافر هو الشقي، قالوا ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أي كنا أشقياء، وغلبت علينا شهواتنا فشقينا بها، شقينا بحياة الكفر يا رب فأخرجنا من النار إلى الدنيا مرة جديدة وستكون آخر مرة سنوفي لك بالعهد، وسنعود مؤمنين، كما سبق قبلها بآيات قليلة ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا لماذا يا رب كلا؟ لماذا؟ أعطه فرصةً أخرى ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا يقولها بلسانه، لم يصدق فيها أبداً، كما جاء في سورة أخرى ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، لا يقولون ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون بصدق، بقصدٍ وعزمٍ على الوفاء حقاً، لا، إنما يقولونها مخادعةً لله، ومن ذا الجاهل الذي يخادع الله؟! ألا يعلم أن الله يخدعه، ألا يعلم أن الله يعلم غيب السماوات والأرض.


ثم تنتقل السورة في النهاية أيها الكرام إلى بيان حال أمة الإجابة وأمة الإعراض في الآخرة، كيف يكون هؤلاء وكيف يكون هؤلاء، مع التركيز على أمة الإعراض تهديداً لهم ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ... إلى آخر السورة، دونما تخلل الآيات من وصف الله لحال المؤمنين وثناءه عليهم إجمالاً، فالأمر لا يحتاج إلى ثناء فقد دخلوا الجنة وأفلحوا وانتهى الأمر، وأي ثناء على المؤمن بعد ما أفلح، من دخل الجنة لا يحتاج إلى ثناء بعد ذلك، إنما نثني عليه في الدنيا نقول نحسبه على خير، نحسبه من أهل الجنة، نحسبه من أهل الصلاح، نحسبه من الصادقين، نحسبه من الصالحين، لكن دخل الجنة وانتهى الأمر بماذا نصفه، لا يحتاج إلى وصفٍ أكرم من أنه صار في دار السلام، فيقول الله تعالى ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ يوم القيامة ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ، وبعدما فاز الإنسان أي وصف يكرِّمه بعد وصف الفوز، انتهى الأمر.

هذا عرضٌ لموضوعات السورة هكذا أخذتنا من جزئية إلى جزئية لكنها جميعاً جزئيات تهدف إلى هدف عنوانه المؤمنون، اسم السورة، وأول السورة قد أفلح المؤمنون الذين.. والذين.. والذين، في آخر السورة ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ، إذاً من اسم السورة ومن أولها وآخرها تستطيع أن تستخلص أخي الحبيب هدف السورة، كأن السورة جاءت تبلغنا رسالة عاجلة سريعة، تقول لكل إنسانٍ في هذه الأمة: اعلم أنك لم تُخلق في الدنيا عبثاً ولا لعباً ولا لهواً، إنما خُلقت لحق خُلقت لهدف، هدف أن تصير مفلحاً أن تفلح وأن تفوز، وأعظم فلاح هو دخول الجنة والفوز بها، وأقرب طريق إلى ذلك هو الإيمان بالله عز وجل، إذاً هي ثلاث كلمات، لم تُخلق عبثاً، إنما خلقت لكي تدخل الجنة والطريق إلى ذلك الإيمان بالله عز وجل، لم تُخلق عبثاً وإنما خلقت لتدخل الجنة فتفلح والطريق إلى ذلك الإيمان بالله عز وجل بما تقتضيه وتعنيه كلمة الإيمان.

هكذا أحبتي الكرام سورة المؤمنون في مجملها وما بقي إلا ربطها بما قبلها كما تعودنا لنرى تناسب وتسلسل سور القرآن، وهذا وصفٌ جمالي في القرآن، من روعة كلام الله، ومن حسن نظم الله للقرآن الكريم، نحن لا نحكم على القرآن بذلك ولكن نتعرف على هذا التناسب من القرآن، نتعلمه من القرآن، هذا فنٌ وبلاغة نتعلمها ونأخذها من القرآن لنفعل مثلها في كلامنا، في كتبنا حين نؤلفها، في دروسنا حين نعقدها.. وهكذا.

