هذه هي سورتنا فكأن هدفها بهذا الاسم - الأنبياء - كأن الله تعالى يقول للناس الأنبياء رحمةٌ من الله لكم فوقِّروهم واعرفوا قدرهم واتبعوا هديهم تفلحوا بإذن الله، كن مع الأنبياء، ذهب الأنبياء وليس في عصرنا أنبياء، كن مع ورثة الأنبياء فلهم ورثة وهم العلماء، كن مع أهل القرآن، كن مع أهل الدين، كن مع صحبة الخير، كن مع أهل العلم، فإنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وهذه شهادة الله لهم في أحاديثه القدسية: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"[4]، من جالسهم مجرد مجالسة لا ليتعلم ولا ليذكر ولا لشيء إلا أنه يحب هؤلاء الناس فجالسهم، أو استطاب الجلوس عندهم فجالسهم، "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
سورتنا الأنبياء ترتبط بآخر سورة طه رباطاً عظيماً وارتباطاً وثيقاً كأنهما سورةٌ ممتدة، ففي آخر أو أواخر سورة الأنبياء قبل الآخر بقليل يقول الله تعالى تهديداً لهذه الأمة ﴿ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ يعني لولا أن الله أجل عذاب هذه الأمة وكفارها إلى أجل مسمىً ومحدد لعجل الله لهم بالعذاب كما استعجلوه، ولكان العذاب لزاماً عليهم، وحالاً بهم الآن قبل غد، ﴿ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ أي لكان العذاب لزاماً أي لازماً لهم ومتعجلاً لهم، ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾.
وفي آخرها - آخر آية - يقول الله تعالى ﴿ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ﴾ أي منتظر ﴿ فَتَرَبَّصُوا ﴾ فانتظروا ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ﴾، وبهذا تختم سورة طه فستعملون يا كفار هذه الأمة ستعلمون، وعيد ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ﴾ سيأتي يومٌ تظهر فيه هذه الحقيقة وتُعلن، متى؟ ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ يوم أن يأتي الحساب كلٌ سيعلم حسابه، وكلٌ سيرى من كان ضالاً ومن كان مهتدياً، وقد اقترب هذا الموعد جداً ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾.
وبما أن السورتين مكيتان فيستمر الموضوع أيضاً الأساس وهو الحديث عن العقيدة، ولكن بشكل يختلف عما عرضت به في سورة طه، فالسورتان متصلتان ببعضهما آخذتان بأعناق بعضهما اتخاذاً عظيماً وأخذاً شديداً، وبهذا يتناسب كلام الله تبارك وتعالى ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾.
نحمد الله على نعمة القرآن ونسأله أن يبارك لنا فيها، وأن يتوفنا عليها، وأن يجعلنا من أهلها، والأحق بها، إن ربنا هو الرحمن الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
♦♦ ♦♦ ♦♦
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام، فهذه سورة الأنبياء المكية التي تحمل الاسم الجامع لكل من أرسله الله تبارك وتعالى عنواناً عليها، وتشريفاً للأنبياء أن يكون ذكرهم في كلام الله تبارك وتعالى، وتنبيهاً للأمة أن هؤلاء الأنبياء هم صفوة الله من خلقه في كل زمان، وفي كل مكان، وأنهم هم القوم الراشدون، فمن أفلح تبعهم، ومن أصلح عمل بعملهم، فترجم يا مسلم حبك للنبي صلى الله عليه وسلم بالعمل بسنته وباتباع هديه عليه الصلاة والسلام، وبكثرة الصلاة عليه، اللهم صل وسلم وبارك عليه كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون، اللهم آمين.
هناك نقطتان صغيرتان، الأولى لاحظت في هذه السورة مسألة التوحيد والوحدانية، إذ ينبه الله تبارك وتعالى على مصدر هذا الوجود، وهذه الكائنات كلها، مصدر الأحياء مصدرٌ واحد ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾، أي أن كل مخلوقٍ دخل الماء عنصراً أساساً في خلقه وفي تكوينه، وهذا يعتبر دعوةً للعلماء الذين يبحثون في الماء وفي الأرض وفي الفلك وفي السموات والآفاق وهنا وهنا، ابحثوا عن الماء كيف كان سبباً لكل حيٍ ليحيا بإذن الله تعالى، هذا إعجاز علمي عظيم يبلغه العلماء أو يقصرون عنه، كله بإذن الله، لكن ابحثوا لتعلموا أن القرآن حقٌ وأنه من عند الله فعلاً.
