الموضوع: فصل في السحر
عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 17-12-2020, 06:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فصل في السحر

قوله: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ [الفلق: 4] والنفاثات: السواحر، هو تفسير الحسن البصري، أخرجه الطبري[144] بسند صحيح.
وذكره أبو عبيدة أيضًا في "المجاز[145]" قال: ﴿ النَّفَّاثَاتِ ﴾: السواحر ينفثن. وأخرج الطبري أيضًا عن جماعة من الصحابة وغيرهم: أنه النفث في الرقية، وقد تقدم البحث في ذلك في باب الرقية، وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في "الدلائل[146]" بسند ضعيف في آخر قصة السحر الذي سُحر به النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم وجدوا وترًا فيه إحدى عشرة عُقدة، وأنزلت سورة الفلق والناس، وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة.


وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس: أن عليًا وعمارًا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عُقدة، فذكر نحوه[147].


قوله: ﴿ تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 89] تعمون، بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة، وضبط أيضًا بسكون العين.
قال أبو عبيدة في كتاب "المجاز[148]" في قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 89]، أي: كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه، قال: ونراهم من قوله: سُحرت أعيننا عنه فلم نبصره[149].
وأخرج في قوله: ﴿ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾، أي: تخدعون، أو تصرفون عن التوحيد والطاعة.
قال الحافظ: وفي هذه الآية إشارة إلى الصنف الأول من السحر الذي قدمته.
وقال ابن عطية[150]: السحر هنا مُستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشيء في غير موضعه، كما يقع من المسحور، والله أعلم.


قوله: "سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زُريق يقال له: لبيد بن الأعصم".
وعند مسلك: "سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم يهوديٌّ من يهود بني زُريق"[151].
ووقع في رواية ابن عيينة: "رجل من بني زُريق حليف اليهود وكان منافقًا"[152]، وقد بيَّن الواقدي السنة التي وقع فيها السحر. أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة، ودخل المحرم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم - وكان حليفًا في بني زُريق وكان ساحرًا - فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا وقد سحرنا محمدًا فلم نصنع شيئًا، ونحن نجعل لك جُعلًا على أن تسحره لنا سحرًا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير[153].


ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: "فأقام أربعين ليلة".
وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد: "ستة أشهر"[154].
ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يومًا من استحكامه.
قوله: "حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله".
قال المازري[155]: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل.


وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء.


قال المازري: وهذا كله مردود؛ لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل.


وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يُبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يُخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس: إن المراد "1054ب" بالحديث: أنه كان صلى الله عليه وسلم يُخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن، وهذا كثيرًا ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يُخيل إليه في اليقظة.


قال الحافظ: وهذا قد ورد صريحًا في الباب الذي يلي هذا، ولفظه: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن"[156].
وفي رواية الحميدي: "أنه يأتي أهله ولا يأتيهم"[157].
قال الداودي: "يرى" بفتح[158] أوله أي: يظن، وقال ابن التين: ضُبطت يُرى بضم أوله.
قال الحافظ: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن، وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق: سُحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره[159]، وعده في مرسل سعيد بن المسيب: حتى كاد يُنكر بصره[160].
قال عياض[161]: فظهر بهذا: أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده.


قال الحافظ: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد: فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيًا فسيُخبر وإلا فسيُذهله هذا السحر حتى يذهب عقله[162].


قال الحافظ: فوقع الشق الأول، كما في هذا الحديث الصحيح، وقد قال بعض العلماء: لا يلزمه من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للمُلحد حجة.


وقال عياض[163]: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور: أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود. ويكون قوله في الرواية الأخرى: "حتى كاد يُنكر بصره"، أي: صار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء يُخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته، ويؤيد جميع ما تقدم: أنه لم يُقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولًا فكان بخلاف ما أخبر به.


وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده؛ فقد مضى في الصحيح: أن شيطانًا أراد أن يُفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه[164]، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان "1055أ" يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو حجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويُبطل الله كيد الشياطين.


واستدل ابن القصار أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: "أما أنا فقد شفاني الله"[165].
وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في "الدلائل"[166]: فكان يدور ولا يدري ما وجعه.


وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وأُخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان... الحديث[167].
قوله: "حتى إذا كان ذات يوم - أو ذات ليلة - وهو عندي لكنه دعا ودعا"، كذا وقع، وفي بدء الخلق: "حتى كان ذات يوم دعا ودعا".


قال الكرماني[168]: يحتمل أن يكون هذا الاستدراك من قولها: عندي، أي: لم يكن مشتغلًا بي، بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل، أي: كان السحر أضره في بدنه لا في عقله وفهمه؛ بحيث إنه توجه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم.


ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: "فدعا ثم دعا ثم دعا"[169]، وهذا هو المعهود منه أنه كان يُكرر الدعاء ثلاثًا.
وفي رواية وهيب عن أحمد وابن سعد[170]: "فرأيته يدعو".
قال النووي[171]: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات، وتكريره، والالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك.


قال الحافظ: سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال.


قوله: ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه"، في رواية الحُميدي: "أفتاني في أمر استفتيته فيه"، أي: أجابني فيما دعوته، فأطلق على الدعاء استفتاء "1055ب"؛ لأن الداعي طالب والمجيب مُفت، أو المعنى: أجابني بما سألته عنه؛ لأن دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر، ووقع في رواية عمرة عن عائشة: "إن الله أنبأني بمرضي"، أي: أخبرني.


قوله: "أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي".
قال الحافظ: وسماهما ابن سعد في رواية منقطعة: "جبريل وميكائيل"[172]، وفي حديث زيد بن أرقم عند النسائي وابن سعد - وصححه الحاكم - وعبد بن حميد: سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود، فاشتكى لذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال: إن رجلًا من اليهود سحرك، عقد لك عُقدًا في بئر كذا[173].


قوله: "فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب"، أي: مسحور يقال: طُب الرجل بالضم إذا سُحر، يقال: كنوا عن السحر بالطب؛ تفاؤلًا، كما قالوا للديغ: سليم.


وقال ابن الأنباري[174]: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء، ويقال له: طب، وأخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بقرن حين طُب[175].
قال أبو عبيد: يعني: سُحر.


قال ابن القيم: "بنى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أولًا على أنه مرض، وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبًا، فلما أوحي إليه أنه سُحر عدل إلى العلاج المناسب له، وهو استخراجه.


قال: ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيل إليه ما ذكر، فإن السحر قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة، وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع؛ لأنه إذا هيج الأخلاط وظهر أثره في عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعًا في ذلك"[176].


وقال القرطبي[177]: إنما قيل للسحر: طب؛ لأن أصل الطب: الحذق بالشيء والتفطن له، فلما كان كل من علاج المرض والسحر إما يتأتى عن فطنة وحذق، أُطلق على كل منهما هذا الاسم "1056أ".


قوله: "قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مُشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان".


قال الحافظ: "أما المشط: فهو بضم الميم ويجوز كسرها، وهو الآلة المعروفة التي يُسرح بها شعر الرأس واللحية، وهذا هو المشهور، ووقع في رواية عمرة عن عائشة: فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مراطة رأسه.


وفي حديث ابن عباس: من شعر رأسه، ومن أسنان مُشطه.
وفي مرسل عمر بن الحكم: فعمد إلى مُشط وما مُشط من الرأس فعقد بذلك عقدًا...


إلى أن قال: وذروان: بفتح المعجمة وسكون الراء، وعند مسلم: "في بئر ذي أروان". وفي رواية: في ذروان، وذروان: بئر في بني زُريق، فعلى هذا فقوله: "بئر ذروان" من إضافة الشيء لنفسه، ويجمع بينهما وبين رواية ابن نمير بأن الأصل: "بئر ذي أروان"، ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت ذروان. انتهى ملخصًا.


قوله: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد: فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر، وعنده في مُرسل عمر بن الحكم فدعا جُبير بن إياس الزرقي، وهو ممن شهد بدرًا، فدله على موضعه في بئر ذروان فاستخرجه، قال: ويُقال: الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، ويجمع بأنه أعان جبيرًا على ذلك، وباشره بنفسه فنسب إليه.


وعند ابن سعد[178] أيضًا أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله، ألا يهور البئر؟ فيمكن تفسير من أبهم بهؤلاء أو بعضهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم أولًا ثم توجه فشاهدها بنفسه.


قوله: فجاء، فقال: "يا عائشة"، في رواية وهيب: فلما رجع قال: "يا عائشة"، ونحوه في رواية أبي أسامة ولفظه: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة[179]، وفي رواية عمرة، عن عائشة: فنزل رجل فاستخرجه.


وفيه من الزيادة أنه وجد في الطلعة تمثالًا من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا ثم يجد بعدها راحة.


وفي حديث زيد بن أرقم: فأتاه جبريل "1056ب" فنزل عليه بالمعوذتين، وفيه: فأمره أن يحل العقد، ويقرأ آية فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نُشط من عقال.


وعند ابن سعد من طريق عُمر مولى غُفرة مُعضلًا: فاستخرج السحر من الجُف من تحت البئر، ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[180].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.84%)]