سورة الحج سبقت قبل هذه السورة، وقبلها سورة الأنبياء فكأن الأنبياء كما تعلمون جاءوا إلى البشر برسالات الله، لماذا؟ لينادوا بها على الناس ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، فمن يجيبهم ينادون عليه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، فالأنبياء نادوا على الناس بهذه النداءات، لماذا؟ وماذا يريد منا الرسل؟ الإيمان بالله عز وجل، فمن آمن فله كذا، ومن كفر فله كذا، وبهذا تتسلسل السور الثلاثة، سلسلةٌ واحدة جاء الأنبياء بتوجيه الناس إلى ربهم سبحانه عن طريق الإيمان بالله، فينشأ المؤمنون بجماعتهم المترابطة الطيبة المتآلفة، مثل المؤمنين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"[5]. إذاً جاء الأنبياء وشرع الله شرعه ليكون البشر جميعاً أمةً واحدة، جماعةً واحدة تعيش حياة سلامٍ حقيقي في هذه الأرض ولكن يشذ عن ذلك الكفار، فلا يريدونها سلاماً.

سبق في آخر سورة الحج ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، جاء في أول سورة المؤمنون ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، من أجاب هذا النداء فهو المفلح، من أجاب هذا النداء فقد حاز الفلاح، ولذلك تخرج من سورة الحج وأنت تقرأها فتدخل في سورة المؤمنون فلا تشعر بفرقٍ ولا بخلل ولا بفاصل، إنما تسلمك سورةٌ إلى سورة، وهكذا يتتابع كلام الله عز وجل حتى وإن كانت سورة الحج مدنيةً أو فيها آياتٌ مدنية، وبعدها سورة المؤمنون مكية فلا يفرق كلام الله الذي أنزله في مكة عن كلامه الذي أنزله في المدينة، فهو كلامٌ لإله واحد، وكله بوصفٍ واحد وهو أنه كلامٌ معجز فكله متناسق، وما أجمل كتاب الله، فعودوا إلى كتاب الله فاقرءوه وعيشوا معه، واضبطوا حياتكم به وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.
♦♦ ♦♦ ♦♦

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون العقلاء النبلاء الكرماء، أجيبوني بربكم وبحالكم، أجيبوني لا بالمقال ولكن بالتفكر معي، ما شعورنا نحن البشر - بغض النظر عن مسلم وغير مسلم - ما شعور البشر في مجتمعٍ يرى رجلاً يجلس على الرصيف هنا مرة وهنا مرة، في هذه الحديقة مرة وفي المكان هذا مرة، لا يتخذ بيتاً ولا مسكناً، لا يتخذ أسرةً، لا يتخذ وظيفةً، ما يُلقى إليه يأكله وإن لم يأكل فلا حرج، هكذا يعني كما يتفق، كما يبدو، كما يقال مطرح ما ترسي دقلها، عيشة وآخرها الموت، يمشي بهذا المبدأ، لم يرتب حياةً ولم ينظم يوماً ولم ينم ليلةً، الأمور مفروطة هكذا كما يكون، كما يعبر البعض حياته سبهللا، ما شعورنا نحوه، أهذا إنسانٌ يحترم ويكرم ويرفع؟ أو أنه يوضع ويحتقر والناس كله تُنكر عليه هذه الحال؟ لا شك ولا أحتاج إلى إجابة لأنها معروفة أنها الثانية، لا أحد يعتبر به، هذا إنسان مفرِّط في نفسه وفي الحياة، لم ينفع نفسه يوماً من الأيام إنما يعيش على نفع غيره، بل إنه لم ينفع غيره أبداً، فلا نفع فيه له ولا نفع فيه لغيره، فما قيمة حياته؟!

