كيف لا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف ويقول: ((لا ومقلِّب القلوب"؟! [9].
كيف لا ومُقلب القلوب جل جلاله يحول بين المرء وقلبه؛ كما قال عز من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].
قال ابن القيم: "القدير الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا، والبرَّ برًّا والفاجر فاجرًا، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومه أئمة يدعون إلى النار" [10].
5- قدرته تعالى على إهلاك المجرمين والانتقام من الظالمين:
ولا يَظنَّنَّ مجرم أو ظالم أن الله تعالى أهمله، إنما أمهله ليأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102])) [11].
وإهلاك الله المجرمين وانتقامه من الظالمين، أكثر من أن يُحصى، وحسبك قول الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44].
وكما أن الله تعالى قادر قدير مقتدر على إهلاك المجرمين الظالمين، فهو قادر مقتدر على نصر أوليائه وعباده الصالحين مهما كانوا قليلي العدد أو العدة أو مستضعفين؛ قال رب العالمين: ﴿ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 249]، وقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 20، 21].
6- إظهار قدرته في الآخرة:
وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم طرفًا من ذلك حين قال: ((يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرَضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) [12].
فهذه السماوات وهذه الأرضون على سَعتها وقوتها وعظمتها، وعجيب خلقها - يطويها القادر المقتدر بقدرته، يطويها بيده!
بل اعجَبْ حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف؛ صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم))، فقال رجل: يا رسول الله، كيف يمشون على وجوههم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي أمشاهم على أرجلهم في الدنيا، قادر على أن يُمشيهم على وجوههم يوم القيامة)) [13].
عجز الإنسان وضعفه:
مع ثبوت قدرة القادر المقتدر جل جلاله، يثبت عجز الإنسان وضَعفه، فقدرة الإنسان عطاءٌ من الله سبحانه قادرٌ أن يسلبه منه متى شاء، وقدرة الإنسان محدودة تتناول بعض الجوانب دون بعض، وتكون في بعض الأوقات دون بعض، وقدرة الإنسان مصيرها إلى انهيار، وذلك بالحوادث والأمراض، وإلا فبالهرم وسوء الكِبر، وقدرة الإنسان لا تتم ولا تقوم إلا إذا استعان بمن حوله من أسباب وأعوان وخبراء، فمثلًا: يُكمل الإنسان ضعف بصره بالميكرسكوب، ويُكمل قِصَر بصره بالتليسكوب، ويكمل بُطء سيره بالمركبة أو القطار أو الطائرة، ويكمل ضعف يده (بالمِفك والبنسة)، لكنَّ قدرة الله تعالى تامة وافية كاملة، لا يحدها حد، ولا تحتاج إلى مقدمات أو أسباب أو أعوان أو خبراء؛ سبحانه القائل: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
حق القادر جل جلاله:
1- صدق التوكل عليه ودوام الالتجاء إليه:
من عرف القادر المقتدر جل جلاله، لا يتوكل إلا عليه ولا يعتصم بأحد سواه، ولا يمتنع إلا به، ولا يُفوِّض أموره إلا إليه؛ لأن مقاليد الأمور كلها بيده، فلا يعجزه شيء ولا يستعصي عليه شيء، ويلفت القرآن الكريم أنظارنا في أثناء قصة موسى عليه السلام مع فرعون - عليه اللعنة - أن مَن ركن إلى القادر المقتدر وتعلَّق به، فكل الخلائق أضعف وأقل من أن يُحدثوا به أذًى أو مكروهًا، فأمام إصرار فرعون وتبجُّحه وسخريته من موسى ودعوته وقوله: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26] - كيف تصرَّف موسى في هذه اللحظة؟ ماذا قال؟ تعلق بالقادر المقتدر وركن إلى القوي المتين: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27].
وقد فصَّل لنا ربنا في كتابه القول ليعرِّفنا بقدرته؛ حتى يستقر هذا في قلوبنا، فتخضع له سبحانه القلوب وتتوجه إليه الوجوه، انظر إلى الحشد الهائل الذي ساقه الله تعالى في كتابه مدللًا به على قدرته واقتداره ووحدانيته: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ** وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ** وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴾ [النجم: 42 - 55].
وقال الله تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 24 - 32].
وتلك هي العقيدة الصحيحة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على غرسها في نفوس الصغار قبل الكبار.
عن ابن عباس قال: "كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال لي: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف)) [14].
2- أن يظل العبد على حذر من قدرة الله عز وجل:
فلا يسترسل في المعاصي ولا ينقاد لشهوته؛ لأن عين القادر المقتدر لا تنام، وأعمال العبد تُحصى عليه، ثم يحاسب عليها في الدنيا والآخرة، فمن عرف أن مولاه قادر ومقتدر، خشي عقوبته وحَذَرَ بطشه، وابتعد عن ارتكاب مخالفته، ومن تجرأ على حدود الله، فلا يلومنَّ إلا نفسه.
3- الابتعاد عن الظلم بشتى صوره:
وخاصة ظلم العباد في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ لأن الإيمان بقدرة الله تعالى وانتقامه للمظلومين من الظالمين، يجعل العبد يرتدع عن الظلم والعدوان [15].
أحيانًا ترى الإنسان يتطاول ويطغى ويتعدى، وكأن الله غير موجود، مع أن الله جل جلاله يقول: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج: 12].
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي، فسمعت من خلفي صوتًا: ((اعلم أبا مسعود، للهُ أقدرُ عليك منك عليه))، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أما لو لم تفعل للفحتْك النارُ)) [16].
يتبع