الموضوع: مقامات الجريري
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-01-2021, 05:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي مقامات الجريري

مقامات الجريري

عبدالقادر حسن الجريري

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:
الحمد لله الخلاق، مانح الأعلاق، وفاتح الأغلاق، والصلاة والسلام، على سيد الأنام، محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين، سادات الأمم، وذوي الهمم، ومن تبعه بإحسان، من أنس وجان.

أما بعد:
ففي سنة 1417هـ (1996م) ذات صباح، أومض لي ولاح، فن المقامة بأسلوبه ونظامه، فأغراني بالتزامه، وبعد البارق اللامع، سقاني سحابه الهامع، فإذا أنا أسير، على دربه أسير، صبٌّ للمقامات ومحب، وعلى قراءتها مكب؛ فبديع الزمان الهمَذاني بمقاماته ألهاني، ولا تعجَب أن صار الجريري، أسير مقامات الحريري، ولا تستغرب أن غدا ابن حيدين عاني (مجمع البحرين)، وبعدها كرعت النمير الفائض، من مقامات الشيخ عائض، وطالعت غير ذلك، مما هو سالك، درب المقامة، المرفوعة أعلامه.

وهذه مقامات على الاهتمام علامات، أتوخى منها البرهان على الافتتان، لا على الافتنان، على أنها شابهت المقامات في الاسم، وفارقت فنها في الرسم، وشم من برقها الغيث الواكف، لا سيما وأنا على هذا الفن عاكف.

وفي الختام سينشدك الجريري مِن نظم الحريري، في (ملحة الإعراب وسنخة الآداب):
وإن تجِدْ عيبًا فسدَّ الخللا
فجلَّ مَن لا عيبَ فيه وعلا


وبحمد الله بادئين وخاتمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بقلم/ عبدالقادر حسن سعد حسن حيدين الجريري.
22 / 6 / 1428هـ - الموافق 7 / 7 / 2007م.
الساعة 7, 7 صباحًا.
الحافة / المشقاص / حضرموت.
♦ ♦ ♦


المقامة الأولى

راحة البال في مقامة الجوال

حدثنا هلال بن منهال قال: لَمَّا أكثرت الترحال إلى المشارق والمغارب، اكتسبت عظيم التجارب.. وهاكم تجرِبةً من تجاربي الطوال، في أحوال الجوال.

الجوال نور أو نار، إعمار أو دمار.. نورٌ بيمين الأخيار، ونارٌ بشِمال الأشرار، الأخيار يستخدمونه فيما يرضي الرحمن، والأشرار يستعملونه فيما يَهوَى الشيطان.

الجوال خير أو شر، نفع أو ضر.. خيرٌ بيد العابد الزاهد المجاهد، وشر بيد الفاسد الحاسد الحاقد.


الجوال نعمة أو نقمة: نعمة في مكالَمات الأهل والأقارب، ومخاطَبات تتحقق بها محاسن المآرب، ونقمةٌ على مَن اشتهر في الناس رقمه، يصير عُرضةً للمعاكسات، وكيل السخريَّات، والأذية في جميع الأوقات، من الفاسدين والفاسدات.


أصحاب الأعمال يستفيدون من الجوال في تنمية الأموال، وأرباب الإهمال يتكلمون الساعات الطوال في قيل وقال.


همُّ الدعاة الدعوة إلى الله؛ فاتخذوا الجوال وسيلة، لتحقيق مقاصدهم النبيلة، وعَظوا عن طريقه العاصي، الداني أو القاصي، وخوَّفوه مِن غضب مَن بيده النواصي، ووجهوا من خلاله النصائح، لكل غادٍ ورائح، من مختلف الطبقات والشرائح، وتذاكَر به الخلان، مواعيد دراسة القرآن، وتعليم أحاديث سيد ولد عدنان، ونُبِّه به عن محاضرات الأعلام، مِن علماء ودعاة الإسلام.


الجوال قارب، يبحر إلى الأقارب، بالكلمة والبَسْمة، والفائدة والحكمة، والتهاني في الأفراح، والتعازي في الأتراح، فتتقارب الأرواح، رغم تباعد الديار والأشباح، ويوصل به النثر المعبِّر، والشعر المحبَّر، فتزداد المودة قوة وشدة.


تطرح الشركات، مختلف أنواع الجوالات، فيسارع الغارقون في بحر الفوضى، إلى اتباع الموضة، فيا ليتها كانت القاضية، قبل أن يكون لهم هذا سنَّةً ماضية، بل أنا ساخر ممن يقتني الجوال للتفاخر.