إذاً هذا الذي يعيش عبثاً، أو يظن أنه وُجد في هذه الدنيا عبثاً، العبث هو العمل الذي لا منفعة فيه ولا هدف له، كلاعب الكرة مثلاً، هذا عبث، إن كان ترويض الجسم فترويض الجسم بتمارين أخرى أسهل من هذه، إنما هذا من باب العبث، فهذا إنسانٌ يعيش حياته عبثاً لأنه يظن أنه وُجد فيها عبثاً، الكل أنكره، كل من له عقلٌ أنكر عليه هذا الوضع، سبحان الله، لماذا لا يتخذ مسكناً يسكن فيه، لماذا لم يتخذ وظيفةً يتعايش منها بدلاً من أن يعيش متسولاً عالةً يتكفف الناس، هذا يعطيه وهذا يُعرض عنه، هذه حياةٌ لا قيمة لها، هكذا يقول الله تعالى، لكن ليس للدنيا فقط بل للدنيا والآخرة ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ، ذلك الإنسان الذي نسمع عنه وأنه متطورٌ ومتحضرٌ ومتقدم وتلك الشعارات الكبيرة الفارغة الرنانة، حينما نراه يأكل حلالاً أو يأكل حراماً، يأكل ضأناً - لحم ضاني - أو يأكل خنزيراً، يشر ماءً أو يشرب خمراً، يتزوج امرأة – وهو رجل – أو يتزوج رجلاً مثله، امرأةٌ تتزوج رجلاً أو تتزوج امرأةً مثلها، هكذا كما تكون الحياة، يتزوج أم يتخذ صاحبات دون زواج أو بزوجة واحدة يعرض عنها أو يتركها لأصحابها من الرجال، هذه الحياة حياةٌ عبث لا ضوابط فيها، كلمة حرية بالمفهوم الحاضر اليوم معناها فوضوية، معناها عبث، حياةٌ بدون ضوابط، بدون حدود، فهي حياةٌ عابثة، الله ما خلق حياة مثل هذه أبداً، ولا يخلق عبثاً أبداً سبحانه وتعالى، تلك الذبابة ما خلقها عبثاً، تلك النملة ما خلقها عبثاً، تلك الحشرة في باطن الأرض وما لنا ومالها ولماذا خلقها الله، ما خلقها الله عبثاً وإن جهلنا قيمة حياتها، كل ما خلقه الله خلقه لحكمة، وأكرم مخلوقٍ في الدنيا هو الإنسان ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ، فلا يمكن أن يكون خلق النمل والذباب والكلاب لحكمة وخلق الإنسان عبث لغير حكمة، لا يمكن أبداً، بل أولى الخلق بأن تكون حياته ذات هدف وذات حكمة هو الإنسان، وذكرها الله إجمالاً فقال ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، أما مشاغلهم هذه فليس لهم بها شأن غير الأخذ بالأسباب فقط ﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، فمن أين يأكلون يا رب؟ ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ، الله خلق الكون كله وأعد فيه كل شيء ثم جاء بنا ضيوفاً كراماً أعزاء على هذه الضيافة وعلى هذا النزل العظيم، ثم قال لنا لا تحمل هم شيء رزقك عندي وأجلك عندي، ماذا يقلقك، ماذا يزعجك، الأجل والرزق، أن يقطع شيءٌ أجلك فتموت أو أن يقطع أحدٌ ويبغي على رزقك فأخذه منك فتجوع ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى *وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ضمنا لك هذا، لكن عليك تكليفٌ واحد فقط أن تعبدني أنا الله ﴿ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، وعبادة الله ليست العكوف في المساجد وترك الدنيا وأعمالها، لا، بل كما عرفنا مراراً وتكراراً أن عبادة الله بالصلاة في المساجد، والحج في الحرم، وصيام رمضان، وبر الوالدين، واختيار الزوجة عند الزواج، واختيار الزوجة زوجها عند الزواج، وإنجاب الأولاد وتربيتهم، وإماطة الأذى عن الطريق، وإصلاح الطريق للسالكين، وتنظيف المجتمع والبيئة والحفاظ عليها، الحفاظ على الموارد التي أكرمنا الله بها من المياه كما في نهر النيل أو الآبار وما إلى ذلك، كل هذا المؤمن يعمله إيماناً بالله، فتصير كل حركة وسَكَنة في حياته عبادة لله عز وجل، ما يرضى الله أن نعبده في المسجد فقط ونحن أحرارٌ في الأسواق، نحن أحرارٌ في البيوت، نحن أحرارٌ في الشوارع، في المصانع، ما يرضى الله بهذا أبداً، لا يقنع الله بهذا فإن كل هذه المواطن هي من خلق الله ومن نعمة الله، إذاً اعبد الله حيث كنت بكل حركةٍ وكل سَكَنة، كما يقول تعالى ﴿ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كيف؟ أن تجعل كل أمر في حياتك على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتغاء مرضاة الله، تتبع فيه النبي عليه الصلاة والسلام إيماناً بالله وطلباً لرضى الله عنك.

