هذا ما رزق الله تعالى في هذا الموضوع، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيه النفع النافع لنا والمقرب لنا من ربنا سبحانه وتعالى، والدافع لنا إلى العمل الصالح، إن ربنا هو الرحمن الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام، إن واقع المسلمين اليوم وما يحدث في غزة على وجه الخصوص من بين أحداث كثيرة مؤلمة أيضاً ولا تقل بشاعة، إن هذا الواقع فعلاً مؤلمٌ للنفس مقلقٌ للقلب، أمورٌ لا تقرها أديان سماوية ولا أرضية، لا تقرها إنسانيةٌ ولا آدمية، لا يقرها حسٌ سليم، ولا عقلٌ سليم، ولا ذوق، ولا تقدير، يكفي أنها حروبٌ تنشأ وقتلٌ دامٌ، مذابح في شهرٍ حرام، كان أهل الجاهلية الأول الكفار عباد الأحجار، كانوا لا يحاربون في هذه الشهور وإن كانت الحرب طلاَّبة وإن كانت الحرب غلاَّبة، كانوا يتركون القتال في الأشهر الحُرُم، رغم أنهم بغير دين، لكن ورثوا تعظيم هذه الأشهر الحُرُم فكانوا يحرمونها، وإذا اضطروا إلى القتال فيها فكانوا يكفِّرون عن ذلك، يحرمون شهراً مكان الشهر من الأشهر الأخرى، ويزيدون عليه عشرة أيام فيصير الشهر عندهم أربعين يوماً، يزيدون على الشهر الذي يحرمونه عشرة أيام كفارةً أنهم حرموا شهراً مكان شهر، كفارة على أنهم بدلوا نظام الله في الكون، بل في الشعر الذي وصلهم، فكان أهل الجاهلية الأولى أحكم وأعقل بكثير من كثير من همج الناس في هذه الأيام، نعم إن الأحداث مؤلمة، نعم إن الصمت الرهيب مؤلم، نعم إن الألم لا حدود له، ولكن ماذا نفعل، ديننا يعلمنا، ديننا يجعلنا نضحك وسط هذه الأحداث ضحكة فرح وسعادة بما يجري، قد نبدو أننا جُننا حين نضحك في وسط الأحزان والأتراح، يبدو أننا من شدة الألم فقدنا صوابنا، لا والله بل قال الله في القرآن ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾[التوبة: 52] قتلنا أو بقينا وانتصروا فنحن على خير، المسلمون على خير دائماً، أولئك الذين يقتلون وبغير ذنب شهداء عند الله كما نحتسبهم والله حسيبهم، ونسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء، فهؤلاء تحت الهدم وتحت النار وقتلٌ واعتداء شهداء عند الله تبارك وتعالى، وقد قال تعالى ما تحفظون ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [آل عمران: 169، 170] هكذا، ثم إن الذين يُفلتون من الموت بتقدير الله وتبقى حياتهم وتستمر يُمَحِّصهم الله تعالى، ينقيهم، يوقظهم، يجعلهم رجالاً أطفالاً صغار يشبون على رجولة عظيمة، يفهم قضيته، عرف عدوه، تميز أمامه الصديق من العدو، حتى لا يضع يده في يد عدو يلبس له ثوباً أبيض، أو يظهر له بمظهر مزيف، عرف عدوة من صديقه، عرف أخاه من ابن عمه، عرف هذا من ذاك، فهذه نعمة ينعم الله بها على من بقيت حياتهم، كذلك يظهر إخواني، من الذي يؤانسني في وحشتي؟ من الذي يقف بجانبي؟ ومن الذي يتخلى عني؟ فيعرف الإنسان المسلم الصادق الذي يناصره ولو من بعيد، ويعرف المسلم المتخاذل وربما المنافق الذي يتخلى عني ولو من قريب، كل هذه حقائق يوضحها الله تبارك وتعالى، يمحِّص المؤمنين ويمحق الكافرين، ويزداد الذين كفروا إثماً وذنباً يستحقون به عقوبةً شديدةً من الله، يريد الله أن يشدد عذابهم، يريد الله أن يشدد عقابهم، فبماذا يعذبهم؟ لابد أن ييسر لهم العسرى التي يريدونها فيرتكبون آثاماً كثيرة فيستحقون العذاب الأليم الشديد.
