عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-12-2020, 09:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,690
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التواب جل جلاله

التواب جل جلاله


د. شريف فوزي سلطان




المبادرة بالتوبة ضرورة مُلِحة:


لأن الموت يأتي بغتة، فهل الموت سيفجؤك وأنت تائب منيب؟! أو سيفجؤك وأنت ظالم مُريب؟!
لأن الله تعالى يقول: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [الحجرات: 11].

قال ابن القيم عليه رحمة الله: "المبادرة إلى التوبة من الذنب واجب على الفور، ولا يجوز تأخيرها؛ فمتى أخَّرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقِي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة، وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبقَ عليه شيءٌ آخر، وقد بقِي عليه التوبة من تأخير التوبة..." [14].

فأخطر شيءٍ يواجه العصاة أن يؤخروا التوبة، فيقول أحدهم: سوف أتوب، سوف أرجع، سوف أفعل، ويَفجَؤُه الموت كما فجَأَ الكثير، قبل أن يتوبَ ويرجع.

ولهذا قيل: "سوف" من جنود إبليس، وقيل: أكثر أهل النار المسوِّفون، فالمبادرة بالتوبة تُعين العبد على اقتلاع الذنب قبل أن يستفحل، ويرسخ في أرض القلب أصله، وتُنشر في الأعضاء فروعه، ويزداد كل يوم تشبثًا بالجذور، وتشعبًا في الفروع!

ومثل المسوِّف كمثل رجل أراد قلع شجرة، فرآها لا تُقلع إلا بمشقة، فقال: أُؤخِّرها سنةً - وهذا من حماقته - لأمرين:
الأول: أن الشجرة كلما بقِيت ازدادت رسوخًا.
الثاني: أنه كلما طال عمره ازداد ضَعفه.
يا نفسُ توبي فإن الموتَ قد حانا
واعصِ الهوى فالهوى ما زال فتَّانا

أما تَرين المنايا كيف تَلقُطنا
لقطًا وتُلحق أُخرانا بأولانا

في كل يومٍ لنا مَيْتٌ نُشيعه
نرى بمصرعه آثارَ موتانا

فما لنا نتعامى عن مصايرنا
ننسى بغَفلتنا مَن ليس يَنسانا[15]



باب التوبة مفتوح على مصراعيه:
فإن الله تعالى بكرمه الفيَّاض ورحمته الواسعة، فتح باب التوبة على مصراعيه للتائبين، ونادى بفضله وجوده على المذنبين؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا حتى ذكر بابًا من المغرب مسيرة عرضه، أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عامًا؛ قال سفيان - أحد الرواة - قِبل الشام خلَقه الله تعالى يوم خلَق السماوات والأرض مفتوحًا للتوبة، لا يُغلق حتى تطلع الشمس منه" [16].

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: "ادعُ لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبًا، فإن أصبح ذهبًا اتَّبعناك، فدعا ربه فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: "إن ربك يُقرئك السلام ويقول لك: "إن شئتَ أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل باب التوبة والرحمة)) [17].

حقيقة التوبة وشروطها:
والتوبة حتى يَقبلها الله يجب أن تكون توبة صادقة نصوحًا، والرجوع حتى ينفع صاحبه يجب أن يكون رجوعًا صحيحًا، والإقبال حتى يُقبِل الله به عليك يجب أن يكون إقبالًا يليق به سبحانه.

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].

والتوبة النصوح كما قال الحسن البصري: إنها ندمٌ بالقلب واستغفار باللسان، وترك بالجوارح وإضمار ألا يعود [18].
فالتوبة هي: الرجوع عما يكرهه الله تعالى ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، وهي الينبوع الفيَّاض لكل خير وسعادة في الدنيا والآخرة، هي أول طريق الفلاح، وهي شعور بالندم على ما وقع، وكفٌّ عن الذنب وتوجهٌ إلى الله تعالى.

شروط التوبة النصوح:
واعلم أن التوبة النصوح الصادقة لا بد لها من شروط:
(1) الإخلاص:
يكون الباعثُ على توبتك هو حبَّك لله تعالى وتعظيمك له، ورجاءَك في ثوابه وخوفَك من عقابه، لا تقربًا إلى مخلوق، ولا قصدًا في عرَضٍ من أعراض الدنيا.