المفتونون بالنغمات، مرتكبون للمخالفات، تصعق نغماتهم في المساجد، فتشوِّش على الراكع الساجد، ويزعجون بها الجُلاَّس، بلا شعور ولا إحساس.


أقول صدقًا لا افتراءً: جوال الكاميرا، يكشف عورات الورى، ألا ترى أن أغلب حامليه من إنتاج الدشوش، الممطرة بالفكر المغشوش، والمغرقة في بحر متلاطم الأمواج، مِن العَهْر والدَّعارة والاعوجاج.


لقد آن الأوان، أن تبحث أيها الإنسان، عن شريط بعنوان: (لكل الناس) للشيخ سليمان الجبيلان؛ فقد بيَّن فيه إيجابيات الجوال وسلبياته، فلا تكن ممن تغافَل عنه أو فاته.


يا ابن آدم، خُذْها غير نادم: أنت جوال في المعمورة، ثم تصير هامدًا في حفرة مطمورة، إذا انتهت ساعاتك، وفنِيَت وحداتك، وحين تستنفد وحداتك، فلا اتصال ولا استقبال، ولن ينفعك إلا صالح الأعمال، ولن يرفعك إلا أطيب الأقوال.


(نشرت في مجلة مساء: ملحق فصلي لمجلة الأسرة (السعودية)، العدد الثالث والثلاثون - ذو القعدة 1426ه)
♦ ♦ ♦



المقامة الثانية

حوار بين السيارة والحمار

قال يونس بن عوض: لما أحس حماري أن جنسه كاد أن ينقرض، اشتدت به أوجاع المرَض، وعاف الشراب والقوت، حتى أشرف على الموت، فأخذتني عليه الشفقة، ورُمْتُ الفرار من النفقة، فأطلقت سراحه في الساحة؛ ليأخذ قسطًا مِن الراحة، فأبل الحمار العليل، لما تنفس الهواء العليل، وانطلق بغير دليل، قاصدًا ملاقاة شقيق، في أي طريق، فلما لم يشاهد في يومه وأمسه، أحدًا من بني جنسه، أفصح متسائلًا العبارة، عن مقطنه وداره، فقيل له: حديقة الحيوان، فأخذته الأحزان، ففكر مليًّا ثم قال: الاختراعات الحديثة، كلها خبيثة، لا سيما السيارات، التي رمَتْ بني قومي بالموات، ثم قصد لتوه حارة، بها عمارة، واقفة في فنائها سيارة، فوجه إلى السيارة العتَب، بلا حشمة ولا أدب، فقال: يا بنت الحضارة، يا باعثة الحرارة، يقولون: إنكِ حمار العصر، وبك يتزين القصر، لقد كذَبوا ومانُوا، وغدروا بنا وخانوا، الحمار من قديم العصور، لم يسجل عليه حادث مرور، وقد أغرت السيارة شباب التخبيط بالتفحيط، فسيروها بلا تخطيط؛ فكثُرت الحوادث والكوارث، حتى ضجَّ منها العقلاء، واعتبروها من شرِّ البلاء، والحمير تتناسل، فتلِد البواسل، ففهمت السيارة ما جاء في حواره، فقالت: يا أنكرَ الأصوات، يا مزعجًا في جميع الأوقات، يا آكِل الشعير، يا بطيء المسير، السيارة أعفَتْك من الأشغال، وخففت عنك الأثقال، وأنت لستَ صاحب المسافات الطوال، وقد عافَتْك الأجيال، فانزِل ضيفًا في إحدى الحدائق، تنَلِ الاعتناء الفائق، وسيتدفق عليك الزوار، عزيزي الحمار! فقال الحمار بعد أن دار: لكنَّ بني جنسي آخِذون في الانقراض، ولم أسمع أن حمارة جاءها المخاض، فمِن هذا زاد همِّي وفاض، فاستخف الفخر السيارة، فدارت حول العمارة، ثم قالت: إني آخر (موديل)، وذات منظر جميل، وبدون ريب وشك، قد دفع فيَّ صاحبي ما ملك، حتى صار بي يفتخر، على معاصريه من البشر، ثم التفتت إليه ساخرة مفاخرة، فقالت: اهرُبْ قبل أن يراك عمال البلدية، فتنهال عليك ضربات قوية، فقال الحمار: أنا مِن طبعي الفرار، كلما رأيت أمرًا غير سار، يا بنية الحضارة، لقد تبدل الحال، واختفى الرجال، فلم أرَ إلا أشباه، لا عهد لأحدهم بالقسوة في شبابه وصباه، اطمأنوا إلى حياة الترف، وساروا بغير هدف؛ ففقَدْنا مَن عهدناهم أقوياءَ أشداءَ، ممن يقارعون البلاء بالصبر الجميل، وينازلون الأعداء بالسيف الصقيل، فحق لأبناء جنسي أن ينقرضوا، وعن المدن أن ينفضوا!

