
14-12-2020, 12:03 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,033
الدولة :
|
|
رد: بحث حول صيغتي التعجب
بحث حول صيغتي التعجب
أ. د. أحمد محمد عبدالدايم عبدالله
هـ - أفعل التفضيل
من حيث الدَّلالة[55]
دأب أهلُ صناعة الصَّرْف منذُ سيبويه، حتى عصرِنا هذا على تناول "أفعل التفضيل" تناولاً وظيفيًّا، حاول بعضُهم تأمُّلَه من حيث الدَّلالة، لكنهم لم يُفرِدوا للدلالة فيه فصلاً خاصًّا، بل جاء بعض حديثهم عنها مِن خلال تناولهم لوظيفته وشروط صياغته، فكانتْ غير شافية، وغير كافية، وكانوا جميعهم لا يَفتؤون يذكرون صياغتَه وعملَه، بما يشبه التَّكْرار في التناول والأمثلة، ما جاء على القياس وما خرَج على الشذوذ مما يضفي على الصناعة صفةَ الجمود.
فنراهم مثلاً يكادون يتَّفقون[56]على أنَّ لأفعل التفضيل ثلاث صور هي بالتحديد:
1- أن يكون مجردًا من أل والإضافة.
2- أن يكون مقترنًا بأل.
3- أن يكون مضافًا.
مع ما يَستتبع ذلك مِن أحكام لكلِّ نوعٍ مِن تشابه الأمثلة فيها، حتى الأمثلة التي خرجتْ على القياس نراها منذُ أن سجَّلها سيبويه في كتابه[57]، وما زال أهلُ الصناعة عليها قائمين لا يملُّون ترديدَها.
والأغرب أنَّهم يَتناقلون تعريفَ "أفعل التفضيل" جيلاً بعدَ جيل، فنراهم يذكرون أنَّه "ما دلَّ على شيئين اشتركَا في صِفة، وزاد أحدهما على الآخَر فيها"[58]، ويتحدَّثون عن صياغته قائلين: "يُصاغ مِن ثلاثي غير مزيدٍ فيه ممَّا ليس بلون ولا عيب"[59].
وبعضُهم يقول: "إنَّما يُصاغ أفعل التفضيل مما يُصاغ منه فعلاَ التعجُّب"[60].
والمتأمِّل في دِراسات السابقين يراهم يعتنون بأفْعل التفضيل من حيثُ الأحوال والعمَل، ويكادون يجمعون على أنَّ لفظ "أفعل مِن كذا"، تُوجِب تفضيلَ الأول على الثاني في جميع الأحوال، وأنَّ ما قبل "الصيغة" مفضَّل، وما بعدها مفضول أو مفضَّل عليه.
ولقد خرَج عن هذا الإطار بعضُ الدارسين[61] حيث ختَموا دِراستهم بحديثٍ عن الدَّلالة قصير، لم يخرجْ عن تناول السابقين إلاَّ أنَّ سبقهم جاء مِن حديثهم عن الدَّلالة بشيء مِن الاستقلال بعدَ حديثِهم عن "أفعل"، كما تحدَّث النحاةُ قبلهم، حيث قرَّر أحدهم "أنَّ أفعل التفضيل يدلُّ - في الأغلب - على اشتراكِ شيئين في معنَى خاصّ، وزيادة أحدهما على الآخَر فيه ولو كان اشتراكًا ضديًّا أو تقديريًّا كقول إنسانٍ في عدوين له: هذا أحبُّ إليَّ مِن ذلك، وفي نوعين مِن الشر: هذا أحسنُ مِن هذا، يريد في المثال الأوَّل: هذا أقلُّ بُغضًا عندي، ويُريد في المثال الثاني: هذا أقلُّ شرًّا من الآخَر"[62].
ثم ذكَر مِن دَلالاته: "إفادة ابتعاد الفاضِل مِن الخيانة من المفضول"[63]، ومثَّل لذلك بقوله: "فلان أجلُّ مِن الرياء، وأعظمُ مِن الخيانة، والمقصود فلان أبعدُ الناس عن الرِّياء بسببِ جلاله وأبعد عن الخِيانة بسببِ عظمته"[64].
أما الثاني منهم، فقدْ وضع في كتابه عنوانًا تحت "أفعل التفضيل والدلالة"[65]، ذكر تحتَه "أنَّ أفعل التفضيل بحسبِ الدَّلالة له ثلاث حالات:
الأولى: الدلالة على أنَّ شيئين اشتركَا في صِفة زاد أحدهما على الآخَر فيها.
الثانية: يُراد به أنَّ شيئًا زاد في صِفة نفْسه على شيءٍ آخَر في صِفته، فلا يكون بينهما وصفٌ مشترَك كقولهم: العسْل أحْلَى من الخلّ، والصيف أحرُّ مِن الشتاء، والمعنى أنَّ العسل زائدٌ في حلاوته على الخل في حُموضته، والصَّيْف زائدٌ في حرِّه على الشتاء في برْده.