(2) الإقلاع عن المعصية:
فلا تُتَصَوَّرُ صحة التوبة مع الإقامة على المعاصي، فما أكذب عبد يقول: يا رب تُب عليَّ وهو لا يزال يأكل الربا ويسمع الغناء، ويشرب الخمر، وما أقبحَ شابًّا يهتِف: يا رب غُفرانك، وهو لا يزال مقيمًا على علاقة محرمة مع فتاة، فلا يكون المرء تائبًا إلا بعد أن يتخلص من معصيته، ومِن كل ما يَمُتُّ إليها بصلة!
ومن الإقلاع عن المعصية: الإقلاع عن أماكن المعصية وأهل المعصية، وأسباب المعصية بشكل عام.

إن الذي يريد النجاة لا يسكن أرضًا مَوبوءَةً، فإن ميكروب المرض لا بد أن يصيبه، فكيف لتائب من الزنا أن تَحسُن توبته وهو لا يترك الذهاب إلى المراقص والمسارح؟! وكيف لتائب من مصافحة النساء وهو لا يترك أماكن الاختلاط؟! وكيف لتائب من التدخين وهو يجلس وسط المدخنين، فلا هو ينهاهم، ولا هو يفارق مجلسهم؟!

وهذا ما وصَّى به العالم الرباني الرجل التائب الذي قتل مائة نفس، فقال: هل لي من توبة؟ قال: نعم، ومَن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بهم أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء..."[19].

فالصاحب ساحب، فاصحَبْ مَن يسحبك إلى الخير، تنلِ الخير وتَصِحَّ توبتك، واحذَر أخي من مقدمات الذنب، فكل ما أدى إلى حرام فهو حرام، ولو كان في الأصل حلالًا، فالسهر مثلًا حلال، لكن إذا أدى إلى ترك صلاة الفجر فهو حرام، فمن تمام الإقلاع عن المعصية الإقلاع عن مقدمات المعصية.

(3) الندم:
أي إنسان أحق بالندم ممن عصى الله جل جلاله؟ أفلا يندم العبد على تفريطه في حق ربه؟ أفلا يندم العبد على تضييعه لوقته ورأس ماله، لا في المباح، بل فيما يحرق شمعة حياته ويُعرضه لسوء الخاتمة؟
فلا تُتَصور توبة بغير ندم، فقم يا صاحبي واهتف في جوف الليل ونادِ بالأسحار وقل:
يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثُرتْ
ولا أُطيق لها حصرًا ولا عددَا

وليس لي بعذابِ النار مِن قِبَلٍ
ولا أُطيق لها صبرًا ولا جلدَا


(4) العزم:
اعزم ألا ترجع إلى الذنب ولا تعود إليه، وكن رجلًا، فإذا وعدت فأوفِ وإذا نويت فاصدق، وإذا عزمت فتوكَّل على الله.

وإذا عُدت إلى الذنب بعد التوبة، فسارع إلى توبة جديدة، حتى لو طال ذلك، ففي الحديث: ((ما من عبد إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خُلق مُفتَنًا توَّابًا نسِيًّا، إذا ذُكِّر ذَكَر)) [20].

(5) رد المظالم إلى أهلها:
إذا كانت المعصية تتعلق بحقوق الآدميين، وجب عليك أن ترد الحقوق إلى أهلها، ففي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضٍ أو شيءٍ، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أُخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه)) [21].

(6) أن تكون التوبة في زمن قبولها:
وهو ما قبل حضور الأجل وطلوع الشمس من مغربها، وذلك يدعونا إلى الاستعداد وأخذ الأُهبة، فالموت لا يستأذن على أحد، والآجال محدودة والأعمار معدودة والأيام دول.
فكل باك فسيُبكى، وكل ناعٍ فسيُنعى، وكل مخلوق سيَفنى، وكل مذكور سيُنسى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى.