قال يونس بن عوض: ثم إن الحمار قفَل إلى الدار، وفي عينيه علامةُ الانتصار، على بنت الأمصار.

(نشرت في مجلة مساء: ملحق فصلي لمجلة الأسرة (السعودية)، العدد السادس والثلاثون - شعبان 1427ه)
♦ ♦ ♦



المقامة الثالثة

سبائك الخلاص في مناقب منتخب المشقاص

قال ثامر بن سامر: دوَّى في المشقاص، صوت الرصاص، وصدَحت بالزغاريد، أفواه الغيد، وأصبحنا في عيد، عمت فيه الأفراح، وساد الانشراح، حتى صارت العجوز الشمطاء، فتاة حسناء، ذات شعور سوداء، ولبِس الشيوخ حلة الشباب، وعادت إلى المجانين الألباب، حينما أخَذ منتخبنا الحالم، كأس العالم، وما هي إلا أيام، مرت كأعوام، حتى وردت الأنباء، بقدوم الأبناء، فانطلقت الجماهير الغفيرة، من كل ديرة، صوب المطار، لاستقبال الأحرار، الشديدي المراس، الذين أخذوا الكاس، ولما نزل لاعبو منتخب المشقاص، من طائرة إيرباص، غرقوا في فيضان، استقبلهم بالأحضان، وفرحًا هطلت الدموع، من أعين الجموع، كالأمطار في المطار، ورفع اللاعبون على الرؤوس، حاملين كأس الكؤوس، وقد صار مفخرة الجزيرة، أظهر من شمس الظهيرة، في السماء الصاحية، بكل ناحية (الكابتن عزَّان)، فارس الفرسان، بما سجل من أهداف، أحَلَّتْه مصاف الأشراف، ولما وصلوا إلى المشقاص، استقبلهم العوامُّ والخواص، وطِيف بالكأس من أرضها شبرًا شبرًا، وتسقط الناس أخباره خبرًا خبرًا، وارتفع ذِكرهم إلى المريخ، وسجل التاريخ، أن منتخب المشقاص، ذا المهارة والإخلاص، المتحرر من المظالم، أخذ كأس العالم، وأنه أول منتخب عربي أبيٍّ نال هذا الشرف، بتسجيل الهدف، وتقاطر مراسلو القنوات، من جميع الجهات، وأجرَوُا الحوار، مع قاطني هذه الديار، وقد طرح مراسل الجزيرة، أسئلة كثيرة، وأجرى الحوار في سرار مع المدرب المجرب ذي الشهامة، عبدالله كرامة، منها: كيف أخذتم الكاس من دون الناس؟ قال المدرب المجرب: بقلوب متآلفة، وجهود متحالفة، وحدنا الصف، فنِلْنا الهدف، سحقنا المناطقية، ومحقنا العنصرية، وقد تشكل منتخب المشقاص، على أسس التراص، وكان شرط الاختيار، الفن والاقتدار، واتصاف اللاعب بالطهارة والمهارة، فلما خُضْنا المباريات، ما ارتفعت رايتُنا على الرايات، حتى دسنا على الأنانية، واتصفنا بصدق النية؛ فتحقَّق النصر، على منتخبات العصر.

قال ثامر بن سامر: فما هو إلا أن ارتفع الأذان، فترامى إلى الآذان، فأيقظني من المنام، فتوقفت عن الكلام، وانقطع الإرسال في الحال، فذهبت إلى المسجد، لأركع وأسجد، داعيًا أن يتحقَّق للقوم، ما رأيت في النوم.
♦ ♦ ♦