الثالثة: أن يُراد به ثبوت الوصْف لمحلِّه من غير نظَر إلى تفضيل، وذلك مثل قولهم: طائر أشأم؛ أي: جار به الشؤم[66].
أقول: إنَّ الأستاذين السابقين أفردَا للدَّلالة مبحثًا، لكنَّهما لم يأتيَا على كلِّ ما "لأفعل التفضيل" من معانٍ دَلالية، كان بعضها خاليًا مِن الأمثلة، أضِف إلى ذلك أنَّهما كانا مسبوقين بأقوال النُّحاة فيها، إلا أنَّهما استخلصَا ذلك في درْس مستقلّ.
وأرى أنَّ الدَّلالة في "أسلوب التفضيل" تحتاج إلى درْس جديد، أشْمل وأوْسع، ممَّا ذهَب إليه النُّحاة، يكون الاعتمادُ في تناوله على آي القرآن الكريم، وأساليب العربيَّة في الشِّعر والأمْثال والكلام الموروث والمستعمَل.
وحينما نظرتُ في تلك الأساليب، وجدتُ أنَّ "أفعل" فيه الدَّلالات الآتية:
1- أن يكونَ الأوَّل من جِنس الثاني، وقد ظهَر لأحدهما حُكمٌ يَزيد به على الآخر، زيادة يقوم عليها دليلٌ مِن قبل التفضيل، فهذا يكون "حقيقة في الفضْل"، لا مجازًا، وذلك نحو قولنا:
- زيدٌ أفضلُ مِن عمرو.
- هذا السيف أصْرَمُ من هذا.
- وفي القرآن: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34].
- وقوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ [القصص: 78].
- وقوله تعالى: ﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ﴾ [التوبة: 69]، وقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ﴾ [الحديد: 10].
- ومثل قول الشاعر[67]:
وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيًّا مُصَبَّحًا  وَلاَ مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا فَوَارِسَا 
أَكَرَّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ  وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا 
2- أن يكون المفضَّل مِن جِنس المفضول، وثبتت المزيةُ للأوَّل على الثاني واحدًا واحدًا، أو اثنين اثنين أو جماعةً جماعة، وهُنا يكون المعنى حقيقةً في الفضْل لا مجازًا، نحو:
- محمَّد أفضلُ رجل.
- فاطمة أفضلُ امرأة.
- وهما أفضلُ رَجُلين.
- وهم أفضلُ رِجال.
ولقدْ جاء المفضولُ نكرة مضافًا إلى أفعل التفضيل النَّكِرة مثله، والمفضَّل معرفة لإفادة عمومِ الفَضْل للمفضَّل على المفضول، وفي هذا يقول ابنُ عقيل[68]:
يجب عندَ إضافة "أفعل" إلى نَكِرة، إفراد أفْعَل؛ إذ معنى "أفضل رجل" أفضل مِن كل رجل قِيس فضلُه بفضله، وكذا الباقي، فحذفتْ "من كل"، وأضيف أفعل إلى ما كان مضافًا إليه، ويجِب مطابقة النَّكِرة في هذا لما أُسند إليه".
3- أن يكونَ الأوَّل مِن جنس الثاني، ومحتملاً للحاقِ به.
وقد سبَق للثاني حُكم أوجب له الزِّيادةَ بالدليل الواضِح، فهذا يكون على المقارَبة في التشبيه لا التفضيل، نحو:
- الأمير أكْرَم مِن حاتم.
- الفارِس أشجعُ مِن عمرو.
- وقول جرير يمدح بني أمية.
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا  وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ 
ولقدِ اعتُبر بيت جرير السابِق، أمدحَ بيت قالتْه العرب، لما فيه مِن مبالغة في المدح، على الرغم مِن أنَّ جريرًا يعلم - ونحن نعلم أيضًا - أنَّ بني أُمية ليسوا خيرَ مَن ركب المطايا، ولا يدُهم أنْدَى من أيادي العالمين، فجاء قوله على التشبيه لا على التفضيل.
4- أن يكون الأوَّل مِن جنس الثاني، وقريبًا منه، والثاني دون الآخَر، فهذا يكون على سبيلِ الإخبار المحض، نحو:
- الشمسُ أضوأُ مِن القمر.
- الأسدُ أجرأُ مِن النمر.
- وقوله تعالى: ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81].
- وقوله تعالى: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54].
5- أن يكونَ الأوَّل مِن جِنس الثاني، وبينهما صِفة مشترَكة إلاَّ أنَّ الأوَّل نصيبه فيها أوْفَى، كصِفة الغباء والحقارَة، فهذه ليستْ مِن التفضيل بالزِّيادة في الفضْل وإنَّما للزيادة في السُّوء؛ قال الشاعر:
وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَألْأَمُ طَاعِمٍ  وَإذِا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ[69] 
- ونحو "زيد أغبى من عمرو ".
- الجاسوس أحقرُ مِن اللصّ.
- الغُرابُ أشأمُ مِن البومة.
- وقولنا: "فلان أضيعُ مِن غيره"[70].