بهذا المفهوم البسيط تصير عابداً لله، وقلنا مرةً قبل ذلك ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ نقرأها كثيراً وهي مجمل العبادة كذلك ومجمل العقيدة والتوحيد ومجمل الدين، أن الإنسان إما أن يعمل لغيره أو يعمل لنفسه، أنا كواحد من الناس إما أن أسعى سعياً يفيدني أنا وإما أن أسعى سعياً يفيد غيري، فإن كنت أقصد إفادة نفسي وأطلب شيئاً لنفسي، فالله تعالى يقول استعن بي وأنا أعينك ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ، وقل قولاً وعملاً ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وحينما تعمل عملاً شيئاً ونفعاً لغيرك فاعمله طاعةً لله وعبادةً لله، لا لكرم فلان ولا لجماله ولا لسواد عينيه ولا لسبق فضله عليه ولا كذا، هذه المجاملات تقضى ولكن الهدف الأساس أنني أعبد الله من خلال إكرام ضيفي والإحسان إلى جاري، والبر بوالدي، وإكرام زوجتي، وتربية ولدي، وصحبة الناس بخير وصدق.. وهكذا، كل عمل أعمله عبادةً لله، ولكن الله تعالى قال أولاً ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ حين أسعى لغيري أعبد الله بهذا، وقال بعدها ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حين أعمل لنفسي، إشارةً لطيفة لأولي الألباب أمثالكم، إشارة إلى أنه يا مسلم ينبغي أن تعمل لغيرك قبل أن تعمل لنفسك، قبل أن تعمل لنفسك اعمل لغيرك أولاً واحمل هم أخيك المسلم والإنسان أولاً قبل أن تفكر في نفسك، هذا هو جمال الإسلام وجمال لإيمان ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ لا يصلها كل الناس، لا يرقى إليها كل الناس، إنما يرقى إليها بعض المؤمنين جعلنا الله منهم ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ، فهو يعبد الله أولاً بالعمل لغيره من الناس، ثم يستعين بالله حين يعمل لنفسه، فما خُلقنا عبثاً وإنما خلقنا لقضية الإيمان والعباد ﴿ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، الكفار هؤلاء يظنون أن حياتهم هكذا، ولذلك يظنون أن الموت لا حياة بعده، نهاية المطاف ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ، لا يرجون حساباً ولا حياة بعد الموت حتى يموتوا على حالهم، ومن هنا يظنون أن الموت راحة، هم ينتحرون ويستعجلون قضاء حياتهم وانتهائها، وكثير من المسلمين للأسف حين يضيق وخاصة في الأمهات والنساء تدعو على نفسها يا رب ريحني بالموت، اللهم أرحنا في الحياة وفي الموت، ولكن هل الموت راحة؟ من قال هذا، الموت سكرات، نسأل الله أن يهون علينا، وبعد الموت سؤال في القبر في الوحدة والوحشة والظلمة، أي راحةٍ هنا، هنا نعمل صالحاً فيحسب لنا ونعمل سيئاً فيكتب علينا ونستغفر فيغفر الله، لكن في الآخرة جزاءٌ بدون عمل، هنا يمكن الإصلاح والتوبة، هناك لا إصلاح ولا توبة، انتهى الأمر طويت الصحف، فالميت يحتاج إلى دعوة الحي وتنفعه، والحي لا ينفعه شيءٌ من الميت، لذلك أرجو أن نعي هذا الدرس العظيم الذي أخذناه اليوم في هذه السورة وأن ننشره في الناس وهي دعوةٌ ملخصة تدعو إلى الإيمان، هل خُلقت عبثاً بالدقة التي أنت فيها، فهاتين العينين الجميلتين، بهذا النسق الرائع في وجهك وفي تقاسيم وجهك، بهذه الدقة في أحشائك، القلب وعمله، الرئتين وعملهما، الكليتان وعملهما، الكبد وما يفعل، كل هذه الأجهزة وأدوارها التي خلقها الله من أجلها وتؤديه بحكمة طالما لا يفسدها الإنسان فهي تؤدي دورها بتمام، هذه الدقة في خلقي أنا كإنسان هل هذا جاء عبثاً، جاء صدفة؟ لا يمكن، إذاً أنا على بعض، أنا بكلي وكاملي ما خُلقت عبثاً، ورائي مهمة، كما أن لكبدي مهمة ولقلبي مهمة وللعرق مهمة وللشعر مهمة وللظفر مهمة، لن أكون أقل من ظفري قيمةً بل أكون أكبر منه قيمة، أقص ظفري وألقيه في الأرض ولكن أنا أكرم منه فلابد أن تكون حياتي لقيمة، أبحث عن هذه القيمة وقد علمنا الله إياها وهي العبادة لله عز وجل بالمفهوم العام الذي عرفناه، ولماذا نعبد الله ونتعب في صلاة وصيام وحج وبر وكذا، ما الهدف وراء هذا وما النتيجة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الفلاح، بعد هذا التعب البسيط، بعد هذا العمل الذي لا يشق علينا كثيراً ننتهي في النهاية إلى جنة فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى للذين أحسنوا في الدنيا الحسنى في الآخرة وهي الجنة، ومعنى الحسنى يعني التي هي أحسن منها، الحسنى هي أحسن الأشياء المؤنثة، الحسنى فلا أحسن بعد ذلك، وفي الجنة ينادي الله تبارك وتعالى على أهلها - جعلنا الله فيهم – يا أهل الجنة هل رضيتم، يقولون وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد غفرت ذنوبنا وأدخلتنا الجنة، فيقول الله تعالى هي أزيدكم، وقد رأوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا يتخيلون زيادةً بعد ذلك، فيقولون وهل وراء ذلك من زيادةً يا ربنا، فيتجلى الله الكريم عليهم بوجهه العظيم فيرون وجه الإله، يرونه كما يرون القمر ليلة البدر في الدنيا، ليلة اكتماله، تلك البهجة التي تقع في النفس تلك الرؤية الحقيقية التي لا شك فيها ولا ضيم فيها ولا تزييف، تستطيع أن تقسم بكل الأيمان أن هذا هو القمر بخلاف ما يكون في أول الشهر هلالاً، قد يكون هلالاً وقد يكون شيئاً آخر لمع في عيني، لكن البدر في ليلة الرابع عشر هو القمر بعينه والله هذا هو القمر، أنا متأكد متيقن، بهذا اليقين سترى ربك في الجنة، تنظر إلى وجهه الكريم فتنعم، فلا يجد أهل الجنة نعمةً أحسن من هذه النعمة، يعني تضعف وتصغر الجنة في أعينهم أمام النظر إلى وجه الله الكريم.