فاصبروا، اصبروا ولكن عليكم بالدعاء، لا تتباطئوا فيه، ولا تقعدوا عنه، ولا تنسوه، لا تقيدوه بالصلوات فقط، ندعو بعد الركوع الأخير في كل صلاة فريضة، بل اجعلوه في كل أوقاتكم، لا تنسوا هذا الأمر فإنه يغطي على طعامنا وشرابنا وشهواتنا، إنه حاضرٌ دائماً في حسنا وذهننا، فكل ما ذكرناه دعونا لإخواننا دعوةً من القلب، دعوة بحس، دعوةً بشعور، واعرفوا نعمة ربكم عليكم حيث تعيشون في بلد آمن وفي جو آمن، غيركم فزع والله من عليكم بالأمن، فتوبوا إلى الله عودة إلى الله، أكثروا من ذكر الله وعبادة الله شكراً له على نعمة الأمن فهي نعمة عظيمة لا يعطيها إلا الله، ولا يسلبها إلا الله سبحانه وتعالى، المؤمن آمنٌ بالله خائفٌ بغير الله، حين نتخلى عن الله فكل شيء يخيفنا، حين نخاف من الله وحده يؤمننا الله تعالى من كل شيء، وقد جاء هذا في معنى بعض الأحاديث القدسية.
لذلك أحبتي ينبغي أن نتعامل مع مجريات الأمور والأحداث تعاملاً حكيماً لا هَوَج فيه، ولا ثورة فيه تعود علينا بشر مما نحن فيه فإن هذه سنن الله في خلقه، نصر نبينا عليه الصلاة والسلام في غزوة بدرٍ نصراً عزيزاً مؤزراً مخالفاً للقوانين المادية في الحرب، كما عرفنا ذلك من خلال سورة الأنفال ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، وفي الغزوة التالية غزوة أُحُد هزم المسلمون وبتقدير الله بسبب أفعالهم هم حينما خالفوا أمر قائدهم، الرماة الذي كانوا يحرسون الجيش من خلفه ومن ورائه حتى لا يغير عليهم العدو من حيث لا يشعرون، حين رأوا علامات النصر ترتفع في الميدان قالوا انتصرنا وانتهى الأمر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لا تبرحوا هذا المكان مهما كان الأمر حتى أصرفكم عنه، فحينما رأوا النصر قد لاح في الأفق ظنوا أن الأمر قد انتهى على هذا، فنزلوا ليأخذوا الغنائم وليقتلوا من قتلوا من الكفار وليسلبوا ما يسلبون وهكذا، فكانت الدائرة عليهم، جاءهم جيش من جيوش الكفار من خلفهم وألحق بهم الهزيمة حتى أصيب النبي نفسه صلى الله عليه وسلم، شج وجهه الشريف وكرت رباعيته عليه الصلاة والسلام، وما كان لأحدٍ أن يصل إليه، وقتل عمه وحبيبه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه[5].
وهكذا كانت الأحداث على خلاف ما كانوا يتوقعون، فمرةً لنا ومرةً علينا هكذا الدنيا، الحرب سجال وكان الصحابة رضي الله عنهم يواجهون أعدائهم بهذا، حين يعيَّرون بأنهم غلبوا يقولون الحرب سجال يومٌ لنا ويومٌ علينا، وهكذا، هذا شأن الدنيا ليس انتصاراً دائماً بل ينبغي أن نعرف أن الانتصار ليس بالسلاح فقط، بل نحن المسلمين حينما ننتصر بالسلاح والقوة ونهزم عدونا وندحره فهذا نصر وهو من عد الله لا بأيدينا، وحينما نهزم من عدونا بالسلاح والقوة، فهو أقوى منا مادياً، فهو يحارب من أجل عقيدة ونحن لا نحارب من أجل عقيدة، هناك خللٌ معين فينا أصابنا بتلك الهزيمة، ولكننا لم نُهزم، لكننا بهذه الهزيمة منتصرون لأننا ما وطئنا موطئاً، ما دسنا على مكان، ولا تغبرت أقدامنا، ولا أطلقنا طلقة، ولا أصبنا بإصابة إلا كُتب لنا بذلك كله عملٌ صالح، كما ذكر الله تعالى في القرآن، كل حركةٍ في الجهاد في سبيل الله فهي في ميزان حسنات المجاهد المسلم، سواءٌ نصره الله سبحانه وتعالى بالقوة، أو هُزم ورجع وارتد على دبره، فهو أيضاً مرفوع القدر عند الله تبارك وتعالى، وكل هذه الإصابات في ميزان الحسنات والدنيا بأي شكلٍ ستنتهي بالموت، وتنقضي بالموت، إن من مات شهيداً فقد أعد الله له خاتمةً حسنة، فهذا نستبشر معه له، ولكن من بقي يا ترى كيف يموت؟ وكيف تأتيه الخواتيم؟ ينبغي أن يظل قلقاً، ومن لم يجاهد ومن لم يستشهد إنما يلعب ويلهو، هذا يا حسرةً عليه، يا لهفة القلب عليه، يا حزن النفس عليه، متى يفيق؟ ومتى ينتبه؟ وماذا يقول لربه؟ وماذا يعتذر به عند الله تبارك وتعالى؟ وهل يقبل الله عذره؟ ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14، 15]، فلنتعامل مع الأحداث تعاملاً حكيماً كما أرشدنا ديننا الحكيم العظيم.