قصة توبة:
عساها أن تكون ذكرى للمؤمنين وآية وعظة للعصاة والمذنبين، قصة مالك بن دينار، كان مالك بن دينار - كما يذكر أهل السير - يشرب الخمر، وكان صادًّا عن سبيل الله، نادًّا عن الله، شاء الله أن يتزوج بامرأة أحبها حبًّا عظيمًا، ورزقه الله منها بُنيةً جميلة، سكنت فؤاده وسيطرت على حياته، فإذا خرج أو دخل داعبها ومازَحها، وكانت إذا رأته يشرب الخمر، أتت إليه وكأنها تريد أن تعانقه، فأسقطت الخمر من يده، وكأنها تقول: يا أبتِ اتَّق الله!

وذات يوم رجع من عمله يسأل عن بُنَيَّته ليلعب معها، فإذا بها قد ماتت، تنغصَّت عليه حياته، وحزن حزنًا عظيمًا، وكعادته شرب الخمر طوال ليلته، ثم نام، قال: فرأيت فيما يرى النائم كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس قد خرجوا من قبورهم، فإذا بثعبان عظيم فاغر فاه، يَقصدني من بين هؤلاء الخلق جميعًا، ويأتي إليّ يريد أن يبتلعني، وأهرب منه ويُطاردني، وكاد قلبي أن ينخلع من بين أضلُعي، وإذا برجل حَسَنِ السمت وقور، فأسرعت نحوه، وقلت: بالله عليك أنقذني، فقال: لا أستطيع، اذهب إلى من ينقذك، فأقبل الثعبان يطاردني، وإذا بي على شفير جهنم، فبقي الثعبان من ورائي وجهنم من أمامي، فقلت: أرمي بنفسي في جهنم، فإذا بهاتف يهتف ويقول: ارجع فلست من أهلها، فرجعتُ لأدور في عرصات القيامة والثعبان من روائي يطاردني، فإذا بالشيخ الوقور، فقلت: بالله عليك أنقذني أو دُلني، فقال: أما إنقاذك فلا، ولكن أدلك على هذا القصر، فلك فيه وديعة، قال: انطلقت إلى القصر ولا يزال الثعبان يطاردني، وإذا بهذا القصر من زبرجد وياقوت، مكلل باللؤلؤ والجوهر، ففُتِح فإذا بأطفال مثل فلق الصبح، وإذا بابنتي ترمي نفسها بيني وبين الثعبان، وتنادي: أبتاه، ثم تصرف الثعبان بيُمناها، ثم تضرب على صدري وتقول: أبتاه: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16]، فقلت: بل آن، ثم قلت: ما هذا الثعبان؟ قالت: هذا عملك السيئ، قلت: وما هذا الشيخ الوقور؟ قالت: هذا عملك الصالح ضعَّفته حتى ما استطاع أن يقاوم عملك السيئ، قال: ثم ضربت على صدري ثانية وهي تقول: أبتاه: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16].

ففزِعت من نومي وأنا أقول: بل آن، بل آن، ثم توضأت وانطلقت إلى المسجد وإذا بالإمام يقرأ: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16].
فقلت: والله ما كأنه يعني إلا أنا [22]، فأصلحت علاقتي مع الله.
فالتوبة التوبةَ قبل أن تأتي من الله النوبة! الإنابةَ الإنابة قبل غلق باب الإجابة! الإفاقةَ الإفاقة قبل يوم الفاقة!


[1] رواه مسلم.

[2] رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.

[3] رواه الطبراني في الكبير، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع.

[4] أي: تخلَّفوا عن غزوة تبوك.

[5] مدارج السالكين.

[6] تفسير السعدي.

[7] شأن الدعاء؛ الخطابي.

[8] رواه مسلم.

[9] مدارج السالكين.

[10] رواه مسلم.

[11] معالم التنزيل؛ البغوي.

[12] رواه مسلم.

[13] مدارج السالكين.

[14] مدارج السالكين.

[15] جزء من أبيات منسوبة لسفيان الثوري.

[16] رواه الطبراني في الكبير والترمذي، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع.

[17] رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

[18] الآداب الشرعية لابن مفلح، وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب للسفاريني.

[19] رواه الشيخان.

[20] رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني.

[21] رواه البخاري.

[22] وحي القلم؛ مصطفى صادق الرافعي مطولة، وصاغها قصيرة هكذا الشيخ على القرني في خطبة له مكتوبة بعنوان: "كلنا ذو خطأ".



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.07 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.92%)]