اللهم أرنا وجهم الكريم في الجنة، اللهم أرنا وجهم الكريم في الجنة، اللهم أنعم علينا بالنظر إلى وجهك الكريم في الجنة، اللهم اجعلنا في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا من المؤمنين المفلحين يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من المؤمنين المفلحين يا رب العالمين، الذين حجوا إليك وتوجهوا إليك بأبدانهم وقلوبهم، اللهم اجعلنا من أتباع الأنبياء وأمة الإجابة يا أكرم الأكرمين، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، اغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾، ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين.

عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم.. وأقم الصلاة.


[1] وردت تسمية هذه السورة (سورة المؤمنون) في السنة، فقد روى مسلم (455) عن عبد الله بن السائب قال: "صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو ذكر عيسى - أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع".

[2] مما جرى على الألسنة أن يسموها سورة (قد أفلح)، ووقع ذلك في كتاب الجامع من العتبية في سماع ابن القاسم، قال ابن القاسم: أخرج لنا مالك مصحفًا لجدّه، فتحدثنا أنه كتبه على عهد عثمان بن عفان، وغاشيته من كسوة الكعبة، فوجدنا.. إلى أن قال: وفي (قد أفلح) كلها الثلاث ﴿ لِلَّهِ ﴾ [المؤمنون: 85]، أي: خلافًا لقراءة: {سيقولون الله}، ويسمونها أيضًا (سورة الفلاح). أهـ التحرير والتنوير (19/5).

[3] انظر: التحرير والتنوير (19/5).

[4] انظر: لسان العرب (2/ 548).

[5] أخرجه البخاري (5665)، ومسلم (4685).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.57 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.89%)]