نسأل الله تبارك وتعالى في هذا الموقف العظيم، وهذا المشهد الكريم وقلوبنا متألمة، ونفوسنا متطلعة إلى نصرٍ عظيم، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينصر جندنا، اللهم انصر إخواننا، اللهم انصر إخواننا، اللهم عجل بنصرهم يا رب العالمين، اللهم أسعد قلوبنا وأسماعنا بخبرٍ عظيم تنصر به عبادك المؤمنين، وتُذل به الكفر والكافرين، اللهم إنا ندرأ بك في نحور عدونا، ونعوذ بك من شرورهم يا رب العالمين، اللهم أهلكم بدداً، وأحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ربنا إنا مغلوبون فانتصر، ربنا إنا مغلوبون فانتصر، اللهم ارفع الغُمة عن الأمة، اللهم ارفع الغمة عن الأمة، واكتب العزة لأهل غزة، ومن أعزها يا رب العالمين، اللهم اخذل الكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين، بحولك وقوتك يا قوي يا متين، اللهم إنهم لا يعجزونك في الأرض ولا في السماء، اللهم إن ظننا بك أنك أنت القوي المتين، هذا اسمك وهذا وصفك وأنت على كل شيء قدير، اللهم عجِّل بنصر إخواننا، انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المسلمين، اللهم انصرهم نصراً عزيزاً مؤزرًا، ارفع رايتي الحق والدين، بحولك يا قوي يا متين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147]، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.
عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم.. وأقم الصلاة.
[1] لم أعثر عليه، وانظر لمعنى الونس: المعجم الوسيط (1/ 29).
[2] سورة يونس هل هي مكية أو مدنية؟ المشهور أنها مكية، وعن ابن عباس روايتان، فتقدم في الآثار السابقة عنه أنها مكية، وأخرجه ابن مردويه من طريق العوفي عنه، ومن طريق ابن جريج، عن عطاء عنه، ومن طريق خصيف، عن مجاهد، عن ابن الزبير.
وأخرج من طريق عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس: أنها مدنية، ويؤيد المشهور ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك، عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولًا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فأنزل الله تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ﴾ [يونس: 2]. أهـ الإتقان، للسيوطي: (1 /64).
[3] أخرجه البخاري (4667)، من حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه ولفظه: "قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثة، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 1 - 3]".
وقال الحافظ تحته: "والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى سبب نزول والضحى غير الفترة المذكورة في [ص: 581] ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا، فاختلطتا على بعض الرواة، وتحرير الأمر في ذلك ما بينته. وقد أوضحت ذلك في التعبير ولله الحمد. ووقع في سيرة ابن إسحاق في سبب نزول والضحى شيء آخر، فإنه ذكر أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين والروح وغير ذلك ووعدهم بالجواب ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشرة ليلة أو أكثر فضاق صدره، وتكلم المشركون: فنزل جبريل بسورة والضحى، وبجواب ما سألوا، وبقوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله انتهى. وذكر سورة الضحى هنا بعيد، لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربا فضم بعض الرواة إحدى القصتين إلى الأخرى، وكل منهما لم يكن في ابتداء البعث، وإنما كان بعد ذلك بمدة والله أعلم". أهـ الفتح (8 /710 - 711).
[4] أخرجه مسلم (1920).
[5] انظر: السيرة النبوية - عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد الصلابي: (ص470 - 504).