- وقول الشاعر[71]:
قَبُحْتُمْ يَا آلَ زَيْدٍ نَفَرًا  أَلْأَمُ قَوْمٍ أَصْغَرًا وَأَكْبَرَا 
6- الدَّلالة على أنَّ الشيء قدْ يُفضَّل على نفْسه باعتبارين، نحو:
- هذا رطبًا أطيب منه بُسرًا.
- هذا عنبًا أطيبُ منه زبيبًا.
- هذا الرجل شابًّا أفضل منه طفلاً.
ويعلق ابنُ يعيش على المثال الأوَّل قائلاً[72]:
"وبسرًا وتمرًا حالان مِن المشار إليه، لكن في زمانين لأنَّ فيه تفضيلَ الشيء في زمان من أزْمانه على نفْسه في زمان آخَر، ويجوز أن يكونَ الزَّمان الذي يفضل فيه ماضيًا ويجوز أن يكون مسقبلاً، ولا بدَّ مِن إضمار ما يدلُّ على المُضيِّ فيه أو الاستقبال، على حسب ما يُراد، فإنْ كان زمانًا ماضيًا أضمرت إذْ، وإنْ كان زمانًا مستقبلاً أضمرت إذا".
7- أن يكونَ الأوَّل مِن غير جِنس الثاني، وقد سبَق للثاني حُكم أوجب له الزِّيادة، وقدِ اشتهرَ الأوَّل في جِنسه بالفضيلة، فيكون هذا على سبيلِ التشبيه المحْض، والغرَض أن يحصُل للأوَّل ما للثاني مِن فَضْل، نحو:
- زيد أشجعُ مِن الأسد.
- عمرو أمْضَى من السيف.
- هذا أزْهَى مِن دِيك[73].
- أنتَ أعْتَى من جبل.
ونقصِد مِن الصورة الدَّلالية السابِقة أنَّ المفضول عليه قد سبقتْ معرفة الناس به، وحَكموا له بالزِّيادة فيها، أما المفضَّل فقدِ اشتهر عنه بما يشبه ذلك في جنسه، فحينما نقول: زيد أشجعُ مِن الأسد، لا نقصِد زيادةَ الشجاعة عندَ زيد عنها عند الأسد، وإنَّما قصدْنا التشبيه، بما يُفيد حصولَ الأوَّل لما للثاني من فضْل.
8- أن يكون الأوَّل مِن غير جِنس الثاني، وقريبًا منه في الصِّفة جدًّا، وهذا يكون على سبيلِ المبالَغة المحْضة، نحو:
- عمرو قامتْه أتمُّ مِن الرُّمْح.
- زيد وجهُه أضوأُ مِن القمر.
- وكقولنا: "قلوب الأعداء أقْسَى مِن الحجارة، أو هي أشدُّ قسوة".
والمعنى: "قلوبهم أشدُّ قسوةً مِن الحجارة".
- وقولنا النميمة أفتكُ مِن الوباء؛ أي: أشد فتْكًا.
فالمعلوم أنَّ المفضَّل عليه في الأمثلة السابِقة، فريد في صِفته فحينما أفضلُ عليه مفضلاً أقلَّ في صِفته، ومِن غير جِنسه يكون التفضيل جاريًا على سبيلِ المبالَغة في التشبيه، فلا يُمكن أن تكون قامةُ عمرٍو أتم من الرُّمْح، ولا يمكن أن يكون وجه زيد أضوأُ من القمَر، ولا القلوب في رَخاوتها المعهودة تكون أقْسَى من الحِجارة، ولا الفِتنة أشدُّ فتكًا مِن الوباء، ولكن المفاضَلة أعطتْها معاني تَزيد على ما هو معهودٌ بقدْر ما يترتَّب عليها مِن فِعل أباح لها التفضيل.
9- أن يكونَ الأوَّل مِن غير جِنس الثاني، لكن الأوَّل زاد في صِفة نفْسه على صِفة الثاني في نفْسه، وليس بينهما وصْفٌ مشترَك يربط بينهما، وهنا يكونُ التفضيل على سبيلِ التقرير بما يُفيد إبرازَ صِفة الأوَّل مقارنةً بصِفة الثاني.
وذلك نحو قولنا:
- النهارُ أضوأُ مِن الليل.
- العسلُ أحْلى من الخلّ.
- الصَّيف أشدُّ حرارةً مِن الشتاء[74].
أو كما يقولون: "بضدِّها تتبيَّن الأشياء".
10- أن يكونَ الأوَّل مِن جنس الثاني، وبينهما صفةٌ مشترَكة إلا أنَّ الأوَّل نصيبه، منها أوْفَى وهو تفضيلُ بالنقْص في الفضْل لا بالزِّيادة فيه، والفارِق بينهما وبيْن ما ورد تحتَ رقم (5) أنَّ المفاضلةَ هنا بين جِنسين مختلفين، والمفضول هنا صِفة ثابتة معلومة، نحو:
الكافرُ أضلُّ مِن الخنزير.
وقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف: 179].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|