المقامة الرابعة

تحفة الخليل بمقامة ضيف الليل

قال المستشار عبدالجبار: رمتني الأسفار، إلى كل الأقطار، حتى صِرت ذا خبرة وأخبار، وخلصت إلى العبرة والاعتبار، وكلما نزلت قُطرًا، أخذت من علومه شطرًا، وعرفت عدوَّه من صديقه، معرفة عميقة، تكشف عن الحقيقة، فما وجدتُ من عدوٍّ مُبغَض مرفوض، مثل البعوض، أجمعت الأقطار على ضربه، واتفقت على حربه، وكان الظنُّ أنهم بالغوا في العداوة؛ إذ ضربوه بالهراوة، حتى دعيت إلى محاضرة ومناظرة، فالمحاضرة ألقاها يونس بن عوض، لأجل هذا الغرض، وهو شيخ فاضل، مكافح مناضل، ناصَب البعوضَ العَداء، وشنَّ عليه غارة شعواء، سرد في المحاضرة مساوئ البعوض، وجلَّى تاريخه المرفوض، ومما قال ابن عوض: إن البعوض ناقل للمرض، وعدوٌّ لدود، تجاوز الحدود، يمتص دمَنا الغالي ولا يبالي، وهو من أشهر ضيوف الليالي، يسامرك مغردًا، ويساهرك مغنيًّا مرددًا، ثم فتحت الأبواب، على حوار وخطاب، بين زعيمي البعوض والذباب.. قال زعيم الذباب: يا عدوَّ الأحباب، أنت ضيف الليل، أحمق ثقيل، ناكر للجميل، تعكر صفو النوم على القوم، وأُنثاك - لا دامت - ناقلة للقاتل الصامت، تمتص الدَّم، وتنفُث السم، تقابل إحسان الإنسان، بالإساءة والنكران، ومما درسناه من الأدب، في زمن الطلب، قول أحدهم في بعوضة مرفوضة:
إذا هي غنَّت لم يشقْني غِناؤها
فبُعدًا لها مِن قَينة لم تكرَّم

تجمِّش من لا يبتغي اللهو عندها
وتطرد نوم الناسك المتأثِّم


فقال زعيم البعوض: من المفروض يا زعيم الذباب، أن تترك ما عاب، وتعود إلى الصواب، ثم توجه إليَّ العتاب والخطاب.. ألست أنت على الإنسان ضيف الصباح، لا تتركه يرتاح، ترتمي على الأقداح، وتتغذَّى من المَرميِّ على البطاح، فتنقل المرض الخطير، أيها الحقير؟! ومما ثقفته عن المؤدبين، مِن آداب الأولين:
إذا سقَط الذباب على طعام
رفعتُ يدي ونفسي تشتهيه

وتجتنب الأسودُ ورودَ ماء
إذا كان الكلابُ وَلَغْن فيه


وفي بيت آخر، قال ذامٌّ وساخر:
شرُّ الورى بمساوي الناس مشتغل
مثل الذباب يراعي موضع العلل


قال المستشار عبدالجبار: وذات ليلة جميلة، بأريج الأنس نفاحة، مغمور فيها بالراحة، لسعتني بعوضة، فارتفعت عندي الحموضة، وأهريق كأس الأُنس، واشمأزَّت النفس، فكان فيه بالغ البرهان، على فادح العدوان، فكافحتُه مع مَن كافح، غير متعاطف معه ولا منافح.
16 /4/ 1428هـ.
4/ 5/2007م.
♦ ♦ ♦


المقامة الخامسة

تحفة الثقات بمقامة القات

حدثنا شاهر بن ساهر قال: كنت أستنزف الأوقات، في مجالس القات، وأحرص عليها غاية الحرص، وإذا فاتني مجلس استشعرت النقص، يدفعني إليها توقِّي الطرافة، وشوقي إلى الظرافة؛ إذ إنها مجالس أُنس، تطرب فيها النفس، يغيب عنها الغم، ويتوارى الهم، ومضَتْ على هذا الحال السنون، حتى اكتشفت السرَّ المكنون.. فإننا ذات يوم ميمون، في مقيلنا جالسون، نتجاذب أطراف الحديث، مع مضغ الخبيث، فقدمتِ امرأة دامعة العين، بادية الأنين، تشكو زوجها الخسيس، الذي غرَّه إبليس، فأطلق يده على مقتنياتهم النفيسة والخسيسة، لَمَّا خلا من النقود كيسه؛ ليشتري بها قوت يوم، فاندهش القوم، ووجهوا إليه اللوم، وأغلظوا له في الكلام، وحذَّروه من مغبة الآثام، وذكَّروه بواجباته، وأنها مقدَّمة على حاجاته، ثم قفلت المرأة إلى الدار، وبين جوانحها لهيب النار، وبعد أن ذهبت تنبَّه عقلي الغافل، لمآسي هذا الجمع الحافل.. فإنَّ أُسَرهم منهوبة منكوبة، شمس السعادة عنها غابت، والهموم رتعت وطابت، ألقوا الوالد والولد، في لجة النكد، وصار بعضهم عالة، على عياله، وأستاذًا لهم في النَّذالة، إذا قيل له: عالِجِ ابنك المريض، سقط في الحضيض، وتوترت الأعصاب، وتواتر السِّباب، وجانَب الصواب، ولم يسعف المصاب، وإذا نفِدت المؤونة، فاض جنونه، وترك أهله يطلبون المعونة، ثم لم تمضِ إلا مدة قصيرة، فتنقض عليه الأمراض الشريرة، فيلقي بنفسه على أسرة، تتجرَّع كأس حسرة، تجتهد ملتمسة له العلاج، قاطعة الفيافيَ والفِجاج، حتى إذا ثار به المرض وهاج، أخذهم الارتجاج، خوفًا عليه من الموت والفَوْت، وإذا انتصر الداء، وانهزم الدواء، انطوَتِ الصفحة السوداء، ثم قضى الأهل مدة مديدة، وسنين عديدة، لسداد ما خلَّف المدمن المدفون، على ظهورهم من ديون.