كما ينبه الله تعالى على وحدة النهاية للأحياء ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾، وما لا نفس له فقد قال الله فيها في آيةٍ أخرى ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾، ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾، ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ إذاً كل حيٍ مهما كان عنده من الماء الذي هو سبب الحياة فالله تعالى يميته ولو في البحر، فقد أهلك قوم نوحٍ في الطوفان، في ماءٍ موجه كالجبال، وأهلك فرعون وجنده في البحر ﴿ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾، فماء الحياة موجود ولكنه يموت به، وهذا من كمال قدرة الله العلي سبحانه وتعالى.
كما نبه الله تعالى إلى وحدة المصير والنهاية، الكل ينتهي إلى نهاية واحدة ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾، نبه الله تبارك وتعالى على وحدة العقيدة، وأن كل الأنبياء هؤلاء إنما أُرسلوا من عند الله برسالة واحدة، أي بدينٍ واحد، قال تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾، كل رسول جاء بلغ هذه الرسالة المختصرة، أرأيت كيف أن الدين سهل؟ كيف أن الدين يسر؟ أمران اثنان، قل وحقق في حياتك لا إله إلا الله، وحققها بالعبادة لله وحده لا شريك له، تقولها بلسانك وتحققها بالعبادة، ﴿ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ رسالة كل نبي إلى قومه ما خالفها أحد، ولذلك ليس صحيحاً ما يقال الأديان السماوية، إنما هو دينٌ سماويٌ واحد بعث الله به جميع الأنبياء هو دين التوحيد، إنما نقول الشرائع السماوية، فقد بعث الله كل نبي بشريعة، أو كل رسول بشريعة، والشريعة هذه تختلف عن الشريعة الأخرى بما يتناسب مع حال هذه الأمة وحال تلك الأمة، وهذا من رحمة الله ما أرسل الله الرسل إلى رحمةً للعالمين في زمانهم.
كما نبه الله تبارك وتعالى إلى وحدة القانون والسنة في معركة الوجود، الوجود هذا يقوم على معركة منذ بداية الدنيا، من أول ما خلق الله آدم وأبى إبليس أن يسجد له، فنشأ الشر وبدأت المعركة، لأزينن لهم، لأفعلن بهم، لآتينهم، لأغوينهم، كل هذا، بدأت المعركة بين الحق والباطل، وهذا هو الابتلاء والاختبار، أن تعيش بدين الله وتحارب الشيطان وتجاهده وتخالفه، هذه المعركة قامت على سنة واحدة، من آمن وأيقن بها وصدقها من خلال الوقائع الكثيرة المتكررة في الحياة، فإنه يؤمن لا محالة، ويثبت على إيمانه مهما كانت الظروف حالكةً ومظلمةً، وذلك أن الله تعالى أخبر أن الباطل دائماً مهزوم، إن لم يهزم اليوم ففي الغد، وإن لم يكن في الغد ففي بعد الغد، في النهاية سيهزم الباطل، قال تعالى مبيناً قوة هذا القانون ومضي هذه السنة وأنها لا تتخلف أبداً ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ لكم الويل يعني يا أهل الباطل حينما يهزم باطلكم فلكم الويل بما وصفتم به الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ووحيه وكتابه ودينه من أوصاف لا تليق ولا ينبغي أن تقال، والله تعالى في هذه الآية القصيرة يصور لك الحق والباطل وكأنهما رجلان يتصارعان في حلبة مصارعة، رجلان نازل أحدهما الآخر بالضرب، فجاء الحق وضرب الباطل ضربةً برأسه في دماغه فدمغه، دمغه أي ضربه على دماغه ضربة مات بها الباطل وزهق ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ﴾ والحق، حتى لا تغتر يا صاحب الحق، حتى لا تأخذك النشوة يا مسلم، اعلم أن لا نصرة لك إلا من عند الله ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾، فيقول الله تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ ﴾ الله تعالى هو الذي يدفع الحق دفعاً على الباطل فيدمغه بدماغه، أو ضربةً على دماغه فيزهق بها، ويجملها الله تعالى من بدايتها إلى نهايتها ويمثل سرعة هذه المعركة في آية أخرى شبيهة يقول ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ﴾ وكأن الحق بمجرد ما يدخل المكان الباطل يزهق، ولكن في آيتنا هذه في سورة الأنبياء يبين الله تعالى طبيعة المعركة أن الباطل يقف ويقاوم أحياناً، يقاوم الحق في بعض الأحيان لفترة، لكنها مقاومةٌ ضعيفة، فيقوم الحق بقوة الله ويدمغ الباطل على دماغة دمغةً فيزهق بها ﴿ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾، وأن الأنبياء ومن تبعهم من أهل الصلاح دائماً هم المنصورون، كما قالها في سورةٌ أخرى ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾، ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾، وهنا في سورة الأنبياء يقول الله تعالى ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا ﴾ كتب الله أي قرر وقضى قضاءً مبرماً لا ينفصم أبداً، ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ﴾ تفسير الآية أي كتبنا في زبور داود والكتب السابقة من بعد الذكر أي من بعد القرآن، ومن بعد هنا بمعنى من قبل، وهذا يجوز في لغة العرب أن توضع من قبل مكان من بعد، وكأن الله يصور لنا أنها دائرةٌ دوارة لا تنتهي، ألها كآخرها وآخرها كأولها، فمن بعد الذكر من قبل الذكر هذه سنةٌ ثابتة، قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾، طالما أنتم صالحون فالأرض لكم إن شاء الله، ليست أرض سيناء ولا أرض فلسطين ولا أرض كذا، لا بل الأرض، الأرض كلها في العالم للمسلمين، لأهل الصلاح، وإن لم يكن المسلمون أهل صلاح فليس لهم شيءٌ في الأرض، لن يأخذوها، لن ينالوها، الله يورث الأرض أي أرض الدنيا لعباده الصالحين، ﴿ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا ﴾ بلاغ من الله سبحانه وتعالى يبلغ به عباده، أن الأرض لهم بمعنى أن الاستخلاف والاستبقاء والخلافة في الأرض والرياسة والسيادة والزعامة لعبادي الصالحين ﴿ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ هكذا قرر الله تعالى.
وهكذا يذكر الله جملةً من الأنبياء، ستة عشر نبياً بستة عشر أمة أو نحوها، كلهم شيءٌ واحد، مصدرٌ واحدٌ بُعثوا منه، دينٌ واحد لا إله إلا الله، أو لا إله إلا أنا فاعبدون، بُعثوا بها جميعاً، كلهم يدعون إلى الفضائل وينهون عن الرذائل، كلهم يدعون إلى التي هي أقوم في هذه الحياة، وفي النهاية يدعونا إلى الجنة والبعد من النار، فالسورة كلها تشير إلى توحد هذا الوجود، وارتباط وحدته هذه بوحدة الدين والعقيدة، ومن خلال ما ذكر الله من بعض قصص الأمم في هذه السورة يبين ارتباط الدين بالحياة، فمن صلح دينه صحت حياته، ومن ضاع دينه فسدت حياته، وذلك المعنى كان سابقاً في سورة طه إذ يقول ربنا ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾، معيشة ضنكا ضيقة﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾.