قال شاهر بن ساهر: ثم إني عقدت العزم القوي، أن أرعوي، عما أنا فيه من الغَي، وأعتزل تلك المجالس، وأذمَّ الجالس، وأدع طيش أصحابها والنزق، الموصل إلى الدن والزق.
22 / 6 / 1428هـ - 7 / 7 / 2007م.

المقامة السادسة

إخبار الأخيار بأفتك طرائق الانتحار

حدثنا أبو المعارك سعيد مبارك قال: بعد تخرجي في جامعة عدنيت، أويت إلى البيت، وفمي فاغر، إلى منصب عالٍ شاغر، فلما طال الانتظار، أصابني الانهيار، فقررت الانتحار، فرارًا من دار لا تكرِّم الأخيار، فأخذت في تقليب الأساليب، بغير ترتيب، طلبًا لأسلوب لذيذ، يتم به التنفيذ، فضَلَّ عقلي وحار، في الاختيار، فاستعنت بصديق، وجدته في طريق، فعليَّ أشار الصديق البار أن أقرأ ديوان، إبراهيم طوقان، فلما رجعت إلى الدار، أخذت بما أشار، فقرأت الأشعار، إلى أن وجدته يقول، ما نال مني القبول:
يا مَن يريد الإنتحارَ، وجدته
إنَّ المعلِّمَ لا يعيش طويلا


فلم أفوِّت دقيقة، في الأخذ بهذه الحقيقة، فجمعت الأوراق، التي تثبت الاستحقاق، وأغذَذْتُ السير، إلى مكتب كبير، طلبًا لوظيفة نظيفة في مجال التعليم، وأنا خِرِّيج قديم، فوُظِّفت بسرعة البرق، وجئت بها إلى شرق، فعُيِّنت في إحدى المدارس، في شهر مارس، فلما مارست التدريس، برز لي الأمر التعيس.. من تلميذ مشاكس، مخالف معاكس، همُّه قطع المراحل، بعقل قاحل، لا ينال منه أحد تقديرًا، ولو كان عالِمًا شهيرًا، أو أديبًا قديرَا.. ومن مدرس قاطب، همُّه استلام الراتب، توظيفه إحدى المصائب، يوم حاضر ويوم غائب، وثالثة الأثافي، تسربلك بالجنون الضافي.. المدير الذي لا يُهِمه التنوير، ويسيء التدبير، ولا يحسن التقدير.. ومن بعدهم مجتمع لا يعرف الإنصاف، يقرعك بسيف الإجحاف، يعُدُّك مِن المهملين، وأنت من الجادين، ويكرِّم المسيئين، ويغرِّم المحسنين، وهذا مِن المضحكات المبكيات، في هذه الأوقات، فدرَّست فيها بإخلاص، بغية للخلاص، فالتهمني الهم، والتقمني ضغط الدم، وماذا تنتظر من تلميذ بليد، أنى يستفيد؟ ومدرِّس عِربيد، أبى أن يفيد؟ إلا المرض الشديد، الذي أريد، والخلاصة أن مدارسنا مقربات الكفن، بكل أسلوب وفن.. ففيها تنتحر مكانتك ورزانتك، ووجاهتك ونباهتك، فمن روائع البيان قول طوقان:
شوقي يقول وما درى بمصيبتي
قُمْ للمعلم وفِّه التبجيلا

اقعد فديتك هل يكون مبجَّلاً
مَن كان للنشء الصغار خليلا

ويكاد يقلقني الأمير بقوله
كاد المعلِّم أن يكون رسولا

لو جرَّب التعليم شوقي ساعةً
لقضى الحياةَ شقاوةً وخمولا


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.02 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]