هذه الأولى، والثانية أقصر منها بكثير حول قول الله تعالى ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾، فهمها المشركون قديماً على أن كل من عُبَد من دون الله فهو في جهنم، فقالوا مرحباً بدارٍ فيها عيسى وفيها الملائكة نارٌ نار لا حجر طالما عيسى معنا والملائكة معنا في النار فمرحباً بهذه النار، لا، لا يُدخل الله عيسى النار أبداً، ولا يدخل الله أحداً من ملائكته النار وليس لهم جنة ولا نار، وبعض الملائكة خَزَنةٌ في النار ولا يعذبون بها، يقومون عليها وعلى تعذيب من فيها ولا يتأثرون بحرها ولا ببردها، إنما معنى الآية، المعنى الصحيح لها، إنكم وما تعبدون من دون الله ممن رضي أن يُعبد من دون الله، فرح بذلك، رضي بذلك، كفرعون، والنمرود وغيرهما، علموا أن الناس يقدسونهم ويعبدونهم وفرحوا بهذا ورضوا به، حصب جهنم، لك الإله الذي رضي بهذا، أو ذلك الشيء الذي رضي بالألوهية من دون الله وفرح بها هو ومن عَبَده يجمعهم الله في النار ليقول لهم هذا إلهكم الذي استعبدكم، كفرعون هو الذي استعبد قومه، هذا إلهكم الذي استعبدكم وصدقتموه أنه إله حين قال أنا ربكم الأعلى ما علمت لكم من إله غيري، إنه معكم يحترق معكم بالنار، وهذه آلهتكم أيضاً التي اتخذتموها من دون الله كالحجارة، وإن لم تكن راضية فإنها لا تُعذب الحجارة ولا تشعر بألم إنما يحشرها الله مع عبَّادها في النار حجةً على الناس، هذه آلهتكم فاجعلوها تدفع عنكم أو تدفع عن نفسها، فيكون هناك تعذيبٌ جسدي وتعذيبٌ نفسيٌ أيضاً أننا ضيعنا حياةً طويلة في عبادة الأحجار والأصنام وبان أنها ليست آلهة فيا حسرتنا على حياتنا، وعلى ما فرطنا في جنب الله.
هذا تنبيهٌ على هذه الآية لئلا يشبَّه علينا بها، فمعناها إنكم وما تعبدون من دون الله ممن رضي أن يكون إلهاً مع الله أو من دون الله، أنتم جميعاً حصب جهنم، أما من رفض أن يُعبد من دون الله كعيسى عليه السلام لو يعلم بذلك لتبرأ منه كما سيتبرأ يوم القيامة ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ يقول المفسرون: يُسمع لعظم عيسى عليه السلام يومها صوت، يعني عظمه يطقطق من شدة السؤال ومن هيبة الموقف ﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ اللهم يعلم أنه قال هذا، وشهد له بهذا في سورة مريم، أول ما أنطقه الله وهو طفلٌ مولودٌ صغير ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ كيف إله يصلي لإله، ويزكي من أجل إله، كيف إله يقول: إني عبد الله؟! هذا ينقض الأمر الذي يزعمه الناس فيه، والملائكة لم ترض بعبادة أحد وتتبرأ يوم القيامة من عبَّادها كذلك، وهكذا ينفرد الله تعالى بالألوهية في الدنيا حقاً، وينفرد بالملك يوم القيامة فلا إله غيره.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا في عباده الموحدين، وأن يرزقنا اتباع النبيين والمرسلين، وأن يحشرنا معهم يوم الدين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، نسألك القبول منا والمغفرة لنا والرضا عنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر الدين وأعز الإسلام والمسلمين، اللهم رفع راية الدين، اللهم ارفع راية الدين ومكِّن لنا ديننا الذي ارتضيت لنا يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، وارحم أمواتنا، اللهم ارحم أمواتنا، اللهم ارحم أمواتنا برحمتك الواسعة يا رب العالمين.
عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم.. وأقم الصلاة.
[1] أخرجه البخاري (3187)، ومسلم (4362).
[2] هي مكية بالاتفاق، وحكى ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك، ونقل السيوطي في الإتقان استثناء قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الأنبياء: 44]، ولم يعزه إلى قائل. ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها.
وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح. وسيأتي بيانه في موضعه. وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية، فالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها. أهـ التحرير والتنوير (18/6).
[3] هذا الحديث ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أخرجه البخاري (4994)، موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري (6045)، ومسلم (2689).